منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 سورة النساء الآيات من 081-085

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 081-085 Empty
مُساهمةموضوع: سورة النساء الآيات من 081-085   سورة النساء الآيات من 081-085 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 5:58 pm

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا [٨١]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

هنا يوضح الحق لرسوله: ستتعرض لطائفة من أمة الدعوة وهم الذين أمرك الله أن تدعوهم إلى الدخول في الإسلام، -أمَّا أمَّة الإجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول وآمنوا فعلاً- إن هؤلاء يقولون لك حين تأمرهم بشيء أو تطلب منهم شيئاً أمراً أو نهياً: "يقولون طاعة" يعني: أمرنا وشأننا طاعة، أي أمرك مطاع،{فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81].

ويُقال: برز أي خرج للبَرَاز، والبَرَاز هي: الأرض الفضاء الواسعة، ولذلك يقول المقاتل لمن يتحداه: ابرز لي، أي اخرج من الكن أو الحصن، وكان العرب سابقاً لا يقضون حاجتهم في بيوتهم، فإذا أرادوا قضاء حاجتهم ذهبوا إلى الغائط البعيد، وجاء من هذه الكلمة لفظ يؤدي قضاء الحاجة في الخلاء.

{فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} [النساء: 81] أي خرجوا، فهم يديرون أمر الطاعة التي أمروا بها في رءوسهم فيجدونها شاقة، فيبيتون أن يخالفوا، ونعرف أن كلمة "بَيْت" تعني المأوى الذي يؤوي الإنسان. 

وأحسن أوقات الإيواء هو الليل، فسمُّوا البيت الذي نسكنه "مبيتاً" لأننا نبيت عادة في البيت المُقام في مكان والمُكوَّن من حُجرات؛ والمستور، ويقولون: هذا الأمر بُيِّت بليل، أي دبَّرُوه في الليل، وهل المُراد ألا يبيتوا في النهار؟

لا، لكن الشائع أن يبيتوا في ليل. 

يفعلون ذلك وهم بعيدون عن الأعين، فيدبرون جيداً؛ وإن كان المقصود هو التبييت في ظلام فهذا المعنى يصلح أيضاً، وإن كان سراً فالمعنى يصح أيضاً. 

إذن فالأصل في التبييت إنما يكون في البيت. 

والأصل أن تكون البيتوتة ليلاً، ومدار المادة كلها الاستخفاء، فإذا بُيت في ظلام نقول: إنه بُيت بليل، وإذا بُيِّتَ سراً نقول: بُيِّتَ بليل أيضاً.

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81] أي إنهم إذا ما خرجوا بيتوا أمراً غير الذي تقول، فهم يعلنون الطاعة باللسان بينما يكون سلوكهم على العكس من ذلك، فسلوكهم هو العصيان أو{طَاعَةٌ} [النساء: 81] غير الذي تقولها.  فإن قلت: افعلوا فلن يفعلوا، وإن قلت: لا تفعلوا فهم يفعلون عكس ما تأمر به. 

إنهم يطيعون أهواءهم وشياطينهم.

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81] يعني قالت طائفة: أمرنا وشأننا طاعة لما تقول: أو أطعناك طاعة ولكنهم يبيتون غير ما تقول فهم إذن على معصية.

{وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81] وسبحانه يكتب نتيجة علمه، وجاء بكلمة{يَكْتُبُ} [النساء: 81] حتى يعلموا أن أفعالهم مسجلة عليهم بحيث يستطيعون عند عرض كتابهم عليهم أن يقرأوا ما كتب فيه، فلو لم يكن مكتوباً فقد يقولون: لا لم يحدث، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذر من هذه الطائفة، لأنها ستثبط أمر الدعوة، لذلك يوضح الحق: إنك لن تُنصَرَ بمن أرسلت إليهم وإنما تنصر بمَنْ أرسلك، فإياك أن ينال ذلك من عزيمتك أو يثبطها نحو الدعوة. 

فإذا حدث من طائفة منهم هذا فـ "أعرض عنهم" أي لا تخاطبهم في أمر من هذه الأمور ودعهم ودع الانتقام لي؛ لأنني سأنصرك على الرغم من مخالفتهم لك، واتجه إلى أمر الله الذي أرسلك.

ونعلم أن المصلحة في كل الرسالات إنما تكون عند من أرسل، ولكن المرسل إليه قد تتعبه الدعوة الجديدة؛ لأنها ستخرجه عن هوى نفسه، ومستلزمات طيشه، فالذي أرسلك يا محمد هو الضامن لك في أن تنجح دعوتك.

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 81].

لماذا؟

لأن الذين يؤمنون بك محدودو القدرة، ومحدودو الحيلة، ومحدودو العدة، ولكن الذي أرسلك يستطيع أن يجعل من عدد خصومك ومن عُدَّة خصومك جنوداً لك، وينصرك من حيث لا تحتسب. 

ولذلك فالحق سبحانه وتعالى بدأ قضية الإسلام وكان المؤمنون بها قلة، فلو جعلهم كثرة لقالوا: كثرة لو اجتمعت على ظلم لنجحت، ولكن عندما تكون قلة وتنجح، فهذا فأل طيب ويشير على أنك لست منصوراً بهؤلاء وإنما أنت منصور بمدد الله. 

ويقول الحق بعد ذلك: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ...}.



سورة النساء الآيات من 081-085 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 081-085 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 081-085   سورة النساء الآيات من 081-085 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 6:00 pm

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [٨٢]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وإذا سمعت كلمة: {أَفَلاَ} [النساء: 82] فاعلم أن الأسلوب يقرّع من لا يستعمل المادة التي بعده.

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ} [النساء: 82] أي كان الواجب عليهم أن يتدبروا القرآن، فهناك شيء اسمه "التدبر"، وشيء اسمه "التفكر"، ثالث اسمه "التذكر"، ورابع اسمه "العلم"، وخامس اسمه "التعقل"، ووردت كل هذه الأساليب في القرآن، {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 77]، {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} [يس: 68]، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].

هي إذن تدبر، تفكر، تذكر، وتعقل، وعلم. 

وحين يأتي مخاطبك ليطلب منك أن تستحضر كلمة "تدبر"؛ فمعنى هذا أنه واثق من أنك لو أعملت عقلك إعمالاً قوياً لوصلت إلى الحقيقة المطلوبة، لكن الذي يريد أن يغشك لا ينبه فيك وسائل التفتيش، مثل التاجر الذي تدخل عنده لتشتري قماشاً، فيعرض قماشه، ويريد أن يثبت لك أنه قماش طبيعي وقوي وليس صناعياً، فيبله لك ويحاول أن يمزقه فلا يتمزق، إنه ينبه فيك الحواس الناقدة، فإذا نبه فيك الحواس الناقدة فمعنى ذلك: أنه واثق من أن إعمال الحواس الناقدة في صالح ما ادعاه، ولو كان قماشه ليس في صالح ما ادعاه لحاول خداعك، لكنه يقول لك: انظر جيداً وجرب. 

والحق يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ} [النساء: 82] والتدبر هو كل أمر يُعرض على العقل له فيه عمل فتفكر فيه لتنظر في دليل صدقه، هذه أول مرحلة، فإذا ما علمت دليل صدقة فانظر النتيجة التي تعود عليك لو لم تعملها؛ و "تتدبر" تعني أن تنظر إلى أدبار الأشياء وأعقابها، فالرسول يبلغك: الإله واحد، ابحث في الأدلة بفكرك، فإذا ما انتهيت إليها آمنت بأن هناك إلهاً واحداً. 

وإياك أن تقول إنها مسألة رفاهية أو سفسطة؛ لأنك عندما تنظر العاقبة ماذا ستكون لو لم تؤمن بالإله الواحد. 

سيكون جزاؤك النار. 

إذن فتدبرت تعني: نظرت في أدبار الأشياء وحاولت أن ترى العواقب التي تحدث منها، وهذه مرحلة بعد التفكر. 

فالتفكر مطلوب أن تتذكر ما عرفته من قبل إن طرأ عليك نسيان. 

فالتفكر يأتي أولاً وبعد ذلك يأتي التدبر. 

وأنت تقول -مثلاً- لابنك: لكي يكون مستقبلك عالياً وتكون مهندساً أو طبيباً عليك أن تذاكر وتجتهد، فيفكر الولد في أن يكون ذا مكانة مثل المتفوقين في المهن المختلفة في المجتمع، ويبذل الجهد. 

