تصدير بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري
مدير جامعة الأزهر
البحث عن الله والتَّعَرُّفِ إلى الخالق أمْرٌ شُغِلَتْ به الإنسانية منذ كان لها وجود في هذا العالم حتى لكأنَّما يدفعُها إليه شعورٌ خفيُّ دافقٌ، ويسُوقها نحوه سَائقٌ عنيفٌ من فطرةٍ كامنةٍ فيها.

فالإنسانُ بفطرته طلعة لا يقنع من الحياة بمظاهر أشكالها وألوانها كما تنقلها إليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ إليها ببصيرته ليعرف حقيقة كل شيء.. من أين جاء وكيف صار وإلَامَ ينتهي.

وهو في إشباع رغبته تلك لا يدَّخِرُ وُسْعَاً من ذكاءٍ أو جهدٍ حتى يبلغ من ذلك ما يطمئنُّ إليه عقله وتستريح به نفسه.

وكذلك كان شأن الإنسان في بحثه عن الله، الحقيقة الكبرى التي هي مصدر وجود هذا العالم وإليها مصائر أموره.. فلقد أكثر من التطلع إليها والبحث عنها حتى تفرَّقت به السُّبُل واختلفت فيها مذاهبه، إذ لا شك أنَّ هذه النظرات المُتطلعة إلى تلك الحقيقة الكبرى قد أخذت ولا تزال تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة متباينة، تختلف باختلاف الناس واستعدادهم الفكري وما يُحيط بهم من ظروف الحياة وأحوالها، فلكل وجهته التي هو مُوليها، ولكل مبلغه من الْعِلْم وحظه من التوفيق: فبينا يصل إليها بعضهم عن طريق النظر في ملكوت السموات والأرض على اختلاف في مجال هذا النظر عُمقاً وامتداداً، إذ يصل إليها بعضهم عن طريق العاطفة المُجَرَّدَةِ عن الإدراك، الواقعة تحت تأثير الوراثة أو السَّماع والتي لا تكاد تُلامسُ الفِكْرَ أو تُثيره.

وبين هؤلاء وهؤلاء طوائف وطوائف تقطع الطريق إلى تلك الحقيقة في مراحل متعددة تخلط بين العاطفة والفكر بنسب وأقدار متباينة.

ومن هنا نستطيع أن نقول أن لكل إنسان تصوراً خاصًّا لإلهه الذي يعبده والذي ينزل من نفسه المنزلة التي هداهُ إليها عقله أو قلبه، أحدهما أو كلاهما، وبالقدر الذي تكشَّف له من الحقيقة، وعلى الصورة التي تمثّلت في خاطره.

ولذا تعدَّدت الآلهة وتفرَّقت بالناس مذاهب الرأي فيها، فكان لكل أمَّةٍ رَبُّهَا، ولكل جماعة دينها: (وَلَوْ شَاءَ رَبَّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفيِنَ إلا مَنْ رَحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).

ولا نريد هنا أن نبحث في تاريخ الأديان بعيدها وقريبها، ولا أن نستقصي تعدُّد المعبودات والبواعث التي دعت إليها، والصور والأشكال التي ظهرت فيها، ولا أن نتحدث عن فكرة التوحيد أو التعدُّد فذلك ما لا سبيل إليه في هذا المقام، وإنما نريد أن نقول أن صورة الإله أو الآلهة التي عَبَدَهَا الناسُ منذ كانوا إنَّمَا كانت وليدة اقتناع وإيمان أيًّا كان حظهما من العُمق، ومداهُما من الصِّدق.

فعابدُ النار أو الحجر أو الحيوان أو الشمس أو القمر إنما عبد معبوداته تلك بعد أن ملكت عليه زمام نفسه، وأخذت بمجامع قلبه، وتمثلّت له قوة خارقة لا حد لها، إليها مصائر أمُوره، وعليها مدار ضُرِّهِ ونفعه، فآمن بها واستسلم لها ووجَّه إليها وجهه وقلبه وعقله.

