الفصل السادس: كيف بدأت الحياة؟
في لغز بداية الحياة نقطة يجب أن يقف العلماء أمامها لنقص الحُجَجْ.

أجل هناك قرائن كثيرة يمكن إقرارها علميًّا.

غير أنَّ بداية الحياة بلغت من العجب، والنتائج المُترتبة عليها بلغت من التشعُّب، بحيث أنَّ أكثر العلماء البيولوجيين علماً لابد أنْ تتملّكه الدَّهشة.

فهو بوصفه عالماً، لا يستطيع أنْ يؤمنَ بالمُعجزاتِ، ولكن بوصفهِ إنساناً ذكيًّا يَجِدُ -نتيجةً لبحثه وبُحوث غيره- أنَّ مُعظم الكائنات الحيَّة الآن تتطوَّر من خليَّة ميكروسكوبيَّة فريدة، على إثر خُروجها من طُور الحياة تحت الميكروسكوب واقترابها من طُور السَّدفة الذَّريَّة ويبدو أنَّ تلك الخليَّة قد وُهِبَتْ القُدْرَةَ على التَّكاثر، ومُوَاءَمَةِ نفسها على أشكالٍ عديدةٍ من الحياة، وأنَّها أُعِدَّتْ لكي تعيشَ في كُلِّ رُكْنٍ وَشَقٍ على ظهر الأرض.

والعِلْمُ يُقِرُّ بأنَّ الواقع لا يمكن أنْ يكون إلا كذلك.

ويعتقد البعضُ أنَّ هذا مُصَادَفَة من المواد الكيمويَّة والماء والوقت.

ويرى البعضُ الآخر النظام مائلاً في كل جانبٍ فسيح من الحياة إذ تمضي قُدُماً من منبعها إلى هدفها، سواءً أكانت ستُصبحُ حيواناً رخواً أم إنساناً - دون أنْ تَعْبُرَ الفَجْوَةَ مَرَّةً أخرَى.

والآن لِنُعَالِجَ الموضوع بشُعُورٍ من الإجلال، لا تَحُدُّهُ الحُدُودُ الدَّقيقة التي تفرضُها العَقَائِدَ الدِّينِيَّة، أو الحقائق العلميَّة بشأن سَبَبِ الحياة ومَصْدَرِهَا، ولِنُصَوِّرَ لأنفُسِنَا الوقائع المُعتَرَفِ بها.

وبذا يُمكننا أن نَحْكُمَ، وأمامنا الموضوع كاملاً.

وبهذه الطريقة يُمكنُنا أنْ نعلم إنْ كُنْتُ أنَا أو أنتَ مُجرَّد مجموعة عريضة من المَادَّة، تَوَلّدَتْ عن الكيمويَّات والماء والوقت، أو لا.

أنظر إلى الشَّيْءِ الهام الوحيد.. إنَّهُ أهم من الأرض نفسها ومن الكَوْنِ كُلِّهِ.. وأهم من كُلِّ شَيْءٍ آخَرَ، ما عدا الخالق المُدَبِّرُ الذي كان السَّبَبُ في وجُودِ ذلك الشَّيْءِ: وأعني تلك النقطة من النقطة (البروتوبلازم) (1).
---------------------------------------
(1) - البروتوبلازم Protoplasm
هي المَادَّة الزلاليَّة الحيَّة التي تتكوَّن منها خلية الاجسام النباتيَّة والحيوانيَّة، وقد رأينا أنْ نُترجمها بكلمة (النُّطفَة).
(المُتَرْجِمْ).
---------------------------------------

التي لا تكاد تُرى، وهي شفَّافة لزجة (كالجيلاتين)، قادرة على الحركة، تستمِدُّ نشاطها من الشَّمس.

وهي بالفعل كُفْءٌ لاستخدام ضُوء الشَّمس في عزل ثاني أوكسيد الكربون من الهواء، مُرْغِمَة الذَّرَّاتِ على الانفصال، قابضةً على الهيدروجين من الماء، ومُنتجةً لهيدرونات الكربون، وبذا تُعِدُّ غِذَاءَهَا بنفسها من أحَدِ المُرَكَبَّاتِ الكيمويَّة العنيدة للغاية.

إنَّ هذه الحلبة الفريدة، هذه النُّقطة الصَّغيرة الشَّفافة التي تُشبه الطَّل، تحتوي في نفسها على جُرثُومَةِ الحياة، وبها القُدْرَةُ على توزيع هذه الحياة على كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ كبيراً كانَ أو صغيراً، وعلى مُطابقة كل مخلوق لبيئته حيثُما يُمكن وجُود الحياة، من قاع المُحيط إلى السَّماء.