إذن فأول مرحلة هي: التفكر، والثانية هي: التدبر، فإذا غفلت نقول لك: تذكر ما فكرت فيه وانتهيت إليه وتدبر العاقبة، هذه كلها عمليات عقلية: فالتفكير يبدأ بالعقل، والعقل ينظر أيضاً في العاقبة ثم تعمل الحافظة لتذكرك بما فات وبما كان في بؤرة الشعور ثم انتقل إلى حاشية الشعور، فإذا فهمت ما عقله غيرك فقد علمت ما عقله فلان. 

إذن فليس ضروريا أن تكون قد انتهيت إلى العلم بعقلك، بل أنت أخذت حصيلة تعقل غيرك، ولذلك عندما ينفي ربنا عن واحد العلم فإنه قد نفي عنه التعقل من باب أولى؛ ذلك أن العلم يعني قدرته على تعقل قدرات غيره، دون الوصول إلى قوانينها وقواعدها وأصولها، إنه فحسب يعلم كيف يستفيد وينتفع بها، وفي حياتنا اليومية نجد أن الأمي ينتفع بالتليفزيون وينتفع بالكهرباء، أي انتفع بعلم غيره. 

لكنه لا يتعقل قدرات ذلك العَالِم. 

إذن فدائرة العلم أوسع؛ لأنك تعرف بعقلك أنت. 

أما في دائرة العلم فإنك تعلم وتفهم ما عقله سواك. 

ولذلك فعندما يأتي ربنا ليعرض هذه القضية يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].

وفي المعنى نفسه يأتي في آية أخرى عندما يقول لهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].

في الآية الأولى قال سبحانه: {لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 170] لأنهم قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170] بدون طرد لغيره، وفي الثانية قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104] بإصرار على رفض غيره والخضوع لسواه، فقال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، وسبحانه هنا نفي عن آبائهم العلم الذي هو أوسع من نفي التعقل؛ لأن نفي التعقل يعني نفي القدرة على الاستنباط. 

لكنه لا ينفي أن ينتفع الإنسان بما استنبطه غيره.

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82] والحق سبحانه وتعالى حينما يحث المستمعين للاستماع إلى كلامه وخاصة المخالفين لمنهجه أن يتدبروا القرآن، معناه أنه يحب منهم أن يُعملوا عقولهم فيما يسمعون؛ لأن الحق يعلم أنهم لو أعملوا عقولهم فيما يسمعون لانتهوا إلى قضية الحق بدون جدال، ولكن الذي يجعلهم في مواقف يعلنون الطاعة {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81]، إن هذا دليل على أنهم لم يتدبروا القرآن، وقوله الحق: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ} [النساء: 82] تأتي بعد تلك الآية، كأنها جاءت ودليلها يسبقها، فهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الرسول صادق في البلاغ عن الله وأن هذا كلام حق. 

وبالله حين يبيتون في نفوسهم أو يبيتون بليل غير الذي قالوه لرسول الله، فمَنْ الذي قال لرسول الله: إنهم بيتوا هذا؟!

إذن فلو تدبروا مثل هذه لعلموا أن الذي أخبر رسول الله بسرائرهم وتبييتهم ومكرهم إنما هو الله، إذن فرسول الله صادق في التبليغ عن الله، وما دام رسول الله صادقاً في التبليغ عن الله، فتعود للآية الأولى: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ} [النساء: 80]، وكل الآيات يَخدم بعضها بعضاً، فالقرآن حين نزل باللسان العربي شاء الله ألا يجعل كل مستمع له من العرب يؤمن به أولا؛ لأنهم لو آمنوا به جميعا أولاً لقالوا: إيمانهم بالقرآن جعلهم يتغاضون عن تحدي القرآن لهم. 

لكن يظل قوم من المواجهين بالقرآن على كفرهم، والكافر في حاجة إلى أن يُعَارِض ويُعارَض.

فإذا ما وجد القرآن قد تحداه أن يأتي بمثله، وتحداه مرة أن يأتي بعشر سور من مثله، وتحداه بأن يأتي بأقصر سورة من مثله، هذا هو التحدي للكافر. 

ألا يهيج فيه هذا التحدي غريزة العناد؟

ولم يقل منهم أحد كلمة، فما معنى ذلك؟

معناه: أنهم مقتنعون بأنه لا يمكن أن يصلوا لذلك واستمروا على كفرهم وكانوا يجترئون ويقولون ما يقولون. 

ومع ذلك فالقرآن يمر عليهم ولا يجدون فيه استدراكاً. 

كان من الممكن أن يقولوا: إن محمداً يقول القرآن معجز وبليغ وقد أخطأ في كذا وكذا.   

ولو كانوا مؤمنين لأخفوا ذلك، لكنهم كافرون والكافر يهمه أن يشيع أي خطأ عن القرآن، وبعد ذلك يأتي قوم ليست لهم ملكة العربية ولا فصاحة العربية، ليقولوا إن القرآن فيه مخالفات! فكيف يتأتى لهم ذلك وليس عندهم ملكة العربية، ولغتهم لغة مصنوعة، وليس لهم ملكة فصاحة، فكيف يقولون: إن القرآن فيه مخالفات؟

لقد كان العرب الكافرون أولى بذلك، فقد كانت عندهم ملكة وفصاحة وكانوا معاصرين لنزول القرآن، وهم كافرون بما جاء به محمد ولم يقولوا: إن في القرآن اختلافاً!!

هذا دليل على أن المستشرقين الذين ادعوا ذلك يعانون من نقص في اللغة. 

ونقول لهم: لقد تعرض القرآن لأشياء ليُثبت فصاحته وبلاغته عند القوم الذين نزل لهم أولا. 

فمنهم مَنْ سيحملون منهج الدعوة، ثم حمل القرآن معجزات أخرى لغير الأمم العربية، فمعجزة القرآن ليست فصاحة فقط، وإلا لقال واحد: هو أعجز العرب، فما شأن العجم والرومان؟

ونقول له: أكل الإعجاز كان في أسلوبه؟

لا، الإعجاز في أشياء تتفق فيها جميع الألسنة في الدنيا؛ لأنه يأتي ليثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشهادة خصومه لم يبارح الجزيرة إلا في رحلة التجارة للشام، ولم يثبت أنه جلس إلى معلم، وكلهم يعرف هذا، حتى الغلطة التي أخطأوا فيها، جاء ربنا بها ضدهم فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].

يقصدون بـ {بَشَرٌ} [النحل: 103] هذا غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه، أو غلاما آخر روميّاً أو سلمان الفارسي، فأوضح الحق: تعقلوا جيداً، فمحمد لم يجلس إلى معلم، ولم يذهب في رحلات. 

وبعد ذلك جاء القرآن تحدياً لا بالمنطق ولا باللغة ولا بالفصاحة ولا بالبيان فحسب، بل بالأمر الشامل لكل العقول وهو كتاب الكون. 

ووقائعه وأحداثه التي يشترك فيه كل الناس. 

والكون -كما نعرف- له حجب، فالأمر الماضي حجابه الزمن الماضي والذي كان يعيش أيامه يعرفه، والذي لم يكن في أيامه لا يعرفه، إذن فأحداث الماضي حجبها الزمن الماضي، وأحداث المستقبل حجزها المستقبل؛ لأنها لم تقع بعد. 

والحاضر أمامنا، فيجعل له حاجزاً هو المكان، فيأتي القرآن في أساليبه يخرق كل هذه الحجب، ثم يتحدى على سبيل المثال ويقول: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ} [القصص: 44].

وسبحانه يقول: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45].

وسبحانه يقول: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].

وكل "ما كنت" في القرآن تأتي بأخبار عن أشياء حدثت في الماضي. 

بالله لو كانوا يعلمون أنه علم أو جلس إلى معلم، أكانوا يسكتون؟

طبعاً لا.

لأن هناك كفاراً أرادوا أي ثغرة لينفذوا منها، وبعد ذلك يأتي القرآن لحجاب الزمن المستقبل ويخرقه، يحدث ذلك والمسلمون لا يقدرون أن يحموا أنفسهم فيقول الحق: {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ} [القمر: 45].

حتى أن عمر بن الخطاب يقول: أي جمع هذا؟

وينزل القرآن بآيات تتلى وتسجل وتحفظ. 

وتأتي غزوة "بدر" ويهزم الجمع فعلاً. 

وتنزل آية أخرى في الوليد ابن المغيرة الجبار المفتري: {سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ} [القلم: 16].

ويتساءل بعضهم: هل نحن قادرون أن نصل إليه؟

وبعد ذلك تأتي غزوة "بدر" فينظرون أنفه فيجدون السيف قد خرطه وترك سمة وعلامة عليه، فمن الذي خرق حجاب الزمن المستقبل؟

إنه الله. 