وسواءٌ أكان هذا الإيمان مُنبعثاً من أعماق النفس أم ملتقى إليها من طريق الإيحاء والإغراء، فهو على أيَّةِ حال إيمان مَلَكَ النَّفس وخالط المشاعر، وبغير هذا لا يكون إيماناً ولا يُسَمَّى دِيناً، وإنه إذا لم يبلغ هذا الحد فستظل نفس الإنسان فارغة خواء، وسيظل الإنسان قلقاً مضطرباً حتى يقع على الإله الذي يسكن إليه قلبه ويطمئن به وجدانه.

وحين تصل العقول سبيلها إلى الخالق -وما أكثر ما تضل- وتنزل الإنسانية إلى هذا الدرك من التفكير والسخف من النظر فتتخذ من الأحجار أرباباً، ومن الحيوان آلهة تجثو تحت أقدامها تعبُدُها وتفني فيها، وتقدم لها النفس والولد على مذبح التضحية زلفى وقرباناً، حين تصل الإنسانية إلى هذا المدى من الإغراق في الضلال والسَّفه تجيء رسالة من السَّماء في إبانها لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور على يد رُسُلِ الله وانبيائه الكِرَام.

وأول دعوة تهتف بها الأديان السَّماوية في آذان الناس الدَّعوة إلى وحدانية الله وتحرير العقول والقلوب من الشِّرك به ورفع البصر إليه خالصاً من أوهام الزَّيغ والضَّلال، وبهذا تصح إنسانية الإنسان، ويرد إليه اعتباره، ويُصبح أهلاً ليكون خليفة الله في أرضه.

ومهما اختلفت طرق الأديان السَّماوية في أداء الدَّعوة إلى الله، وفي وسائل الإقناع بوحدانيته، فإنها جميعها تعتمد أول ما تعتمد على إثارة العاطفة وتحريك الوجدان أكثر من اعتمادها على إثارة قوى الإدراك والتفكير، ذلك أن حقيقة الإله الواحد أكبر من أن يَحُدُّهَا الفكر أو يُحيطُ بها الإدراك - وإن كان لهما في آياتها الرَّائعة مسارح للنظر والتَّأمُّل، وفي آفاقها الرَّحيبة مجالات للبحث والتفكير يفيض بها الوجدان روعةً وجلالاً، ويمتلئ بها القلبُ طمأنينة وإيماناً.

أنظر إلى النَّغم المُوسيقي الرَّائع كم يُثير في الأسماع من بهجةٍ ورضا، وكم يُحرِّكُ في النَّفس من عواطف وأحاسيس.. إنك لو ذهبت تطلبه بفكرك في طبقات الأثير تَرُدُّ كل ذبذبة فيه إلى ضوابط من الفن وقواعد من الْعِلْم لأعيتك مذاهبه ولانتهى بك المطافُ إلى غير طائل.. ثم انظر إلى البحر في سعته وامتداده.. كم تأخذ صفحته الرَّقرَاقة المُتموِّجَة من نفسك وكم تبلغ عظمته وروعته من قلبك حين تملأ عينيك منه وتُرَدِّدَ النظر فيه، ثم انظر كيف بك إذا ألقيت بنفسك في عبابه ورميت بها في موجه.. مَنْ أنت؟ وما تكون؟

فكيف بهذا الخالق العظيم نرمي بعقولنا القاصرة وأفكارنا المَحدودة في عوالم لا نهاية لها نُريدُها على أن تُحيط به وتخضع حقيقته لما تخضع له حقائق الأشياء في عالمنا المحدود؟

لماذا لا نقف من هذا الخالق العظيم موقفنا من النَّغم الموسيقي نلتذ سماعه، أو البحر نتملى جماله؟

ولِمَ نعدلُ عن هذا إلى مسابقة النَّغم في مَسْرَاهُ أو مُطاولة البحر في عظمته؟

ذلك هو الضلال البعيد.

