الفصل الرابع: النتروجين: تنظيم مُزدَوَج
إنَّ كَوْنَ النتروجين غازاً جامداً -أو جامداً جُزئيّاً كأن يُمْكِنُ القولَ- هو أمرٌ ذُو أهميَّةٍ بَالِغَةٍ.

وهو يَعملُ كَمُخَفِّفٍ للأوكسيجين، ويَخفِضَهُ إلى النِّسبَةِ التِي تُلائِمُ الإنسانَ والحيوانَ.

وكما ذكرنا في حالة الأوكسيجين، لا يتوافر لنا من النتروجين ما يزيدُ على حاجتنا أو ما ينقص عنها.

وقد يمكن القول بأنَّ الإنسانَ قَدْ رَاضَ نَفْسَهُ على نِسْبَةِ الوَاحِدِ والعشرينَ في المائةِ من الأوكسجين المَوْجُودَةُ في الهواء، وهذا صحيح، ولكن كَوْنَ هذه الكميَّة المُلائِمَة له بالضَّبط من وجوهٍ جوهريةٍ أخْرَى، هُوَ أمْرٌ يسترعى الانتباه حقاً ولهذا فإنَّ مِمَّا يدعو إلى العَجَبِ، أنَّ النسبة المُحَدَّدَةُ للأوكسيجين ترجع إلى عاملين:

(أولاً) أنه لم يُمْتَص بالتَّمَام، وبذا يُصْبِحُ جُزْءَاً من قِشرَةِ الأرضِ أو مِنَ المُحِيطِ.

و (ثانياً) أنَّ الكميَّة التي تُرِكَتْ حُرَّةً هِيَ بالضَّبط الكمية التي تُخَفِّفُهَا جُملةُ مَقَادِير النتروجين على الوجه الأكمل، ولو أنَّ النتروجين تَوَافَرَ بمقادير أكثر أو أقلَّ مِمَّا هو عليه، لَمَا أمْكَنَ تطوُّر الإنسان كعهدنا به.

وأمَامَنَا هنا تنظيم مزدوج يلفت النظر: فإنَّ النتروجين، بوصفه غازاً جامداً، هو عديم النَّفع في الظاهر، وهذا يصحُّ من الوِجْهَةِ الكيموية على الحالة التي يُوجد عليها في الهواء وهو بالطبع يكون 78 في المائة من كل نسيم يَهُبُّ - وهو جزء من الهواء الوافي، وبدونه كانت تحدُثُ عِدَّةَ أمور خطيرة.

ولكن النتروجين من كلتا الوجهتين، ليس الآن حيوياً للإنسان والنَّبات مثل الأوكسيجين.

بِيدَ أنَّ هناك سلسلة من المواد الكيموية التي يجد النتروجين جزءاً منها، والتي يُمكن أنْ يُقال عنها بصفة عامة أنها نتروجين مُرَكَّب - أي النتروجين الذي يمكن أنْ تتلقاه النباتات، أو النتروجين الذي يتكوَّن منه العنصر النتروجيني في أغذيتنا التي بدونها يموت الإنسان جوعاً.

وليس هناك سوى طريقتين يدخل بهما النتروجين القابل للذَّوبان في الأرض كمُخَصِبٍ لها (سَمَاد).

وبدون النتروجين، في شكل ما، لا يُمكن أن ينمو أي نباتٍ من النَّباتات الغذائيَّة.

وإحدى الوسيلتين اللتين يدخل بهما النتروجين في التُّربَةِ الزِّراعيَّة هي عن طريق نشاط جراثيم (بكتريا) مُعَيَّنَة، تَسْكُنُ في جُذور النباتات البَقليَّة، مثل البرسيم والحُمُّص والبسلّة والفُول وكثير غيرها.

وهذه الجراثيم تأخذ نتروجين الهواء وتُحِيلُهُ إلى نتروجين مُرَكَّب.

وحين يموت النَّبات يبقى بعض هذا النتروجين المُرَكَّب في الأرض.