وقد صَاغَ الزَّمَنُ والبيئةَ شكل كُلِّ كائنٍ حَيٍّ بحيث يَتَّفِقُ مع أنواع الظروف المُتعَدِّدَة.

وعندما تُكَوِّنُ هذه الكائناتِ الحيَّةِ شخصيتها الفَرديَّة، فإنَّها تكونُ قد ضَحَّتْ ببعض مُرونتها وقابليتها للتَّغَيُّر، وأصبحت مُخَصَّصَة وثابتة، وقد فقدت القُدرَة على العودة إلى الوراء ولكنها كَسَبَتْ مزيداً من المُوَاءَمَةِ مع الظروفِ التي وجِدَتْ فيها.

إنَّ قوى هذه النقطة الصغيرة من النقطة (البروتوبلازم) ومحتوياتها، كانت ولا تزالُ أعظمُ من الزَّرع الذي تَخْضَرُّ به الأرض، وأعظمُ من كُلِّ الحيوانات التي تتنسَّمُ نسيمَ الحياةِ لأنَّهَا مصدر كُلَّ حياة، وبدُونِهَا كان لا يُمكن وجُودُ شَيْءٍ حَيٍّ.

والعِلْمُ يوافقُ على كُلِّ ما ذكرنا خُطوةً خُطوةً، ولكنَّهُ يتردَّد في أنْ يتَّخِذَ خُطوةً أخيرةً، ويقول أنَّ الإنسانَ، خَطَرَ على هذه الأرضِ بوصفهِ طِفْلاً لمنبع الحياة الكَوْنِيِّ، سَيْدَاً بين الحيوانات، وذا تكوينٍ مَادِّيٍّ مُعَقَّدِ التَّركيب للغاية، وصَاحِبُ عَقْلٍ أعِدَّ عَنْ قَصْدٍ ليتلقَّى لَمْحَةٍ مِنَ القُدرَةِ الإلهيَّة التي نُسَمِّيهَا بالرُّوحِ.

وينبغي لنا أن نبدأ بالأرض كلها على أنها صحراء، وليس ثمَّة من مَوَادٍ غير ما تُرِكَ حين بردت الأرض.

وقد ارتفعت الأرض من المُحيطات، وحدث في الصخور تآكل لا يمكن وصفه فمزَّقهَا إِرْبَاً، وكَوَّنَ كثيراً من الصُّخُور الثانوية والغرين والطّحل.

ولم يوجد سوى المواد غير العضويَّة في تركيباتٍ كالبازلت والجرانيت وتلك الصُّخور الأخرى الناريَّة والمُتحوِّلة، والغرين الذي سبق رواسب الوجُود الحيواني، أمَّا الرَّواسِبِ مثل حجر الكلس والمرجان والطباشير والحجر الصَّوَّان، فإنَّها لم تكن موجودة.

وليس لدينا سوى مواد قليلة لنُعالجها، فلدينا الماء، وربما كان على درجة من الحرارة شديدة الثَّبات.

إنَّ لُغز ظهور الحياة على الأرض قد يُحَلُّ وقد لا يُحَلُّ بحدوثه الذَّاتي.

وقد افترض البعض أنَّ الحياة قد جاءت من بعض الكواكب في شكل جُرثُومَةٍ انسلّت دون أنْ يُصِيبَهَا تَلَفٌ، وبعد أنْ بقيت زماناً غير محدودٍ في الفضاء، استقرَّت على الأرض، ولكن كان من العسير على تلك الجُرثُومَةِ أنْ تبقى حيَّةً في درجة حرارة الصِّفر المُطلق في الفضاء، وإذا استطاعت البَقاءَ رغم ذلك فإنَّ الإشعَاعَ الكثيف للمَوجَةِ القصيرةِ كان يقتُلها.

فإن كانت قد بقيَت حيَّةً رغم ذلك فلابد أنَّها وجدت لنفسها المكان المُلائم، وربما كان المُحيط، حيث أدَّى اتفاقٌ مُدْهِشٌ في الظروف إلى تَوَالُدِهَا وبداية الحياة على الأرض.

وفضلاً عن ذلك يعود بنا هذا الفرض خُطوَةً أخرى فيما نحنُ بصدده، لأنَّنا يُمكننا أنْ نسألَ: (وكيف بدأت الحياةُ على أي كوكبٍ مِنَ الكواكب؟).