إن العقلَ مهما بلغ من القوةِ والذكاءِ ليس إلا حاسة من الحواس التي تربطنا بعالمنا المحدود، فكما يكون للعين مدى تنتهي عنده مقدرتها على الإبصار فلا تدرك ما وراء هذا المدى من مرئيات إلا اشباحاً باهنة وصوراً شائهة لا تُغني من الحق شيئاً.. وكذلك الشَّأنُ في كل حاسَّةٍ من حواسنا لكل مجال تعمل فيه، وتؤدي وظيفتها كاملة في حدوده، فإذا أرِيدَ بها الخروج عن هذا المجال ضَلَّتْ وأضَلَّتْ.

وكذلك شأنُ العقل وهو حاسَّة الإدراك له مجاله المحدود الذي يعمل فيه ويُدرك حقائق الأشياء في مُحيطهِ، فإن أبَى إلَّا أن يركب مَتْنَ الشَّطط ويستوي على ظهر الغُرُور، انزلق إلى ظلمات الضَّلال وتقطَّعت به إلى الحقيقة الأسباب.

ولسنا نُريد بهذا أن نُمسكَ العقلَ عن التفكير والبحث في التَّعَرُّفِ إلى الله، فهو الطريق الطبيعي إليه، وإنما نُريد أن ينهج العقلُ نهجاً قاصداً في البحث عن الله فلا يندفع وراء الخيالات والفُروض، ولا يشط في التطلع إلى ما فوق طاقته، وليتعرَّف بقصوره عن إدراك الحقيقة وعجزه عن تناولها، وليرجع إلى القلب يطلب عنده الاطمئنان والسَّكينة.

ودعوة الإسلام صريحة في أن العقل لا يمكن أن يستقلَّ بمعرفة الله، ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صَحِبَهُ في تطوافه إلى تلك الغاية قلبٌ يتلقَّى عنه كل مُدركاته فيجعلها عواطف وأحاسيس تشيع في النفس روعة وجلالاً.

ومن خلال هذا الشعور بالرَّوعة والجلال يرى المَرْءُ خَالِقَهُ الوَاحِدُ الأحَدُ المُتَفَرِّدُ بالعظمةِ والجلال.

ولهذا كان الإسلامُ دِينَ الفِطْرَةِ.. والفِطرَةُ ليست عقلاً صِرْفاً ولا عاطفة مَحْضَاً، وإنَّمَا هي مزيجٌ من العقل والعاطفة إذا التقيا فلم يطغ أحدهما على الآخر كانت الفِطْرَةُ سليمة تنشُدُ اللهَ وتعرف سبيلها إليه من أقرب السُّبُلِ.

وتلك الفطرة مركوزة في النفس البشرية تتحرَّق إلى أداءِ وظيفتها منذ تتفتح مشاعر المَرْءُ وتستيقظ مداركه، وعلى هذا الوجه من الفهم للفِطْرَةِ أحِبُّ أن أفهم قوله تعإلى: (وَإِذْ أخذ رَبّكَ مِنْ بَنيِ آدَمَ مِن ظُهُورهِمْ ذُرّيتَهُمْ، وَأشْهَدَهُم عَلَى أنْفُسِهِم ألَسْتُ بِرَبِكُمْ قالوُا بَلَى شَهدنَا أنْ تَقولُوا يَومَ القيامَةِ إنّا كنّا عَنْ هذَا غَافليِن).

وكيف يغفل المَرْءُ عن الله وفيه هذه الغريزة المُتطلّعة إلى الله المتشوقة إلى الوصول إليه.