وليس محمداً، فإذا تدبرتم المسائل حق التدبر لعلمتم أن محمداً ما هو إلا مبلغ للقرآن، وأن الذي قال القرآن هو الإله الذي ليس عنده ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل، بل كل الزمن له، ويأتي القرآن فيقول: {وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].

هم قالوا في أنفسهم ولم يسمع لهم أحد، ثم ينزل القرآن فيخبر بما قالوه في أنفسهم. 

فماذا يقولون إذن؟



سورة النساء الآيات من 081-085 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 081-085 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 081-085   سورة النساء الآيات من 081-085 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 6:02 pm

تابع تفسير الآية (82)

وهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي أخبر رسول الله بما قالوا في أنفسهم، فهذه الآية{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ} [النساء: 82] جاءت بعد: {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81]، إذن فقد فُضحوا، فلو كانوا يتدبرون لعلموا أن الله الذي أرسله بالهدى ودين الحق هو الذي أخبره بما بيتوا، والذين لا يفهمون اللغة يطيرون فرحاً باختلاف توهموا أنه موجود بالقرآن، يقولون: إن الحدث الواحد المنسوب إلى فاعل واحد لا ينفي مرة ويثبت مرة أخرى، فإن نفيته لا ثتبته، وإن أثبته لا تنفه، لكن القرآن فيه هذا. 

وهييء لهم ذلك في قول الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال: 17].

و{وَمَا رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] هو نَفَى "الرمي"، و "إذ رميت" أَثْبت "الرمي" وجاء القرآن بالفعل وهو{رَمَيْتَ}، والفاعل هو "رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فكيف يثبت الفعل مرة وينفيه مرة في آية واحدة؟

ونقول لهم: لأنكم ليس عندكم ملكة العربية قلتم هذا الكلام، أما من عنده ملكة العربية وهي أصيلة وسليقة وطبيعة وسجية فيه، فقد سمع الآية ولم يقل مثل هذا الكلام، مما يدل على أنه فهم مؤداها. 

ثم لماذا نبتعد ونقول من أيام الجاهلية، لنأخذ من حياتنا اليومية مثلاً، أنت إذا ما جئت مثلاً لولدك وقلت له: ذاكر لأن الامتحان قد قرب، وأنا جالس معك لأرى هل ستذاكر أو لا. 

فيأخذ الولد كتابه ويجلس إلى مكتبه وبعد ذلك يفتح الكتاب ويقلب الأوراق ويهز رأسه.  

وبعد مدة تقول له: تعال انظر ماذا ذاكرت. 

فتمسك الكتاب وتسأله سؤالين فيما ذاكر، فلا يجيب، فتقول له: ذاكرت وما ذاكرت. 

أي أنك فعلت شكلية المذاكرة، ولا حصيلة لك في موضوع المذاكرة. 

قولك: "ذاكرت" هو إثبات للفعل، وقولك: "وما ذاكرت" هو نفي للفعل. 

فإذا جاء فعل من فاعل واحد مثبت مرة ومنفي مرة من كلام البليغ. 

فاعلم أن جهة الإثبات غير جهة النفي. 

وقوله الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال: 17] فكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء إلى المعركة أخذ حفنة من الحصى، وجاء ورمى بها جيش العدو. 

إذن فالعملية الشكلية قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن أَلِرَسول الله قدرة أن يُرسل الحصى إلى كل جيش العدو؟

إن هذه ليست في طاقته، فقول الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال: 17].  

أنت أخذت شكلية الرمي، أما موضوعية الرمي فهي لله سبحانه وتعالى ويأتي مثلاً في آية أخرى يقول: {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 6].

وهذا نفي. 

ثم يقول بعدها مباشرة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا} [الروم: 7].

وتتساءلون أيقول: {لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 6].

ثم يقول: {يَعْلَمُونَ} [الروم: 7] بعدها مباشرة؟

نعم فهم لا يعلمون العلم المفيد، وقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا} [الروم: 7] أنهم لا يعلمون بواطن الأمور ولا عواقبها. 

فإذا جاء فعل فثبت مرة ونفى مرة أخرى فلا بد أن الجهة منفكة. 

مثال ذلك هو قول الحق: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39].

ثم يقول القرآن في موقع آخر: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].

ومعناها أنهم سيُسألون. 

ونقول: اجعلوا عندكم ملكة العربية، ألا يسأل الأستاذ تلميذه. 

إذن فالسؤال قد يقع من العالم ليُعْلم ما عند المسئول ويُقِرُّ به، وليس ليَعْلَم العالم ما عند المسئول، وعندما يقول ربنا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].

فإياكم أن يذهب ظنكم إلى أن الله يسأل لأنه لا يعلم، وإنما يسأل ليقرركم لتكون حجة الإقرار أقوى من حجة الاختبار. 

إذن فإن رأيت شيئاً نفي، وأثبت في مرة أخرى فاعلم أن الجهة منفكة. 

وحينما نتكلم عن إعجاز القرآن نجده يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151].

وجاء في الآية الثانية وقال ربنا: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31]. 

قد يقول مَنْ لا يملك ملكة اللغة: فأيهما بليغة؟

إن كانت الأولى فالثانية ليست بليغة، وإن كانت الثانية فالأولى ليست بليغة. 

نقول له: أنت أخذت عجز كل آية فقط. 

وعليك أن تأخذ عجز كل آية مع صدرها. 

صحيح أن عجز الآية مختلف؛ لأنه يقول في الأولى: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] وفي الثانية يقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31].

ولكن هل صدر الآية متحد؟

لا، فصدر كل آية مختلف؛ لأنه قال: {وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151].

فكأن الإملاق موجود حاصل؛ لذلك شغل المخاطب برزقه قبل أن يشغل برزق ولده، ويخاف أن يأتي له الولد فلا يجد ما يطعمه. 

لأنه هو نفسه فقير. 

فيطمئنه الله على رزقه أولاً ثم بعد ذلك يطمئنه على رزق مَنْ سيأتي: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] لكن في الآية الثانية لم يقل ذلك، بل قال: {وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] كأنه يخاف أن يفقد ماله ويصير فقيراً عندما يأتي الولد، وما دام قد قال: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] فهذا يعني أن الإملاق غير موجود، ولكنه يخاف الإملاق إن جاء الولد، يخاف أن يأتيه الولد فيأتيه الفقر معه، فأوضح الحق له: لا تخف فسيأتي الولد برزقه، {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] إذن إن نظرت إلى الآية عجزها مع صدرها، تجد العلاقة مكتملة، ويحاول بعضهم أن يجد منفذاً للطعن في بلاغة القرآن فيتساءل لماذا يقول الحق في آية في القرآن: {وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} [لقمان: 17].

وفي سورة ثانية يقول: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} [الشورى: 43]. ونقول لهم: أنتم لم تفهموا الآيات على حقيقتها. 

ففي الآية الأولى يقول: {وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} [لقمان: 17] أي في المصائب التي لا غريم لك فيها. 

وما دام ليس لك غريم فيها، فماذا تفعل؟

لكن إذا كان لك غريم وخصم فقد تتحرك نفسك بأن تنتقم منه. 

ولذلك فانتبه لقوله الحق: {وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} [لقمان: 17] يناسب الموقف الذي لا يوجد فيه غريم، وفي الآية الثانية: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ} [الشورى: 43] فالآية تناسب الموقف الذي فيه غريم لأنك ستصبر على المصيبة وعلى مَنْ عملها من غريم؛ لأنك كلما رأيته تهيج نفسك وهذا يحتاج لتأكيد الصبر بقوة، وتلك هي كلمات المستشرقين الذين يريدون الطعن في القرآن ويقولون لنا: أنتم تنظرون للقرآن بقداسة لكنكم لو نظرتم إليه بتفحص لوجدتم أن فيه اختلافات كثيرة، نقول لهم: قولوا لنا المخالفات، ونحن رددنا على هذا في ثنايا خواطرنا عن القرآن.

ومنهم من يقول لك مثلاً: القرآن عندما تعرض لقضية خلق السماوات والأرض جاءت كل الآيات لتؤكد أن الله سبحانه خلقها في ستة أيام، لكنهم يقولون عندما نذهب إلى آيات التفصيل في قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ} [فصلت: 9-12].

نجدها ثمانية أيام فقالوا: هذا خلاف. 

نقول لهم: أنتم لم تفهموا. 