إنَّ المُتَّفَقَ عليه عُمُومَاً هو أنَّهُ لا البيئة وحدها، ولا المَادَّةُ مهما كانت مُوائِمَة للحياة، ولا أي اتفاق في الظروف الكيمويَّة والطبيعيَّة قد تخلقه المُصادفة، يُمكنها أنْ تأتي بالحياةِ إلى الوجود.

وبصرفِ النَّظر عن مسألة أصلِ الحياة التي هي بالطّبع من الألغاز العلميَّة، قد افترض أنَّ هنَّةً ضئيلة من الحياة، بلغت من الضآلةِ أنَّهَا لا تُرَى أو تُلْمَحَ بالميكروسكوب، قد أضافت إليها ذرَّات، وقبلت توازنها الوثيق، فانقسمت، وكرَّرَتْ الأجزاء المُنفصلة هذه الدورة، وبذا اتَّخذت أشكال الحياة.. ولكن لم يزعُم أحَدٌ أنَّها اتَّخذت الحياةَ نفسها!

إنَّ الأميبا هي مخلوقٌ ميكروسكوبي حَيٌّ على درجةٍ كبيرةٍ من التَّطُّور، وهو مُكَوَّنٌ من ملايين لا حصر لها من الذَّرَّات في تنظيمٍ مُرَتَّبٍ.

و (الأميبات) هي مخلوقات ذوات خليَّةٍ واحدةٍ، قد لا يزيد قُطرُهَا على جُزْءٍ مِنْ مِئَةٍ مِنَ البُوصَة، وتوجد في جميع مياه العالم.

والأميبا تشعر بالجُوع، وتبحثُ عَنْ غِذَائِهَا عن قَصْدٍ وَعَمْدٍ.

وأية درجةٍ من كِبَرِ الحجم يجب أنْ يبلُغُهَا الحيوان حتَّى نعترف بأنَّ لهُ رَغَبَاتٍ وعَزِيمَةٍ؟

ولكن الحجم هو لا شيء في حُسْبَانِ اللانهائيَّة، لأنَّ الذَّرَّةَ لا تَقِلُّ كمالاً عن نظام المجموعة الشمسيَّة.

وإذا اتخذنا الأميبا مثلاً للأيضاًح -دون أنْ نزعُم أنَّ هذا المخلوق الحي ذا الخلية الواحدة هو المنبع الاصلي للحياة- فإنَّهُ يمكن القول بان مخلوقاً ما نطفياً (بروتوبلازميا) حياً، بعد أن ضاعف تكوينه الداخلي، قد انقسم وصار اثنين، ثم انقسم الاثنان وصارا أربعة، وهكذا إلى غير حَدٍ، كما تفعل الخلايا الآن في كل مخلوق حي.

فكل خلية تحتوي في نفسها، في تقسيمها الباكر، القدرة على انتاج فرد كامل.

والخلايا نفسها باقية إلا إذا وقع لها حادث أو صادفها تغيُّر في الظروف لا قِبَلِ لها به.

وهي تُكَوِّنُ الخلايا البسيطة في جميع المخلوقات، من حيوانات أو نباتات في الوقت الحاضر، وبذا تكون صوراً طبق الأصل من أسلافها.

ونحن بوصفنا كائنات بشرية، إنما منتظمة من بلايين فوق بلايين من أمثال تلك الخلايا، وكل خليَّة هي مواطن يؤدي نصيبه الكامل من الخدمة الخالصة في ذكاء.

وهذا يختلف اختلافاً بيِّناً عن الجزئية المادية العاطلة من الحياة (1)
---------------------------------------
(1) - قال الله تعإلى في كتابه الكريم: (سورة المؤمنون):
(ولقد خلقنا الإنسان من سُلالةٍ من طين، ثم جعلناهُ نُطفة في قرار مَكِين * ثم خلقنا النُّطفة عَلَقَة فخلقنا العَلَقَة مُضغة فخلقنا المُضغة عِظَامًا فكسونا العظام لحمًا ثم انشأناه خلقًا آخرَ، فتباركَ اللهُ أحسَنُ الخَالِقِينَ).
(المُتَرْجِمْ).
---------------------------------------

ولكن في الاستطاعة أنْ نُشير إلى شيءٍ حدث منذ زمن بعيد، عند بدء الحياة على الأرض، وكان له شأنٌ عظيمٌ، ذلك أنَّ خليَّة واحدة قد نَمَتْ عندها القُدرة المُدهشة على استخدام ضوء الشمس في حَلِّ مُرَكَّبٍ كيموي، واصطناع غذاءٍ لها ولأخواتها من الخلايا.