والتَّعَرُّف إلى اللهِ عن طريق هذه الفطرة أمْرٌ سَهْلٌ مَيْسُورٌ لا يحتاجُ إلى علمٍ غزير أو نظر فلسفيٍّ، وإنما تكفي فيه النَّظرة الخالصة في صفحات هذا الوجود، نظرة في الأرض أو في السماء.. في الليل أو في النهار.. في عالم الحياة أو في الموت.. في النَّبتة الصغيرة أو في الشَّجرة الباسقة.. نظرةُ واحدةُ إلى أيَّةِ صُورَةٍ من صُوَرِ هذا العالم وإلى أي لون من ألوانه ترى الشَّواهد النَّاطقة بقُدرة الخالق العظيم، وتحملُ إلى القلبِ شَوَاهِدَ ناطقة بقُدرة الخالق العظيم، وتحمل إلى القلب فيضاً من الإجلال والإكبار لهذا الصَّانع المُبدع: (الّذي خلَقَ سبْعَ سَموَاتٍ طِباقاً ما تَرى في خَلقِ الرّحمنِ منْ تَفاوتٍ فَارجعِ البَصرَ هلْ ترى مِنْ فُطورٍ، ثمّ ارجعِ البصَرَ كرّتينِ ينَقلبْ اليكَ البصرُ خاسِئاً وهوَ حَسيرُ).

فماذا يبلغ البصر من هذا المحيط العظيم الذي لا تضمُّهُ قيودٌ ولا حدود؟

أوْلَى له ثُمَّ أوْلَى أن يقف عند حَدِّهِ وأن يرضى من النظرة الأولى بما يتكشَّفُ له من عجائبَ وأسرار.

تلك هي طريقة الإسلام في معرض الهداية إلى الله والدَّعوة إليه.. إنه يُوقِظُ العقل أولاً.. يُوقِظَهُ في رِفْقٍ ويُسْرٍ حين يَلْفِتَهُ إلى مظاهر الكَوْنِ المُحيط به، والواقعة تحت سمعه وبصره.

يريده أن يلتفت إليها لفتة حالمة شاعرة، لا أن يغوص في أعماقها يطلب عِلَلَهَا وأسبابها ويلتمس عناصرها وأجزاءها.

استمع إلى قوله تعإلى: (قُلِ انظُرُوا مَإذَا فِيِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ) ثم استجب إلى هذه الدعوة.. فماذا ترى في نظرة طريَّة إلى هذا الملكوت الرحيب تنتعش بها النفس ويهتز لها الوجدان حين تُطالع صفحة هذا الوجود في إجمال بعيد عن التفصيل والتعليل، ثم انظر إلى قوله تعإلى: (يا أيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فِي أيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ).

فأي إنسان تَدِقُّ عن فهمه هذه الحقيقة الماثلة أمام عينيه.. حقيقة الإنسان على صورته تلك وما رُكِّبَ فيها من أعضاء؟

(لا يُكلّفُ اللهُ نفساً إلا وسْعَها) وأضيق درجات السِّعَةِ في النفس الإنسانية على أن يَسْتَشِفَّ في معارض هذا الكون الدَّلائل النَّاطقة على قُدرة الله ووحدانيته ولا على المَرْءِ بعد ذلك أن يفوته منها ما يقع عليه الفلاسفة والْعُلَمَاء من حقائق وأسرار، فإن كل هذا إلى جانب الحقيقة الكبرى هَبَاءٌ وهُرَاءٌ: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلَّا قَلِيلًا).

وحتى في مقام الجدل في الله بين الجاحدين والمؤمنين.. لا يسلك الدَّاعي إلى الله مسالك المنطق الجاف الذي يقوم على التصورات الذهنية التي تفتح للخصم أبواب الادِّعَاءِ والمُغالطة، بل يَعْدِلُ عن هذا الأسلوب الفطري فيتناول المسائل من أبرز جوانبها وأوضحها حيث لا يختلف فيها نظرٌ ولا يضل عنها فهمٌ.

(ألمْ تَر إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِّ وَيُمِيتُ * قَالَ: أَنَا أُحْيِّي وَأُمِيتُ! قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ * فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ولو ذهب إبراهيمُ في الرَّدِّ على هذا الكافر المُعاند مذاهبَ الفلاسفةِ والمناطقةِ لكان له في الرَّدِّ عليه مسالك غير التي سلك.. إنسانٌ يَدَّعِى أنَّهُ يُحْيِّ وَيُمِيتُ.. وتلك دعوى عريضة لو تحدَّاه إبراهيمُ بتحقيقها لأعجزه وكشف أمره.. ولكن مَنْ يدري لعل هذا الطاغية المتكبر تأخذه العزة بالإثم فيمضى في دعواه ويركب رأسه دفاعاً عن كبريائه فيمثل الشهود صوراً من قدرته على الإماتة والإحياء، وربما عمد إلى إنسان من رعيته ويقول: هذا قد أحييته لأني أردت له الحياة! ثم يعمد إلى آخر فيضرب عُنُقَهُ ويقول: هذا قد أمته لأني قد أردت له الموت! ثم يرفع رأسه مزهواً منتصراً.