فسبحانه حين قال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ} [فصلت: 9]، فهل تكلم عما تستقيم به الحياة على الأرض؟

إنه عندما تكلم عن الأرض يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} [فصلت: 9-10]، فهذه تكون تتمة الأرض لأنه يتكلم عن الأرض، {وَجَعَلَ فِيهَا} [فصلت: 10] أي الأرض، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] وكل ذلك في الأرض، إذن فالمرحلة الثانية مرحلة تتمة خلق الأرض فسبحانه خلق الأرض كجُرم أولاً، وبعد ذلك جعل فيها الرواسي وجعل فيها الأقوات وبارك فيها. 

في كم يوماً؟

في أربعة أيام فكأن اليومين الأولين دخلا في الأربعة، لأن هذه تتمَّة خلق الأرض. 

ولله المثل الأعلى، مثلما تقول: سرت من هنا إلى الإسماعيلية في ساعة، وإلى بورسعيد في ساعتين، فقولك: إلى بورسعيد في ساعتين، يعني أن الساعة الأولى تم حسابها، إذن فهؤلاء المستشرقون لم يفهموا معطيات القرآن؛ لذلك يقول سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ} [النساء: 82] فإن وجدت شيئاً ظاهرياً يثير تساؤلا في القرآن فأعمل عقلك، وأعمل فكرك كي تعرف أن التناقض في فهمك أنت وليس التناقض في القرآن؛ لأنه مِنْ عند مَن إذا قص واقعا قصه على حقيقته، وعند مَن لا يغيب شيء عنه، لا حجاب الزمن الماضي، ولا حجاب الزمن المستقبل، ولا حجاب المكان، ولا حجاب المكين {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].

فالقرآن كتاب كبير به أربع عشرة ومائة سورة، بالله هاتوا أي أديب من الأدباء كي يكتب هذا، ثم انظروا في فصاحته، إنّكم ستجدونه قوياً في ناحية وضعيفاً في ناحية أخرى، وبعد ذلك قد تجدونه أخل بالمعنى، وقال كلمتين هنا ثم جاء بما يناقضهما بعد ذلك!

مثلما فعل أبو العلاء المعري عندما قال:
تحطمنا الأيـــــــام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

وكان أيام قوله هذا: ينكر البعث. 

وعندما رجع إلى صوابه بعد ذلك قال:
زعم المنجم والطبيب كلاهــما
لا تحشر الأجساد قلت إليكــما
إن صح قولكما فلست بخـاسر
أو صحّ قولي فالخَسار عليكما

إذن فالتناقض يأتي مع صاحب الأغيار الذي كان له رأي أولاً ثم عدلته التجربة أو الواقع إلى رأي آخر. 

لكن ربنا سبحانه وتعالى لا يتغير ومعلومه لا يتغير فهو الحق، إذن فالتناقض يأتي إمَّا من واحد يكذب؛ لأن الواقع لم يحكمه، وإمِّا من واحد هو في ذاته متغير، فرأى رأياً ثم عدل عنه، فيكون متغيراً. 

لكن الحق سبحانه وتعالى لا يتغير. 

ويقول على الواقع الحق: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].

والواقع أيضاً أننا نجد كل قضية قرآنية تعرض كنص من نصوص القرآن أنزله الله على رسوله، هذه القضية القرآنية في كون له تغيرات، والتغيرات بعضها يكون من مؤمن بالقرآن، وبعضها يكون من غير مؤمن بالقرآن، فهل رأيت قضية قرآنية ثم جاءت قضية الكون حتى من غير المؤمنين فكذبتها؟. 

لا، هم في الغرب مثلاً بعد الحرب العالمية الأولى اخترعوا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ، وكانت تلك أول مرحلة في تفتيت الذرة، ونجد القرآن يضرب المثل بالذرة، وأنها أصغر شيء في قوله سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. وضع العلماء أيديهم على قلوبهم لأن الذرة قد تفتت. 

فوجد ما هو أصغر من الذَّرَّة!!

ووجدنا مَنْ قرأ القرآن، وقال: إن القرآن نزل في عصر كان أصغر شيء فيه "الذرة" عند العربي القديم، والله يعلم أزلاً أن العلم سيطمح ويرتقي ويُفَتِّتَ الذرة، فقال: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3].

لقد تدبَّر صاحب هذا القول القرآن وفهم عن الله الذي تتساوى عنده الأزمنة، فالمستقبل مثل الماضي، ليس عنده علم مستقبل وعلم حاضر وعلم ماضٍ، وأوضح لنا: أن هناك ما هو أصغر من الذرة. 

فلو فتَّتُوا المُفتَّت منها لوجدنا في القرآن له رصيداً. 

تعالوا للقضايا الاجتماعية مثلاً. 

تجدوا أي قضية قرآنية يجتمع لها خصوم القرآن ليجدوا مطعناً، فنجد مَنْ لم يفهموا من المسلمين يجرون وراءهم ويقولون: هذه الأمور لم تعد ملائمة للعصر، ثم نجد أعداء الإسلام يواجَهُون بظروف لا يجدون حلاً لمشكلاتهم إلا ما جاء في القرآن.

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].

مثال آخر: بعض الناس يقولون: هناك اختلاف في القراءات، مثل قوله تعالى: {مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ} [الفاتحة: 4]. يقول: هناك مَنْ يقرؤها "ملك يوم الدين"، لكن هناك ما يُسمى "تربيب الفائدة" لأن كلمة "مالك" وكلمة "مَلِك" معناهما واحد، والقرآن كيف يكون من عند غير الله؟     

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ} [النساء: 82] -أي القرآن-: {مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ} [النساء: 82] أغير الله كان يأتي بقرآن؟!

لا، إنما القرآن لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى،{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].

إن قوله سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ} [النساء: 82] تكريم للإنسان، فكأن الإنسان قد خلقه الله ليستقبل الأشياء بفكر لو استعمله استعمالاً حقيقياً لانتهى إلى مطلوبات الحق، وهذه شهادة للإنسان، فكأن الإنسان مزود بآلة فكرية، هذه الآلة الفكرية لو استعملها لوصل إلى حقائق الأشياء، ولاحق لا يريد منا إلا أن نعمل هذه الآلة: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82] فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفة الكامل كاملة، والاختلاف يناقض الكمال. 

فمعنى الاختلاف أنك تجد آية تختلف مع آية أخرى، فكأن الذي قال هذه نسي أنه قالها!! وبعد ذلك جاء بأمر يناقضها، ولو كان عنده كمال لعرف ما قال أولاً كي لا يخالفه ثانياً. 

إذن فلا تضارب ولا اختلاف في القرآن؛ لأنه من عند الله. 

وبعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ...}.



سورة النساء الآيات من 081-085 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 081-085 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 081-085   سورة النساء الآيات من 081-085 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 6:04 pm

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [٨٣]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

الحق سبحانه وتعالى يُرَبِّي الأمَّة الإيمانية على أسلوب يضمن ويُؤمِّن لهم سرِّيَّة حركتهم خاصة أنهم قومٌ مُقبلون على صراع عنيف ولهم خُصومٌ أشداء، فيُربيهم على أن يعالجوا أمورهم بالحكمة لمواجهة الجواسيس. 

فيقول: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ} [النساء: 83].

أي إذا جاءهم خبر أمر من الأمور يتعلق بالقوم المؤمنين أو بخصومهم، وعلى سبيل المثال: يسمعون أن النبي عليه الصلاة والسلام سيخرج في سرية إلى المنطقة الفلانية، وقبيلة فلان تنتظره كي تنضم إليه، وعندما يسمع الضعاف المنافقون هذا الخبر يذيعونه، فيحتاط الخصوم بمحاصرة القبيلة التي وعدت الرسول أن تقاتل معه كي لا تخرج، أو يقولون مثلاً: إن النبي سيخرج ليفعل كذا فيذيعوا أيضاً هذا الخبر!

فأوضح لهم الحق: لا تفعلوا ذلك في أي خبر يتعلق بكم كجماعة ارتبطت بمنهج وتريد لهذا المنهج أن يسيطر؛ لأن هذا المنهج له خصوم.     

إياكم أن تسمعوا أمراً من الأمور فتذيعوه قبل أن تعرضوه على القائد وعلى مَنْ رأى القائد أنهم أهل المشورة فيه، فقوله: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ} [النساء: 83] يقصد به أن المسألة تكون في صالحهم{أَوِ ٱلْخَوْفِ} [النساء: 83] أي من عدوهم{أَذَاعُواْ بِهِ} [النساء: 83].

