الباب الرابع والخمسون: في ذِكْرِ الهدايا والتُّحَفِ وما أشبه ذلك

قال الله تعالى: (وَإِذَا حُيْيِّتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أوْ رُدُّوهَا)، فسَّرَهَا بعضهم بالهدية.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا فإنها تجلب المحبة وتذهب الشحناء"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الهدية مشتركة"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سألكم بالله فأعطوه ومَنْ استعاذكم فأعيذوه ومَنْ أهدى إليكم كراعاً فاقبلوه"، وكان يقبل الهدية ويُثِيبُ عليها ما هو خَيْرٌ منها.

وفي الأثر:
الهدية تجلب المودة إلى القلب والسمع والبصر.

ومن الأمثال:
إذا قدمت من سفر فأهد أهلك ولو حجراً".

وقال الفضل بن سهل:
ما استُرضيَ الغضبانُ ولا استُعطِفَ السُّلطانُ ولا سُلِبَتْ السَّخائم ولا دُفِعَتْ المغارم ولا استُمِيلَ المحبوب ولا تُوُّقِيَ المحذور بمثل الهدية.

وأتى فتح الموصلي بهدية وهي خمسون ديناراً فقال:
حدثنا عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ أتاه الله رزقاً من غير مسألةٍ ورَدَّهُ فكأنَمَا رَدَّهُ على الله تعالى".

وأهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدية إلى عمر فرَدَّهَا فقال: "يا عمر لِمَ رددت هديتي؟ فقال رضي الله تعالى عنه: إني سمعتك تقول: "خيرُكُمْ مَنْ لم يقبل شيئاً من الناس، فقال: :يا عمر إنَّما ذاك ما كان عن ظهر مسألةٍ فإمَّا إذا أتاك من غير مسألةٍ فإنَّما هو رِزْقٌ ساقهُ اللهُ إليك".

وقالت أم حكيم الخزاعية:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تهادوا فإنه يضاعف الحب ويذهب بغوائل الصدور".

ويقال:
في نشر المُهاداة طي المُعاداة

ذِكْر أنواع الهدايا للخلفاء وغيرهم مِمَّنْ قصرت به قدرته فأهدى اليسير وكتب معه مُكاتبة يعتذرُ بها:
أهدي إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ثمانية أشياء متباينة في يوم واحد، فيلة من ملك الهند وجارية من ملك الترك وفرس من ملك العرب وجوهر من ملك الصين واستبرق من ملك الروم ودرة من ملك البحر وجرادة من ملك النمل وذرة من ملك البعوض، فتأمَّلَ ذلك وقال: سبحان القادر على جمع الأضداد.

وأهدى ملك الروم إلى المأمون هدية، فقال المأمون:
أهدوا له ما يكون ضعفها مائة مرة ليعلم عِزَّ الإسلامَ ونِعْمَةُ اللهِ تعالى علينا، ففعلوا ذلك، فلَمَّا عزموا على حملها، قال: ما أعَزُّ الأشياء عندهم؟ قالوا: المِسْك والسَّمور، وقال: وكم في الهدية من ذلك؟ قالوا مائتا رطل مِسْكَاً ومائتا فروة سمُّور.

وأهدت قطر الندى إلى المعتضد بالله في يوم نيروز في سنة اثنتين وثمانين ومائتين هدية كان فيها عشرون صينية ذهب في عشرة منها مشام عنبر وزنها أربعة وثمانون رطلاً وعشرون صينية فضة في عشرة منها مشام صندل زنتها نيف وثلاثون رطلاً وخمس خلع وشى قيمتها خمسة آلاف دينار وعلمت شمامات ليوم النيروز بلغت النفقة عليها ثلاثة عشر ألف دينار.

وأهدى يعقوب بن الليث الصفار إلى المعتمد على الله هدية في بعض السنين من جملتها عشرة بازات منها باز أبلق لم ير مثله ومائة مهر وعشرون صندوقاً على عشر بِغَالٍ فيهم طرائف الصين وغرائبه ومسجد فضة بدرابزين يُصلِّي فيه خمسة عشر إنساناً ومائة رطل من مِسْكٍ ومائة رطل عُودٍ هندي وأربعة آلاف ألف درهم.

وأهدت ثريا بنت الأوباري ملكة افرنجة وما والاها إلى المكتفي بالله في سنة ثلاث وسبعين ومائتين خمسين سيفاً وخمسين رُمحاً وعشرين ثوباً منسوجاً بالذهب وعشرين خادماً صقلبياً وعشرين جارية صقلبية وعشرة كلاب كبار لا تطيقها السِّبَاع وستة بازات وسبع صقور ومضرب حرير متلوِّن بجميع الألوان كلون قوس قزح يتلوَّن في كل ساعة من ساعات النهار وثلاثة أطيار من الأطيار الافرنجية إذا نظرت إلى الطعام أو الشراب المسموم صاحت صياحاً مُنكراً وصفقت بأجنحتها حتى يعلم ذلك وخرزاً يجذب النصول بعد نبات اللحم عليها بغير وجع وحمارة وحشية عظيمة الخِلْقَةِ في قدر البغل وآذانها شبه آذان البغل وهي مُخططة تخطيطاً عامَّاً لجميع خِلْقَتِهَا.