وهناك طريقة أخرى يدخل بها النتروجين إلى الأرض، وذلك عن طريق عواصف الرَّعد، وكُلّمَا وَمَضَ بَرْقٌ خلال الهواء وَحَدَّ بين قَدْرٍ قليل من الأوكسجين وبين النتروجين فيُسْقِطَهُ المطرُ إلى الأرض كنتروجين مُرَكَّب (1).

وقد كانت هاتان الطريقتان كلتاهما غير كافيتين، وهذا هو السَّبب في أنَّ الحُقُولَ التي طال زرعها قد فقدت ما بها من نتروجين.         

وهذا أيضاً هو الذي يدعو الزُّرَّاعَ إلى مُنَاوَبَةُ المحصُولات التي يزرعها.

وقد تنبَّأ (مالثوس) منذ زمن بعيد، بأنه مع تكاثر عدد سُكَّانِ الكُرَة الأرْضِيَّة، واستغلال الأرض في زرع المحصولات دون انقطاع، سوف يستنفد العناصر المُخَصِّبَة ولو كان حسابه بشأن تزايد عدد السكان صحيحاً، لوصلنا إلى درجة النُّدرَة في بداية القرن الحالي.

وهذا يَدُلُّنَا على أهميَّة الفضلة الدقيقة من النتروجين المَتْرُوكَة في الهواء، والبالغة الصِّغَر بالنسبة لضخامة الكُرَة الأرْضِيَّة.

فبدون النتروجين كان مآلُ الإنسان ومُعْظَم الحيوانات هو المَوْتُ.

ومِنْ عَجَبٍ أنَّهُ حين وضَحَ للنَّاس أنَّ المَوْتَ جُوعاً هو احتمال قد يقع في المُستقبل، وذلك في خلال الأربعين سَنَةً الأخيرة، اكْتُشِفَتْ طُرُقٌ أمْكَنَ بها إنتاج النتروجين المُرَكَّب من الهواء، وقد ثَبَتَ أخيراً أنَّ في الإمْكَانِ إنتاجُهُ بهذه الطريقة بكميَّاتٍ هائلة.

وهُنَا زَالَ ذَلِكَ الْخًوْفُ من حُدُوثِ مَجَاعَةٍ عَالَمِيَّةٍ.
---------------------------------------
(1) - قال اللهُ تعالى في كتابه الكريم: (سورة النَّحل):
(واللهُ أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).
(المُتَرْجِمْ)
---------------------------------------

ومِنَ الشَّائق أن نُلَاحِظَ أنَّ إحدَى المُحاولات لإنتاج النتروجين المُرَكَّبِ، كانت عبارة عن تقليد الطبيعة، في ظروفٍ مُلائِمَةٍ، فِي إنتاج عواصف كهربية مُصْطَنَعَة.

وقد استخدم نحو 000ر300 قوة حُصَانِيَّة لإحداث أنوار كهربية ساطعة في الهواء، ونتجت بالفعل فَضْلَةٌ من النتروجين المُرَكَّبِ، كما ثبت قبل ذلك بزمن طويل.

أمَّا الآن فإنَّ افتنان الإنسان قد قطع خُطُوَاتٍ أبْعَدَ.

وبعد مُضِيِّ عشرة آلاف سنة من وجوده التاريخي قد ارتقت الوسائل التي يُحَوَّلُ بها غازاً جامداً إلى مُخَصِّبٍ (سماد).

وهذا يمكنه من أنْ يُنتجَ عُنصُراً لازماً في الطعام، بدونه يموت الإنسانُ جُوعاً.

وما أعجبها مُصَادَفَة أنْ يَكْسِبَ الإنسانُ في هذا الوقت بالضبط من تاريخ الأرض، تلك المَقدِرَة على إبعَادِ شبح المَجَاعَةِ العالميَّة.

إنَّ النَّتائجَ الحلقية التي تَنْجُمُ عن الاضطرار إلى نقص عدد سُكَّانِ الأرض كي يبقى بعضهم على قيد الحياة، هي أفظع من أنْ يتصورها الإنسان.

وقد أمكن تَفَادِي هذه المَأسَاةِ في نفس اللحظة التي كان يُمْكِنُ تَوَقُّعُهَا فِيهَا!