كلمة "أذاعه" غير كلمة "أذاع به"، فـ "أذاعه" يعني "قاله"، أما "أذاع به" فهي دليل على أنه يقول الخبر لكل مَنْ يقابله، وكأن الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه، فهناك أمر تحكيه وتنتهي المسألة، أما "أذاع به" فكأن الإذاعة مصاحبة للخبر وملازمة له تنشره وتخرجه من طيّ محدود إلى طي غير محدود، أو من آذان تحترم خصوصية الخبر إلى آذان تتعقب الخبر، ثم يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ} [النساء: 83].

فالرسول أو من يحددهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم الذين لهم حق الفصل فيما يقال وما لا يقال: {لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] والاستنباط مأخوذ من "النَبْط" وهو ظهور الشيء بعد خفائه، واستنبط أي استخرج الماء مجتهداً في ذلك والنَبَط هو أول مياه تخرج عند حفر البئر فنقلت الكلمة من المحسات في الماء إلى المعنويات في الأخبار، وصرنا نستخدم الكلمة في المعاني، وكذلك في العلوم. 

مثلما تعطي الطالب مثلاً تمريناً هندسياً، وتعطيه معطياته، ثم يأخذ الطالب المعطيات ويقول بما أن كذا كذا. 

ينشأ منه كذا، فهو يستنبط من موجودٍ معدوماً.

وهنا يوضح الحق لهم: إذا سمعتم أمراً يتعلق بالأمن أو أمراً يتعلق بالخوف، فإياكم أن تذيعوه قبل أن تعرضوه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو تعرضوه على أولياء الأمر الذين رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعطيهم بعض السلطة فيه؛ لأنهم هم الذين يستنبطون. 

هذا يقال أو لا يقال. 

ويقول الحق: {وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] كأنهم أذاعوا بعض أحداث حدثت، لكنهم نجوا منها بفضل من الله سبحانه وتعالى وبعض إلهاماته فكان مما أذاعوا به ما حدث عندما عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العزم على أن يذهب إلى مكة فاتحاً، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها؛ أي أنه لا يقول الوجهة الحقيقية كي يأخذ الخصوم على غرة، وعندما يأخذ الخصوم على غرة يكونون بغير إعداد، فيكون ذلك داعياً على فقدانهم قدرة المقاومة. 

وانظروا إلى الرحمة فيما حدث في غزوة الفتح، فقد أمر رسول الله المسلمين بالتجهيز لغزو مكة حتى إذا ما أبصر أهل مكة أن رسول الله جاء لهم بجنود لا قبل لهم بها؛ يستكينون ويستسلمون فلا يحاربون وذلك رحمة بهم. 

وكان "حاطب بن أبي بلتعة" قد سمع بهذه الحكاية فكتب كتاباً لقريش بمكة، وأخذته امرأة وركبت بعيرها وسارت. 

وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعلى ومَنْ معه وقال لهم: إن هناك امرأة في روضة خاخ معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بقدومنا إلى مكة، فذهبوا إلى الظعينة فأنكرت، فهددها سيدنا عليٌّ وأخرج من عقاصها -أي من ضفائر شعرها- الكِتَاب، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فاستحضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاطباً وقال له: أهذا كتابك؟. 

قال: نعم يا رسول الله، فقال: وما دعاك إلى هذا؟

قال: والله يا رسول الله لقد علمت أن الله ناصرك، وأن كتابي لن يقدم ولن يؤخر. 

وأنا رجل ملصق في قريش ولم أكن من أنفسهم ليس لي بها عصبية ولي بين أظهرهم ولد وأهل فأحببت أن أتقدم إلى قريش بيد تكون لي عندهم يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال له النبي: قد صدقت. 

إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبني القضايا الإيمانية وخاصة ما يتعلق بأمر المؤمنين مع أعدائهم على الصدق، ولا يستقيم الأمر أن يفشي ويذيع كل واحد الكلام الذي يسمعه، بل يجب أن يردوا هذا الكلام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى أولي الأمر لأنهم هم الذين يستنبطون ما يناسب ظرفهم من الأشياء، ربما أذنوا لكم في قولها، أو أذنوا بغيرها إذا كان أمر الحرب والخداع فيها يستدعي ذلك. 

وهذا يدل على أن الحق سبحانه وتعالى وإن كان قد ضمن النصر والغلبة لهم وأوضح: أنا الوكيل وأنا الذي أنصر ولا تهابوهم، إلا أنه سبحانه يريد أن يأخذ المؤمنون بالأسباب، وبكفايتهم به على أنه هو الناصر.

{وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] وهذا يدل على أن هذه المسألة قد حدثت منهم ولكن فضل الله هو الذي سندهم وحفظهم فلم يجعل هذه المسألة مغبة أو عاقبة فيما يسؤوهم{وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] ونعرف أنه كلما جاء فعل من الأفعال وجاء بعده استثناء. 

فنحن ننظر: هل هذا الاستثناء من الفاعل أو من الفعل؟. 

وهنا نجد قوله الحق: {لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] فهل كان اتباع الشيطان قليلاً أي اتبع الشيطان قلة وكثيرون لم يتبعوا الشيطان. 

فهل نظرت إلى القلة في الحدث أو في المحدِث للحدث؟. 

فإن نظرت إلى القلة في الحدث فيكون: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعاً قليلاً تهتدون فيه بأمر الفطرة، وإن أردت القلة في المحدث: {لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] أي إلاَّ نفراً قليلاً منكم سلمت فطرتهم فلا يتبعون الشيطان. 

فقد ثبت أن قوماً قبل أن يرسل ويبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلسوا ليفكروا فيما عليه أمر الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، فلم يرقهم ذلك، ولم يعجبهم، فمنهم مَنْ صَدّ عن ذلك نهائياً، ومنهم من ذهب ليلتمس هذا العلم من مصادره في البلاد الأخرى، فهذا "زيد بن عمرو بن نفيل"، وهذا "ورقة بن نوفل" الذي لم يصدق كل ما عرض عليه، و "أمية بن أبي الصلت"، و "قُسّ بن ساعدة"، كل هؤلاء بفطرتهم اهتدوا إلى أن هذه الأشياء التي كانت عليها الجاهلية لا تصح ولا يستقيم أن يكون عليها العرب فهؤلاء كانوا قلة وكانوا يسمون بالحنفاء والكثير منهم كان يعبد الأصنام ثم أكرمهم الله ببعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

إذن فقول الحق: {وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] أي لأن الحق سبحانه وتعالى بفضله ورحمته لن يدع مجالاً للشيطان في بعض الأشياء، بل يفضح أمر الشيطان مع المنافقين. 

فإذا ما فضح أمر الشيطان مع المنافقين أخذكم إلى جانب الحق بعيداً عن الشيطان، فتكون هذه العملية من فضل الله ورحمته. 

وبعد ذلك يقول الحق سبحانه مخاطباً سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ...}.



سورة النساء الآيات من 081-085 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 081-085 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 081-085   سورة النساء الآيات من 081-085 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 6:06 pm

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا [٨٤]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وحين ترى جملة فيها الفاء فاعلم أنها مسببة عن شيء قبلها، وإذا سمعت مثلاً قول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21].

ومعنى ذلك أن القبر جاء بعد الموت، فإذا وجدت "الفاء" فاعرف أن ما قبلها سبب فيما بعدها، ويسمونها "فاء السببية". 

فما الذي كان قبل هذه الآية لتترتب عليه السببية في قول الله سبحانه لسيدنا رسول الله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84] نقول: ما دام الأمر جاء {فَقَاتِلْ} [النساء: 84]، فعلينا أن نبحث عن آيات القتال المتقدمة، ألم يقل قبل هذه الآية: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 74].

والآية الثانية: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ} [النساء: 75].

إذن أمر القتال موجود من الله لمن؟

لرسول الله، والرسول يبلغ هذا الأمر للمؤمنين به، والرسول يسمعه من الله مرة واحدة؛ لذلك فإنّه -صلى الله عليه وسلم- أول من يصدق أمر الله في قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} [النساء: 74].

ثم ينقلها إلى المؤمنين، فمن آمن فهو مصدق لرسول الله في هذا الأمر. 

فالرسول هو أول منفعل بالقرآن فإذا قال الحق: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا} [النساء: 74].

أو عندما يقول له الحق: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} [النساء: 75].

وما دام الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أول مُنفعل بأوامر الله، فإذا جاءه الأمر فعليه أن يلزم نفسه أولاً به، وإن لم يستمع إليه أحَدٌ وإن لم يؤمن به أحَدٌ أو لم يتبعه أحَدٌ، وهذا دليل على أنه واثق من الذي قال له: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} [النساء: 75] وما دام -صلى الله عليه وسلم- هو أول منفعل فعليه أولاً نفسه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- بإقباله على القتال وحده، إنما يدل مَن سمع القرآن على أن الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن، أول مصدق، ومحمد لن يغش نفسه. 