وأهدى قسطنطين ملك الروم إلى المستنصر بالله في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة هدية عظيمة اشتملت قيمتها على ثلاثين قنطار من الذهب الأحمر كل قنطار منها عشرة آلاف دينار عربية قيمة ذلك ثلاثمائة ألف دينار عربية.

وحُكِيَ أن الخيزران جارية المهدي كانت أديبة شاعرة فعزم المهدي على شُرْبِ دواءٍ فأنفذت إليه جام بلور فيه شراب اختارته له مع وصيفة بكر بارعة الجمال وكتبت إليه تقول:
(إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء)
(وأصلح حاله من بعد شرب ... بهذا الجام من هذا الطلاء)
(فينعم للتي قد أنفذته ... إليه بزورة بعد العشاء)

فسُرَّ بذلك ووقعت الجارية منه أعظم موقع وزار الخيزران وأقام عندها يومين.

وأهدى الصابي إلى عضد الدولة اسطرلاباً في يوم المهرجان وكتب إليه يقول:
(أهدى إليك بنو الأملاك واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت تبليه)
(لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... سمو قدرك عن شيء يدانيه)
(لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه)

وأهدى رجل إلى المتوكل قارورة ذهب وكتب معها:
بأن الهدية إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلَّت كانت أوقع وأنفع.

وأهدى مرة أبو الهذيل إلى موسى بن عمران دجاجة ووصفها له بصفات جليلة ثم لم يزل يذكرها وكلما ذكر شيء بجمال أو سمن قال هو أحسن أو أسمن من الدجاجة التي أهديتها إليكم وإن ذكر حادث قال ذلك قبل أن أهدي لكم الدجاجة بشهر وما كان بين ذلك وبين إهداء الدجاجة إلا أيام قلائل فصارت مثلاً لِمَنْ يستعظم الهدية ويذكرها.

قال الشاعر:
(وإن امرأ أهدى إليَّ صنيعة ... وذكرنيها مرة للئيم)

وقال سفيان الثوري:
إذا أردت أن تتزوَّج فأهد للأم وكان سفيان يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مَنْ أهديت إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها فأهدى إليه صديق له ثياباً من ثياب مصر وعنده قوم فذكروا الخبر فقال إنما ذلك فيما يُؤكل ويُشرب أما في ثياب مصر فلا.

وكتب الحمدوني إلى جارية اسمها برهان وقد حَجَّ مواليها فقال:
(حجوا مواليك يا برهان واعتمروا ... وقد أتتك الهدايا من مواليك)
(فأطرفيني بما قد أطرفوك به ... ولا تكن طرفتي غير المساويك)
(ولست أقبل إلا ما جلوت به ... ثنيتيك وما رددت في فيك)

وكتب بعضهم إلى صديقه وقد أهدى إليه هدية يسيرة يقول:
(تفضل بالقبول عليَّ إنِّي ... بعثت بما يقل العبد عندك)

وأهدى بعضهم إلى صديقه هدية في يوم نيروز وكتب إليه يقول:
هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسَّادة وقدر الأمير يجلُّ عمَّا تحيط به المقدرة وفي سؤدده ما يوجب التفضل ببسط المعذرة وقد وجهت ما حضر علماً بأنه لا يستكثر ما جل ولا يستقل لعبده ما قل فإن رأى أن يتطول بقبول القليل كتطوله باهداء الجزيل فعل وجعل يقول:
(رأيت كثير ما يهدى إليكم ... قليلاً فاقتصرت على الدُّعاء)

قيل للحسن بن عمارة أن الأعمش يقع فيه ويقول ظالم ولي المظالم فأهدى إليه هدية فمدحه الأعمش بعد ذلك وقال الحمد لله الذي ولي علينا مَنْ يعرف حقوقنا فقيل له كنت تذمُّه ثم الآن تمدحه فقال حدثني خيثمه عن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "جُبِلَتْ القلوبُ على حُبِّ مَنْ أحسنَ إليها وبُغض مَنْ أساءَ إليها".

وقال عبد الملك ابن مروان:
ثلاثة أشياء تَدُلُّ على عُقُولِ أربابها: الكتابُ يَدُلُّ على عقل كاتبه، والرسولُ يَدُلُّ على عقل مُرسله، والهديةُ تَدُلُّ على عقل مُهديها.

والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.