ولابد أنَّ لذات أخريات لخليَّة أصيلة أخرى قد عاشت على الغذاء الذي انتجته الخليَّة الأولى، وأصبحت حيواناً، في حين صارت الخليَّة الأولى نباتاً، والنباتات التي هي نسل هذه الخلية هي التي تُغذِّى جميع الكائنات الحيَّة الآن، فهل يُمكننا أنْ نعتقد أنَّ كَوْنَ خليَّةٍ قد أصبحت حيواناً، وأخرى قد أصبحت نباتاً، إنما حدث بطريق المُصادفة (1)؟

إنَّ التوازن العجيب بين الزَّرع وحياة الحيوان إنَّما استقر بهذا التقسيم.

وإذا عُدْنَا إلى قِصَّة ثاني أوكسيد الكربون، وجدنا أن هذا التقسيم هو أساسي إطلاقاً بوصفه إحدى ضروريات الحياة نفسها.

ولو كانت الحياة كلها حيوانيَّة، لكانت الآن قد استنفدت الأوكسيجين، ولو كانت الحياة كلها نباتيَّة، كانت قد استهلكت كل ثاني أوكسيد الكربون.

وفي كلتا الحالتين كانت تنتهي هذه الحياة وتلك.
---------------------------------------
(1)    - قال  الله تعإلى في كتابه الكريم: (سورة الرعد):
(2)    (اللهُ الذي رفعَ السَّموات بغير عَمَدٍ تَرونها ثم استوى على العرش وسخَّر الشَّمس والقمر كُلٌ يجري لأجلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الأمرَ يُفَصِّلُ الآيات لعلكم بلقاء ربكم تُوقنون * وهو الذي مَدَّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارًا ومن كل الثَّمرات جعل فيها زوجين اثنين يُنشيْءُ الليل في النهار إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون * وفي الأرض قِطَعٌ مُتجاوراتٌ وجناتٌ من أعنابٍ وزرع ونخيل صِنوان وغير صِنوان يُسقى بماءٍ واحِدٍ ونُفضِّلُ بعضها على بعضٍ في الأُكُلِ إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلونَ).
(المُتَرْجِمْ).
---------------------------------------

وكما ذكرنا من قبل، من المفروض أنَّهُ في التاريخ الباكر جداً للكرة الأرضيَّة لم يكن بالهواء أوكسيجين مُطلقاً، إذ كان كل الأوكسجين مخزوناً في قشرة الأرض وفي الماء وثاني أوكسيد الكربون.

فإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ كل الأوكسجين الذي لدينا الآن، قد جاء من الزَّرع.

وقد ثبت ذلك بشكل مقبول، لأن النباتات تستعمل ثاني أوكسيد الكربون، وتُطلق الأوكسيجين.

ولكن إذا كان هذا كله صحيحاً، فإن الحيوانات، التي لا غِنَى لها عن الأوكسجين لكي تعيش، لابد قد جاءت إلى الوجود بعد زمن طويل من تطور النباتات في البحر والأرض، فهل كان ظهور الحياة على دفعتين؟

سنترك ذلك للمُستقبل لِيُقَرِّرَهُ.

ومن عجبٍ أنَّه في كلتا الحياتين الحيوانيَّة والنباتيَّة، منذ ظهور الكائنات البروتوبلازمية الأولى، قد تطوَّر الذَّكر والأنثى بشكل جعل كل نوع يستمر بالاتحاد المُتكرِّر مع الاحتفاظ بمُميزاته العامَّة.

وليس هذا مجال البحث في تفاصيل الاضطرابات والنتائج الطبيعية والكيموية التي أدَّتْ إلى التوزيع.

ويكفي أنْ نجعل الأمر مفهوماً لأولئك الذين ليس لهم معرفة خاصة بالعُلوم.

ويمكن إيضاًح الأمر على الوجه الآتي:
الظاهر أنَّ مجموعات الخلايا كانت أدنى إلى البقاء حيَّة حين كانت على صلات وثيقة معاً، وبذا بدأت تتَّحِدُ، ثنائية ورباعية ومئوية وألفية ثم مليونية، ثم دُعِيَتْ كل خلية لأن تؤدي مُهمَّة وكِلَتْ إليها.