فقبل أن يأمر المؤمنين أن يقاتلوا، يقاتل هو وحده. 

ولذلك نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق -رضوان الله عليه- حينما انتقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى وحدثت الردة من بعض العرب، وأصرّ خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يقاتل المرتدين وقال: لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجالدتهم عليه بالسيف. 

وحاول بعض الصحابة أن يثني أبا بكر الصديق عن عزمه فقال: والله لو عصت يميني أن تقاتلهم لقاتلتهم بشمالي. 

إذن فقول الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} [النساء: 84] ينبهنا إلى أن هناك فرقاً بين البلاغ وبين تنفيذ المبلَّغ. 

وما دام الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد سمع من الله، فهو ملزم بتطبيق الفعل أولاً، وبعد ذلك يبلغ الرسولُ المؤمنين، فمن استمع إليه فعل فعله. 

وقول الحق: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} هو تكليف بالفعل لا بالبلاغ فقط، فالرسول يبلغ، لكن أن يفعل المؤمنون ما بلغهم به عن الله أو لا يفعلوا فهذا ليس من شأنه ولا هو مكلف به. 

ولكن على الرسول أن يلزم ويكلف نفسه ليقاتل في سبيل الله.

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84].

أمعنى ذلك أن يترك الرسول الذين آمنوا به لنفوسهم؟. 

لا، فالحق قد أوضح: عليك أيضاً أن تحرضهم على القتال فلا تتركهم لنفوسهم: {وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 84] ومعنى "حرض" مأخوذ من "الحُرْض" وهو ما به إزالة العوائق وما ينطف الأيدي والملابس مما يرين عليهم ويعلوها من الوسخ والدنس، فعليك يا رسول الله أن تنظر في أمر صحابتك وأتباعك وتعرف لماذا لا يريدون أن يقاتلوا، وعليك أن تنفض عنهم الموانع وتزيل العوائق التي تمنعهم أن يقاتلوا.

{وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 84]، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لرسوله: إنك لا تنصر بالكثرة المؤمنة بك، ولكن المؤمنين هم ستر ليد الله في النصر، فالنصر منه سبحانه: {وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].

وورود كلمة: {بَأْسَ} [النساء: 84] في الآية التي نحن بصددها، يراد بها القوة والشدة في الحرب، ويراد بها المكيدة، ويراد بها هزيمة الأعداء. 

فكلمة: {بَأْسَ} [النساء: 84] فيها معانٍ متعددة. 

والحق يبلغ رسوله: إنك يا محمد لا تكلف إلا نفسك وإياك أن يخطر على بشريتك: كيف أقاتل هؤلاء وحدى فإن القوم المؤمنين معك وإذا ما دخلوا القتال فهم لا ينصرونك ولكنهم يسترون يد الله في النصر: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].

ولماذا لا ينصر الله المؤمنين والرسول مباشرة دون قتال لغيرهم من الكفار والمشركين؟.  

لأن النصر لو جاء بسبب غيبي من الحق ربما قالوا ظاهرة طبيعية قد نشأت، ولكن الحق يريد أن يظهر أن القلة المؤمنة هي التي غلبت، فالمؤمن يقبل على الأسباب ولا ينسى المسبب، فحينما نظر المسلمون إلى الأسباب فقط في "حنين"، وقال بعضهم: لن نهزم عن قلة فنحن كثير، هنا ذاق المسلمون طعم الهزيمة أولاً، وبعد أن أعطاهم الحقُّ الدرس التأديبي أولاً، نصرهم ثانياً. 

والحق يقول: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 25].

وهذا لفت للمؤمنين أن يكونوا مع الأسباب ويتذكروا المسبب دائماً؛ لأن الأسباب إنما تأتي فقط لإثبات أن الله مع المؤمنين فلو أن المؤمنين انتصروا بأي سبب غيبي آخر لقال الأعداء: إن هذا الذي حدث هو ناتج ظاهرة طبيعية. 

والفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة المادية في الخصوم ما حدث لسيدنا إبراهيم عليه السلام. 

فلم يرد الحق مجرد إنقاذ سيدنا إبراهيم من النار؛ لأن الأمر لو كان كذلك لما مَكَّن أعداء إبراهيم عليه السلام من القبض عليه، ولو فعل الحق ذلك لقال أعداء سيدنا إبراهيم: آه لو كنا قد أمسكنا به، ولكان ذلك فرصة لكفرهم. 

ولكن الحق يجعلهم يمسكون بإبراهيم عليه السلام: وَتَرَكَ النارَ تتأجج، ويقطع سبحانه الأسباب: {قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

هذه هي النكاية، فلو جاء إنقاذ إبراهيم بطريق غير ذلك من الأمور الغَيبية غير المادة المحسة، لوجد خصوم إبراهيم المخارج لتبرير هزيمتهم. 

ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله: يا محمد أنا الذي أرسلتك، ولم أكِلَك إلى نصرة من يؤمن بك، وإنني قادر على نصرك وحدك بدون شيء، ولكن أردت لأمتك التي آمنت بك أن ينالها يُمْنُ الإيمان بك فيستشهد بعضها، فتثاب الأمة، وتنتصر فتعلو وترتفع هامتها على العرب، فلو كان الأمر مقصوراً على نصر رسول الله لنصره الله دون حرب أو جهاد. 

وقول الحق سبحانه: {عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: 84] أي أنه سبحانه قادر على أن يوقف ويمنع حرب وكيد الكافرين فيُبطله ويهزمهم. 

وهذا ما حدث، فبعد موقعة "أحد" التي ماعت نهايتها ولا يستطيع أحد أن يحدد مَن المنتصر فيها ومن المهزوم؛ لأن رسول الله قد انتصر أولاً، ثم خالف الرماة أمر رسول الله، فحدث خلل في صفوف المقاتلين المسلمين، ولكن لم يبق المحاربون من قريش في مكان المعركة، وأيضا لم يتجاوزوها إلى داخل المدينة، ولذلك لم تنته معركة أُحُد بنصر أَحَد. 

وبعد ذلك هددوا بأن الميعاد في بدر الصغرى في العام القادم. 

ومر العام، وجاء الميعاد، وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج، فلما طالب بالخروج وجد كسلاً من القوم، ولم يطعه إلا سبعون رجلاً، وخرجوا إلى المكان المحدد.    

وأثبتوا أنهم لم يخافوا الموقف، وقذف الله الرعب في قلب أبي سفيان وقومه فلم يخرجوا. 

إذن فربنا قادر أن يكف بأس الذين كفروا، فقد أقام رسول الله في المكان، وجلس مع المقاتلين وكان معهم تجارة وباعوها وغنم المسلمون الكثير من هذه التجارة.

{عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: 84] وكلمة: {عَسَى} [النساء: 84] في اللغة تأخذ أوضاعاً متعددة، فـ{عَسَى} [النساء: 84] معناها في اللغة الرجاء، كقول واحد: عسى أن يجيء فلان. 

أي: أرجو أن يجيء فلان. 

أو قول واحد مخاطباً صاحباً له: عسى أن يأتيك فلان بخير. 

وهذا رجاء أن يأتي فلان إلى فلان ببعض الخير، وقد يأتي فلان بالخير وقد لا يأتي، لكن الرجاء قد حدث. 

وقد يقول واحد لصاحبه: عسى أن آتيك أنا بخير. 

هنا يكون الرجاء أكثر قوة؛ لأن الرجاء في الأولى في يد واحد آخر غير المتحدث، أما الخير هنا فهو في يد المتحدث. 

لكن أيضمن المتحدث أن توجد له القوة والوجود حتى يأتي بالخير لمن يتحدث إليه؟

إنه صحيح ينوي ذلك ولكنه لا يضمن أن توجد عنده القدرة. 

وإذا قال قائل: عسى الله أن يأتيك بالفرج. 

هذه هي الأوغل في الرجاء، لكن هل مَنْ يقول ذلك واثق من أن الله يجيب هذا الرجاء؟.     

قد يجيب الله وقد لا يجيب وفقاً لإرادة الله لا لمعايير من يرجو أو المرجو له. 

أما عندما يقول الحق عن نفسه: {عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 84] فهذا هو القول البالغ لنهايات كل الرجاءات. 

فـ {عَسَى} [النساء: 84] بمراحلها المختلفة تبلغ قمتها عندما يقول الحق ذلك. 

