الباب الثاني والخمسون: في ذكر الفقر ومدحه
الباب الثاني والخمسون: في ذكر الفقر ومدحه  Untit405
قد دَلَّ قولُهُ تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) على ذَمِّ الغِنَى إن كان سَبَبَ الطُّغيَان.

وسُئِلَ ابو حنيفة رحمه الله تعالى عن الغنى والفقر فقال:
وهل طغى من طغى من خلق الله عز و جل الا بالغنى وتلا هذه الآية المتقدمة.

والمحققون يرون الغنى والفقر من قِبَلِ النَّفس لا في المال.

وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يرون الفقر فضيلة.

وحَدَّثَ الحسنُ رضي الله عنه:
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يدخل فقراء امتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاماً"، فقال جليس للحسن أمن الأغنياء أنا أو من الفقراء؟ فقال هل تغدَّيت اليوم؟ قال نعم، قال فهل عندك ما تتعشى به؟ قال: نعم، قال فإذاً أنت من الأغنياء.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبيت طاوياً ليالي ما له ولا لأهله عشاء وكان عامة طعامه الشعير وكان تعصب الحجر على بطنه من الجوع وكان يأكل خبز الشعير غير منخول هذا وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها صلوات الله وسلامه عليه وكان يقول: (اللهم توفَّنِي فقيراً ولا تتوفني غنياً واحشرني في زُمرة المساكين).

وقال جابر رضي الله تعالى عنه:
دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها وهي تطحن بالرَّحى وعليها كساء من وبر الإبل فبكي وقال: (تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة) قال الله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وقال: موهبة من مواهب الآخرة وهبها الله تعالى لمن اختاره ولا يختار الا أولياء الله تعالى).

وفي الخبر:
إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل لملائكته أدنوا اليَّ أحبائي فتقول الملائكة ومَنْ أحباؤك يا إله العالمين؟ فيقول: فقراء المؤمنين أحبائي فيدنونهم منه، فيقول: يا عبادي الصالحين إني ما زويت الدنيا عنكم لهوانكم عليَّ ولكن لكرامتكم تمتَّعُوا بالنظر إليَّ وتمتَّعوا ما شئتم، فيقولون وعزَّتك وجلالك لقد أحسنت إلينا بما زويت عنَّا منها ولقد أحسنت بما صرفت عنَّا، فيأمر بهم فيُكرمون ويُحبرون ويُزفُّون إلى أعلى مراتب الجنان.

وقال:
(هل تُنصرون الا بفُقرائكم وضُعفائكم والذي نفسي بيده ليدخلن فُقراء أمَّتِي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام والأغنياء يُحاسبون على زكاتهم).

وقال عليه الصلاة والسلام:
(رُبَّ أشعث أغبر ذِي طِمرين لا يُؤْبَهُ به لو أقسم على الله تعالي لأَبَرَّهُ، أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئاً.

وقال عليه الصلاة والسلام:
(إن أهل الجنَّة كُلَّ أشعث أغبر ذِي طِمرين لا يُؤبهُ به الذين اذا استأذنوا على الأمير لا يُؤذن لهم وإن خطبوا النساء لم يُنكحُوا وإذا قالوا لم يُنصت لهم حوائج أحدهم تتلجلج في صدره لو قُسِّمَ نُورُهُ على الناس يوم القيامة لوسعهم).

وروي عن خالد ين عبد العزيز أنه قال:
كان حيوة بن شُرَيح من البَكَّائِينَ وكان ضيِّقَ الحال جداً فجلستُ إليه ذات يوم وهو جالسٌ وحده يدعو، فقلت له: يرحمُك اللهُ لو دَعَوْتَ اللهَ تعالى ليُوسِعَ عليك في معيشتك؟ قال: فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فأخذ حصاةً من الأرض وقال: اللهم اجعلها ذهباً فإذا هي تبرة في كَفِّهِ ما رأيتُ أحسنَ منها، قال: فرَمَى بها إليَّ وقال: هو أعلمُ بما يُصلحُ عباده، فقلتُ ما أصنعُ بهذه؟ قال: أنفقها على عِيَالِكَ فهِبْتُهُ والله أن أرجعها عليه.

وقال عون بن عبد الله:
صَحِبْتُ الأغنياء فلم أجد فيهم أحداً أكثر مِنِّي هَمَّاً لأني كنتُ أرى ثياباً أحسن من ثيابي ودابة أحسن من دابَّتي ثم صَحِبْتُ الفقراء بعد ذلك فاسترحتُ.

قال بعضهم:
(وقد يهلك الإنسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاوس من أجل ريشه)

وقال عبد الله بن طاهر:
(ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ويأخذ ما أعطى ويُفسدُ ما أسدى)
(فمَنْ سَرَّهُ أن لا يرى ما يسُوءُهُ ... فلا يتَّخذ شيئاً ينال به فقدا)

وكان من دُعاء السَّلف رضي الله تعالى عنهم:
(اللهم اني أعوذ بك من ذُلِّ الفقر وبطر الغِنَي).

وقيل مكتوب على باب مدينة الرقة:
ويلٌ لِمَنْ جمع المال من غير حَقِّهِ وويلان لِمَنْ وَرَّثَهُ لِمَنْ لا يَحْمِدَهُ وقدم على من لا يعذره.

ولَمَّا فُتِحَتْ بلخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وُجِدَ على بابها صخرة مكتوبٌ فيها: إنما يتبيَّنُ الفقير من الغني بعد الانصراف من بين يدي الله تعالى.. أي بعد العَرْضْ.

قال الشاعر:
(ومَنْ يطلب الأعلى من العيش لم يزل ... حزيناً على الدُّنيا رهين غبونها)
(إذا شئت أن تحيا سعيداً فلا تكن ... على حالةٍ إلا رضيت بدونها)

وقال آخر:
(ولا ترهبنَّ الفقر ما عشت في غَدٍ ... لكل غَدٍ رزقٌ من اللهِ واردُ)

وقال هارون بن جعفر الطالبي:
(بوعدت هِمَّتِي وقورب مالي ... ففعالي مقصر عن مقالي)
(ما اكتسى الناسُ مثل ثوب اقتناع ... وهو من بين ما اكتسوا سربالي)
(ولقد تعلم الحوادثُ أنِّي ... ذو اصطبار على صروف الليالي)

وقال اعرابي:
مَنْ وُلِدَ في الفقر أبطره الغِنَى ومَنْ وُلِدَ في الغِنَى لم يزده إلا تواضعاً.

فما أحسنَ الفقر وأكثر ثوابه وأعظم أجر مَنْ رَضِيَ به وصَبَرَ عليه.
اللهم اجعلنا من الصابرين برحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.