وتدريجاً، مع تكليفها تلك المَهام المُختلفة أصبح في حيِّز الإمكان أنْ يقوم المجموع بوجوه جديدة من النشاط، ففي الحيوانات، صار الحمل، (وهو عبارة عن تركيبات صغيرة تشبه ال CILIA).

وصارت الزوائد والأقدام الكاذبة، تساعد على جمع الطعام الذي تنشط خلايا أخرى في هضمه.

وبعض الأجزاء كانت مُكَوَّنَة من عِدَّةِ خلايا.

فهناك مجموعة منها صنعت غطاءً وقائياً كثيفاً، كقشر الشجرة، وأخرى كانت مشغولة بنقل الغذاء من مكان إلى آخر في المخلوق الحي.

وأخيراً نجدها مشغولة بتكوين الخشب في الجذوع، أو بتكوين العظام أو الأصداف لتدعم جرمها المجتمع النَّامي، وبعض الأصداف وضعت في الخارج، مثل أصداف اللزيق (سمك صدفي).

وهذه الحيوانات الرَّخوة من النوع الذي يُغلق على نفسه.

وبعض العظام قد كُوِنَتْ بالداخل، فالإنسان يحتاج إلى سلسلة فقرية.

وجميع الأشياء التي تعيش تبدأ من خلية بسيطة وهذه الخلية تُرْغِمُ كل نسلها على أن يؤدي الخدمات وأن يتبع دون انحراف تصميم المخلوق الذي كان على الخلية الأصلية مضاعفته، سواءً أكان سلحفاةً أم أرنباً.

وقد يمكن السؤال عمَّا إذا كان للخلايا فهمٌ وإدراكٌ أم لا:
وسواءٌ اعتقدنا أن الطبيعة قد زوَّدت الخلايا بالغريزة -مهما تكن هذه- أو بقوة التفكير، أم لم نعتقد ذلك، فلا مناص لنا من الاعتراف بأنَّ الخلايا تُرْغَمُ على تغيير شكلها وطبيعتها كلها لكي تتمشَّى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه.

وكل خليَّة تنتج في أي مخلوق حي يجب ان تُكيِّفَ نفسها لتكون جُزءاً من اللحم، أو أن تُضَحِّي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى.

وعليها أن تضع ميناء الأسنان وأن تنتج السَّائل الشَّفاف في العين، أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن.

ثم على كل خليَّة ان تُكَيِّفَ نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتادية مُهمِّتها.

ومن العسير أن نتصوَّر أنَّ خليَّة ما هي ذات يَدٍ يُمنى أو يُسرى، ولكن إحدى الخلايا تُصبحُ جُزءاً من الأذن اليُمنى، بينما الأخرى تُصبحُ جزءاً من الأذن اليُسرى.

إن بعض البلورات المتشابهة كيموياً تحوَّل أشعَّة الشَّمس نحو اليمين وبعضها الآخر نحو الشمال.

ويبدو أنَّ مثل هذا الميل موجود في الخلايا.

ومتى وجِدَتْ في المكان الصحيح الذي تخصُّه.

فإنَّها تُصبحُ جزءاً من الأذن اليُمنى أو الأذن اليُسرى.

وأذناك تُواِجُه إحداهما الأخرى في رأسك، وليستا في كوعيك كما هما عند الصرصور..

وتقوساتهما متضادة، وحين تكمل تكون الأذنان متماثلتين إلى حَدٍ يعصبُ عليك عنده أن تُمَيِّزَ بينهما.

إن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لأن تفعل الشيءَ الصَّواب في الوقت الصَّواب وفي المكان الصَّواب، والحق أنَّها طائعة والحياة تدفع إلى الأمام، بانية، مصلحة متوسِّعة، وخالقة ما هو حديث وما هو أفضل، بنشاطٍ لا يفتُر ولا مثيل له في الأشياء الجامدة.

فهل هذا ناشئٌ عن إدراك؟

أم عن غريزة؟

أم أنَّهُ أمْرٌ يحدث فحسب؟

يمكنك أن تُجيبَ عن ذلك بنفسك.

بيد أنَّك قد تقول الآن أنَّ كل ما ورد بهذا الفصل لا يُفَسِّرُ لنا كيف بدأت الحياة، أي كيف جاءت إلى هذه الأرض؟.

والكاتبُ لا يعرف كيف، ولكنه يؤمنُ بأنَّها جاءت كتعبير عن القوة الإلهيَّة، وبأنَّها ليست ماديَّة.