وما لإبراهيم يُكَلِّفُ نفسه دحض هذا الافتراء، وعقد المُقارنة بين صور الإحياء والإماتة من جانب الله، وبين هذه الصورة الممسُوخة من صور الإماتة والإحياء.. ما له يدخل في هذا الجدل الطويل وأمامه مثلٌ آخر لقدرة الخالق لا يستطيع أن يقول فيه هذا الجاحد، يقول: (إنَّ الله يأتي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ * فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ).

بهذه الصورة الفطرية السَّاذجة انقطعت حُجَّةُ وبطل كيد: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقَّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هَوَ زَاهِقٌ).

إن الذين ضَلّوا السَّبيل إلى اللهِ أحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ حُرِمَ نِعْمَة العقل ولم يُؤْتَ حظاً من الفهم والإدراك فهو والسَّائمَة سواء، لا يلفته جمال ولا يُوقظ مشاعره مشرق صبح أو سدفة مساء: (أولَئِكَ كَالْأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ سَبِيلًا)، ورَجُلٌ خدعه ذكاؤه وغَرَّهُ وخُيِّلَ إليه أنه قادرٌ على أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال فمَدَّ بصره إلى ما وراء الأفق البعيد وضرب في بيداء التِّيهِ والضَّلال فكان أشبه بالفراش.. غرق في النُّور فاحترق بالنار.

وبعد، فهذا المؤلف ثمرة عقل كبير ناضج.. عقل وَسِعَ ثقافة العصر وأحاط بالكثير من دقائقها، حتى صار صاحبه رئيساً للمجمع الْعِلْمي بأمريكا.. وذلك المنصب لا يرقى إليه إلا العباقرة الأفذاذ من الْعُلَمَاء.

وغاية المؤلف من هذا البحث الوصول إلى الله عن طريق العقل وما يتكشَّفُ له بالْعِلْم والمعرفة من أسرار الكون وعجائبه.. فكلما تكشَّفت له حقيقة من الحقائق هتف من أعماقه: سُبحان الخالق المُبدع.. اعترافاً منه بأن الإنسان وما سَخَّرَ له الْعِلْم والمعرفة من وسائل القوة والاقتدار أضعفُ من أن يبلغ من أسرار هذا العالم شيئاً مذكوراً.

(يا أيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنّ الْذّينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وإن يسلُبْهُم الذُّبَابُ شيئاً لا يستنقذوهُ منهُ - ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطلُوبُ).

لم يكن المؤلف عالماً وحسب ولكنه كان أيضاً شاعراً، كُلَّمَا تناول عقله حقيقة من الحقائق أشرق قلبه بها، فَسَرَتْ في كيانه هَزَّهُ الإكبَارُ والإجلال لخالق الكون ومُبدعُهُ، وتلك هي الفطرة السليمة إلى الله وطريقها إليه.. ومن هنا كان هذا البحث جديراً بأن ينظر فيه المسلم بعين الاعتبار، وأن يجعل من مباحثه دروساً نافعة يرى من خلالها قُدرة الله وعظمته، فيقوى يقينه ويزداد إيمانُه.

وإذا حمدنا للمؤلف جُهدَهُ المُوَفَّق في تصوير هذه الحقائق وعرضها، فإنَّا نحمد السيد الأستاذ محمود الفلكي غِيرَتُهُ الدينية وحِرْصَهُ على نقل هذا المُؤَلَّف إلى اللغة العربية لينتفع به المسلمون، كما نحمد له هذا الجُهد الذي بذله في ترجمته وإخراجه.
أحمد حسن الباقوري.