وهكذا نرى مراحل: {عَسَى} [النساء: 84].

أن يقول قائل: عسى أن يفعل لك فلان خيراً. 

هذه مرحلة أولى في الرجاء، وأن يقول قائل: عسى أن آتيك أنا بخير. 

هذه مرحلة أقوى في الرجاء، فقد يحب الإنسان أن يأتي بالخير لكن قد تأتي له ظروف تعوقه عن ذلك. 

وإن يقول قائل: عسى الله أن يفعل كذا، هذه مرحلة أكثر قوة؛ لأن الخير فيها منسوب إلى القوة العليا، لكن هذا الرجاء قد يجيبه الله وقد لا يجيبه. 

والأقوى على الإطلاق هو أن يقول الله عن نفسه: {عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 84] و{عَسَى} [النساء: 84] بالنسبة لله رجاء محقق لأنه إطماع من الله عز وجل، والإطماع منه واجب تحققه لأنه -سبحانه- هو الذي يحثنا ويدفعنا إلى الطمع في فضله لأنه كريم، وهو القائل سبحانه: {عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: 84] لأن أصحاب البأس من الخلق هم أهل أغيار، فالقوي منهم قد يضعف أو يصاب ببعض من الرعب فتخلخل عظامه. 

أما واهب الفعل وواهب القوى لخلقه فهو القادر على أن يفعل فهو الأشد بأساً وهو سبحانه أشد تنكيلاً. 

وساعة يسمع الإنسان أي شيء من مادة "نكل" فعليه أن يعرف أنها مأخوذة من "النِكْل" وهو القيد. 

وعندما يوقع الحاكم -مثلاً- العذاب على مرتكب لجريمة، والشخص الذي يرى هذا العذاب يخاف من ارتكاب مثل هذه الجريمة، فكأن الحاكم قد قيدهم بالعذاب الذي أنزله بأول مجرم أن يفعلوا مثل فعله. 

ولذلك يقال على ألسنة الحكام: سأجعل من فلان نَكالاً. 

أي أن القائل سيعذب فلاناً، بحيث يكون عبرة لمن يراه فلا يرتكب جريمة مثلها أبداً خوفا من أن تنزل به العقوبة التي نزلت ولحقت بمَن فعل الجريمة. 

إذن فالتنكيل والنكال والنِكل كلها راجعة إلى القيد الذي يمنع إنساناً أن يتحرك نحو الجريمة، أو قيد يمنع الإنسان أن يرجع إلى الجريمة التي فعلها أولاً، أو أن هذا القيد وهو العذاب الذي عوقب به مرتكب الجريمة يكون ماثلا أمام الناس يحذرهم من الوقوع فيها كي لا تنالهم عقوبتها ونكالها. 

إن الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق ووزع عليهم فضل المواهب فلا يوجد واحد قد جمع كل المواهب؛ لأن فكر الإنسان وطاقته وزمنه وظروفه شاء الله أن تختلف وشاء سبحانه ألا يجعل الإنسان موهوباً في كل مجال، وحين يوزع الله على كل عبد جزءاً من المواهب ويعطي العبد الآخر جزءا آخر حتى يتكامل العباد معاً. 

فلو أن صاحب موهبة تجمعت لديه مواهب الآخرين لاستغنى كل إنسان عن مواهب الآخرين، والله يريد منا مجتمعاً متسانداً متكافلاً متكاملاً، فما أفقده أنا أجده عند غيري. 

فتجد بارعاً في الهندسة وعندما يصاب هذا المهندس البارع بألم فهو يطلب طبيبا، والطبيب الذي يريد بناء عيادة يطلبها من المهندس. 

وكلاهما يطلب مشورة المحامي في كتابة العقود، وكل هؤلاء في حاجة إلى من يقيم البناء، والذين يقيمون البناء من مهن متعددة أخرى يحتاج بعضهم إلى بعض. 

إذن لا يوجد فرد واحد قادر على أن يقوم بكل هذه العمليات بمفرده، ولو أن هناك واحداً يستطيع كل ذلك لما احتاج إلى أحد، ولو حدث ذلك لكان التفكك في المجتمع. 

ولذلك جاء قول الحق: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32].

والناس حين تنظر لتفضيل الله لبعض الناس على بعض درجات ينظرون إلى ذلك في مجال المال فقط، ونقول لمن يظن ذلك: أنت مخطئ، فإن فضلك الله في القوة والجسم فهذه رفعة، وإن فضلك في العلم فذلك رفعة أيضاً، وإن فضلك في الحلم فهذه رفعة، إن تفضيل الحق لك في أي مجال هو رفعة لك، فأنت كعبد تكون مفضلاً؛ ومفضلاً عليك. 

إذن فحين يقول الحق: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32].

قد يسأل إنسان: أي بعض مرفوع وأي بعض مرفوع عليه؟. 

ونقول: كل واحد مرفوع بموهبته، وغيره مرفوع عليه بموهبته. 

ومن القصور أن ننظر إلى التفضيل في مجال المال فقط، فلا يصح أن ننظر إلى هذه الزاوية وحدها ولكن لننظر من كل الزوايا. 

وعندما ننظر في الزوايا جميعها نجد الفرد مرفوعاً في شيء، ومرفوعاً عليه في أشياء، وكل منا مسخر لغيره. 

إذن فعندما خلق الله العباد جعل كُلاًّ منهم مسخراً للآخر، وما دام الأمر كذلك، فيجب ألا يُترك الفرد في البيئة الإيمانية فذاً، بل على كل ذي موهبة يفقدها غيره أن يمده بهذه الموهبة. 

فبعد أن كان فذّاً -أي فرداً- يصير شَفْعَاً. 

والشَّفْعُ -كما نعلم- هو ضم شيء إلى مثله، فما ضم إلى غيره ليصيرا زوجا فهو شَفْع بخلاف الوتر فإنه الواحد. 

فإذا كان الواحد منا موهوباً فليضم موهبته للثاني، حتى يصبح الاثنان شَفْعاً.

وبذلك ينطبق عليه قول الحق: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ...}.



سورة النساء الآيات من 081-085 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 081-085 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 081-085   سورة النساء الآيات من 081-085 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 6:07 pm

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [٨٥]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وما هي الشفاعة الحسنة؟

الذين من الريف يعرفون مسألة "الشُّفْعَة" في العرف. 

فيقال: فلان أخذ هذه الأرض بالشفعة. 

أي أنه بعد أن كان يملك قطعة واحدة من الأرض، اشترى قطعة الأرض المجاورة لتنضم لأرضه، فبدلاً من أن تكون له أرض واحدة صارت له أرضان. 

وعندما يأتي واحد لشراء أرض ما، فالجار صاحب الأرض المجاورة يقول: أنا أدخل بالشفعة، أي أنه الأولى بملكية الأرض. 

إذن فمعنى يشفع، هو من يقوم بتعدية أثر الموهبة منه إلى غيره من إخوانه المؤمنين ولهذا فإنه يكون له نصيب منها. 

فالشفاعة الحسنة هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية أو إلى الخلاص من مضرّة وتكون بلا مقابل. 

إذن فكل واحد عنده موهبة عليه أن يضم نفسه لغير الموهوب، فبعد أن كان فرداً في ذاته صار شفعاً. 

ولذلك يقال: فلان سيشفع لي عند فلان، أي أنه سيضم صوته لصوت المستعين به.     

والحق سبحانه وتعالى فيما يرويه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الله قال لسيدنا داود: إن الرجل ليعمل العمل الواحد أحكِّمه به في الجنة. 

أي أن رجلاً واحداً يؤدي عملاً ما، فيعطيه الله فضلاً بأن يقوم بتوزيع الأماكن على الأفراد في الجنة، وكأنه وكيل في الجنة، أي أنه لا يأخذ منزلا له فقط، ولكنه يتصرف في إعطاء المنازل أيضاً، فتساءل داود: يا رب ومن ذلك؟

قال سبحانه: مؤمن يسعى في حاجة أخيه يحب أن يقضيها قضيت أو لم تقض. 

قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين، ومَنْ اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين".

ذلك لأن العبد الذي سعى في قضاء حاجة أخيه يكون قد أدى حق نعمة الله فيما تفضل به عليه، ويكون من أثر ذلك أنه لا يسخط أو يحقد غير الواجد للموهبة على ذي الموهبة.

وبذلك فسبحانه يزيل الحقد من نفس غير الموهوب على ذي الموهبة؛ فغير الموهوب يقول: إن موهبة فلان تنفعني أنا كذلك، فيحبّ بقاءها عنده ونماءها لديه. 

ويقول الحق: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} [النساء: 85] ثم يأتي الحق بالمقابل، فهو سبحانه لا يشرع للأخيار فقط، ولكنه يضع الترغيب للأخيار ويضع الترهيب للأشرار، فيقول: "ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها". 

ولنر المخالفة والفارق بين كلمة "النصيب" وكلمة "الكفل". 

كلمة "النصيب" تأتي بمعنى الخير كثيراً. 

فعندما يقول واحد: أنت لك في مالي نصيب. 

هذا القول يصلح لأي نسبة من المال. 

أما كلمة "كفل" فهي جزء على قدر السيئة فقط. 

وهذا هو فضل من الله، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وهذا نصيب كبير. 

ومن جاء بالسيئة فلا يُجزي إلا مثلها. 

وهذه الآية قد جاءت بعد تحريض الرسول للمؤمنين على القتال، أي أنك يا رسول الله مُطالب بأن تضم لك أناساً يقاتلون معك؛ فتلك شفاعة حسنة سوف ينالون منها نصيباً كبيراً وثواباً جزيلاً. 

أما قول الحق: {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء: 85] أي يكون له جزء منها، أي يصيبه شؤم السيئة، أما الجزاء الكبير على الحسنة فيدفع إلى إشاعة مواهب الناس لكل الناس. 

وما دامت مواهب الناس مشاعة لكل الناس فالمجتمع يكون متسانداً لا متعانداً، ويصير الكل متعاوناً صافي القلب، فساعة يرى واحد النعمة عند أخيه يقول: "سيأتي يوم يسعى لي فيه خير هذه النعمة". 

ولذلك قلنا: إن الذي يحب أن تسرع إليه نعم غيره فليحب النعم عند أصحابها. 

فإنك أيها المؤمن إن أحببت نعمة عند صاحبها جاءك خيرها وأنت جالس. 

وإذا ما حُرمت من آثار نعمة وهبها الله لغيرك عليك فراجع قلبك في مسألة حبك للنعمة عنده، فقد تجد نفسك مصاباً بشيء من الغيرة منها أو كارهاً للنعمة عنده، فتصير النعمة وكأنها في غيرة على صاحبها، وتقول للكاره لها: "إنك لن تقربني ولن تنال خيري". 

ويختم الحق الآية: {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} [النساء: 85] جاء هذا القول بعد الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة، وفي ذلك تنبيه لكل العباد: إياكم أن يظن أحدكم أن هناك شيئاً مهما صغر يفلت من حساب الله، فلا في الحسنة سيفلت شيء، ولا في السيئة سيضيع شيء.  

وأخذت كلمة "مُقيتاً" من العلماء أبحاثاً مستفيضة. 

فعالم قال في معناها: إن الحق شهيد، وقال آخر: "إن الحق حسيب"، وقال ثالث: إن "مقيتاً" معناها "مانح القوت" ورابع قال: "إنه حفيظ" وخامس قال: "إنه رقيب". 

ونقول لهم جميعاً: لا داعي للخلاف في هذه المسألة، فهناك فرق بين تفسير اللفظ بلازم من لوازمه وقد تتعدد اللوازم، فكل معنى من هذه المعاني قد يكون صحيحاً، ولكن المعنى الجامع هو الذي يكون من مادة الكلمة ذاتها. 

و "مُقيت" من "قاته" أي أعطاه القوت، ولماذا يعطيهم القوت؟

ليحافظ على حياتهم، فهو مقيت بمعنى أنه يعطيهم ما يحفظ حياتهم، ومعناها أيضاً: المحافظ عليهم فهو الحفيظ. 

وبما أنه سبحانه يعطي القوت ليظل الإنسان حياً، فهو مشاهد له فلا يغيب المخلوق عن خالقه لحظة، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته فهو حسيب. 

وبما أنه يرقب سلوك الإنسان فهو يجازيه. 

إذن كل هذه المعاني متداخلة ومتلازمة؛ لذلك لا نقول اختلف العلماء في هذا المعنى، ولكن لنقل إن كل عالم لاحظ ملحظاً في الكلمة، فالذي لاحظ القوت الأصلي على صواب، فلا يعطي القوت الأصلي إلا المراقب لعباده دائماً، فهو شهيد، ولا يعطي أحداً قوتاً إلا إذا كان قائماً على شأنه فهو حسيب. 

وسبحانه لا يُقيت الإنسان فقط ولكن يقيت كل خلقه، فهو يقيت الحيوان ويلهمه أن يأكل صنفاً معيناً من الطعام ولا يأكل الصنف الآخر. 

إننا إذا رأينا العلماء ينظرون إلى "مقيت" من زوايا مختلفة فهم جميعا على صواب، سواء من جعلها من القوت أو من الحفظ أو من القدرة أو من المشاهدة أو من الحساب، وكل واحد إنما نظر إلى لازم كلمة "مقيت" وسبحانه يقيت كل شيء، فهو يقيت الإنسان والحيوان والجماد والنبات. 

ونجد علماء النبات يشرحون ذلك؛ فنحن نزرع النبات، وتمتص جذور النبات العناصر الغذائية من الأرض، وقبل أن يصبح للنبات جذورٌ، فهو يأخذ غذاءه من فلقتي الحبة التي تضم الغذاء إلى أن ينبت لها جذر، وبعد أن يكبر جذر النبات فالفلقتان تصيران إلى ورقتين، وسبحانه على كل شيء مقيت، ويقول العلماء من بعد ذلك: إن الغذاء قد امتصه النبات بخاصية الأنابيب الشعرية. 

أي أن النبات يمتص الغذاء من التربة بواسطة الجذور الرفيعة التي تمتص الماء المذاب فيه عناصر الغذاء. 

وفتحة الأنبوبة في الأنابيب الشعرية لا تسع إلا مقدار الشعرة، وعندما توضع في الإناء فالسائل يصعد فيها ويرتفع الماء عن مستوى الحوض، وعندما تتوازى ضغوط الهواء على مستويات الماء فالماء لا يصعد. 

ومثال ذلك: عندما نأتي بماء ملون ونضعه في إناء، ونضع في الإناء الأنابيب الشعرية، فالسائل الملون يصعد إلى الأنابيب الشعرية، ولا تأخذ أنبوبة مادة من السائل، وتترك مادة بل كل الأنابيب تأخذ المادة نفسها. 

لكن شعيرات النبات تأخذ من الأرض الشيء الصالح لها وتترك الشيء غير الصالح. 

وهو ما يقول عنه علماء النبات "ذلك هو الانتخاب الطبيعي". 

ومعنى الانتخاب هو الاختيار، والاختيار يقتضي عقلاً يفكر ويُرَجِّحْ، والنبات لا عقل له، ولذلك كان يجب أن يقولوا إنه "الانتخاب الإلهي"، فالطبيعة لا عقل لها ولكن يديرها حكيم له مطلق العلم والحكمة والقيومية. 

وسبحانه يقول عن ذلك: {يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].

فالفلفل يأخذ المادة المناسبة للحريفية، والقصب يأخذ المادة التي تصنع حلاوته، والرمان يأخذ المادة الحمضية. 

هذا هو الانتخاب الإلهي.

{وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} [النساء: 85] وساعة تسمع {كَانَ ٱللَّهُ} [النساء: 85] فإياك أن تتصور أن لـ "كان" هنا ملحظاً في الزمن، فعندما نقول بالنسبة للبشر "كان زيد غنياً" فزيد من الأغيار وقد يذهب ثراؤه. 

لكن عندما نقول {كَانَ ٱللَّهُ} [النساء: 85] فإننا نقول: "كان الله ومازال"، لأن الذي كان ويتغير هو من تدركه الأغيار. 

وسبحانه هو الذي يُغَيِّر ولا يَتَغَيَّر، وموجود منذ الأزل وإلى الأبد. 

وحين أوضح لنا سبحانه الشفاعة وأمرنا أن يعدي الواحد منا مواهبه إلى غيره فذلك حتى تتساند قدرات المجتمع لأنه يربب الفائد للعبد المؤمن ويرببها للجميع. 

ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ منها...}.



سورة النساء الآيات من 081-085 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
سورة النساء الآيات من 081-085
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سورة النساء الآيات من 011-015
» سورة النساء الآيات من 091-100
» سورة النساء الآيات من 171-176
» سورة النساء الآيات من 016-020
» سورة النساء الآيات من 101-105

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـقــــــــــــــرآن الـكـــــــــــــــريـم :: مجمـــوعــة تفاســـــير :: خواطر الشعراوي :: النساء-
انتقل الى: