منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 سورة النساء الآيات من 076-080

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 076-080 Empty
مُساهمةموضوع: سورة النساء الآيات من 076-080   سورة النساء الآيات من 076-080 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 5:34 am

الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [٧٦]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

وعرفنا أن الطاغوت هو: المبالغ والمسرف في الطغيان، ويطلق على المفرد وعلى المثنى، وعلى الجمع: فتقول: رجل طاغوت، رجلان طاغوت، رجال طاغوت، والحق يقول: {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ} [البقرة: 257].

إذن فالطاغوت يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، وهل الطاغوت هو الشيطان؟.

يصح، أهو الظالم الجبار الذي يطغيه التسليم له بالظلم؟

يصحّ، أهو الذي يفرض الشرّ على الناس فيتقوا شرّه؟

يصحّ، وكل تلك الألوان اسمها "الطاغوت".

والأسلوب القرآني يتنوع فيأتي مرة ليقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13].

وانظر للمقابلة هنا: {ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ} [النساء: 76]، هنا: {آمَنُواْ} [النساء: 76] و{كَفَرُواْ} [النساء: 76] وهنا أيضاً في: {سَبِيلِ ٱللَّهِ} [النساء: 76] و{فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ} [النساء: 76] هذه مقابل تلك.

لكي نعرف العبارات التي ينثرها ربنا سبحانه وتعالى علينا أن ندرك فيها الخطفة الإعجازية، قال في هذه الآية: {ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 76] مقابلات؛ لأن الكافر مفهوم أنه طاغوت، ولكن: إذا ذكرت في الثانية مقابلاً لمحذوف من الأولى، أو حذفت من الأولى مقابلاً من الثانية، هذا يسمونه في الأسلوب البياني احتباكاً كيف؟

ها هو ذا قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] أي تقاتل في سبيل الطاغوت، ويقابلها الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولا بد أن تكون مؤمنة.

إذن فالكلام كله منسجم، فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ} [آل عمران: 13] وترك صفتها كمؤمنة وقال: {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} [آل عمران: 13] وسنعرف على الفور أنها مؤمنة، وربنا يحرك عقولنا كي لا يعطينا المسائل بوضوح مطلق بل لنعمل فكرنا، كي لا يكون هناك تكرار، ولكي تعرف أنه إذا قال: {فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} [آل عمران: 13] يعني مؤمناً، وإذا قال: {فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ} [النساء: 76] يكون كافراً.

ويتابع الحق: {فَقَاتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَانِ} [النساء: 76].

أي نصراء الشيطان الذين ينفخون في مبادئه، والذين ينصرون وسوسته في نفوسهم ليوزعوها على الناس، هؤلاء هم أولياء الشيطان؛ لأن الشيطان -كما نعرف- حينما حدث الحوار بينه وبين خالقه.

قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].

لكنه عرف حدوده ولزمها فقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} [ص: 83].

أي أن مَنْ تريده أنت يا رب لا أقدر أنا عليه.

وهذه تدلنا على أن المعركة ليست بين إبليس وبين الله، فتعالى الله أن يدخل معه أحد في معركة، بل المعركة بين إبليس وبين الخائبين من الخلق، فعندما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] دلّ على أنه عرف كيف يُقْسِم ويحلف؛ لأن ربنا لو أراد الناس كلهم مؤمنين لما قدر الشيطان أن يقرب من أحد، لكن ربنا عزيز عن خلقه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

ومن هنا دخل الشيطان، فالشيطان قد دخل من عزّتك على خلقك سبحانك لأنك لو كنت تريدهم كلهم مؤمنين لما استطاع الشيطان شيئاً، بدليل قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] أي أنا لا أقدر عليهم.

ودلّ قَسَم الشيطان أنه دارس ومنتبه لمسألة دخوله على العباد فقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16].

إذن فالشيطان لن يأتي على الصراط المعوجّ؛ لأن الذي يسير على الصراط المعوج والطريق الخطأ لا يريد شيطاناً؛ فهو مريح للشيطان، ويعينه على مهمته، فيكون وليّه.

فأولياء الشيطان هم كل المخالفين للمنهج، وهم نصراء الشيطان.

والحق يأمرنا: {فَقَاتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَانِ} [النساء: 76].

هؤلاء الذين بينهم وبين الشيطان ولاء، هذا ينصر ذاك، وذاك ينصر هذا، ويطمئننا الحق على ذلك فيقول: {إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا} [النساء: 76]؛ لأن الشيطان عندما يكيد سيكون كيده في مقابل كيد ربه، فلا بد أن يكون كيده ضعيفاً جداً بالقياس لكيد الله، وليس للشيطان سلطان يقهر قالب الإنسان على فعل، ولا يستطيع أن يرغمك على أن تفعل، وليس له حجة يقنعك بها.

والفرق بين مَنْ يكره القالب -قالبك-: أنك تفعل الفعل وأنت كاره، كأن يهددك ويتوعدك إنسان ويمسك لك مسدساً ويقول لك: اسجد لي -مثلاً- إذن فقد قهر قالبك.

لكن هل يقدر أن يقهر قلبك ليقول: "أحبني"؟.

لا يمكن، إذن فالمتجبر يستطيع أن يكره القالب لكنه لا يقدر أن يقهر القلب، فالذي يقهر القلب هو الحجة والبرهان، بذلك يقتنع أن يفعل الفعل وليس مرغماً عليه.

إذن فالأول يكون قوة، والثاني يكون حجة.

والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اعرفوا أن هذا الشيطان ضعيف جداً، فهو لا يملك قوة أن يرغمك فإذا أغواك تستطيع أن تقول له: لن أفعل، ولا يستطيع أن يأتي لقلبك ويقول لك: لا بد أن تفعل ويحملك على الفعل قهرا عنك.

فليس عنده حجة يقنعك بها لتفعل، فهو ضعيف، فلماذا تطيعونه إذن؟.

إنكم تطيعونه من غفلتكم وحبكم للشهوة، والشيطان لا يقهر قلبكم، ولا يقهر قالبكم.

بل يكتفي أن يشير لكم!!

ولذلك سيقول الشيطان في حجته يوم القيامة على الخلق: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22].

أي لم يكن لي عليكم سلطان: لا سلطان قدرة أرغمكم على فعلكم بالقالب، ولا سلطان حجة أرغمكم على أن تفعلوا بالقلب، أي أنتم المخطئون وليس لي شأن، إذن فكيد الشيطان ضعيف.

و "الكيد" -كما نعرف- هو: محاولة إفساد الحال بالاحتيال، فهناك مَنْ يفسد الحال لكن ليس بحيلة، وهناك مَنْ يريد أن يفسدها بحيث إذا أمسكت به يقول لك: لم أفعل شيئاً؛ لأنه يفعل الخطأ في الخفاء.

ويفسد الحال بالاحتيال.

والكيد لا يقبل عليه إلا الضعيف.

إن القوي هو مَنْ يواجه من يكيد له، فالذي يدسّ السّم لإنسان آخر في القهوة -مثلاً- هو مَنْ يرتكب عملاً لإفساد الحال باحتيال؛ لأنه لا يقدر أن يواجه، أما القوى فهو يتأبى على فعل ذلك، وحتى الذي يقتل واحداً ولو مواجهة نقول له: أنت خائف، أنت أثبت بجرأتك على قتله أنك لا تطيق حياته، لكن الرجولة والشجاعة تقتضي أن تقول: أبقيه وأنا أمامه لأرى ماذا يقدر أن يفعل.

إذن فكيد الشيطان جاء ضعيفاً لأنه لا يملك قوة يقهر بها قالباً، ولا يملك حجة يقهر بها قلباً ليقنعك، فهو يشير لك باحتيال وأنت تأتيه: ولا يحتال إلا الضعيف.

وكلما كان ضعيفاً كان كيده أكثر، ولذلك كانوا يقولون مثلاً: المرأة أقوى من الرجل لأن ربنا يقول: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].

ونقول لهم: ما دام كيدهن عظيماً؛ إذن فضعفهن أعظم، وإلا فلماذا تكيد؟.

ولذلك يبرز الشاعر العربي هذا المعنى فيقول:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة
قتلت كذلك قــــدرة الضعفاء

لأن الضعيف ساعة يمسك خصمه مرة.

وتمكنه الظروف منه؛ يقول: لن أتركه لأنني لو تركته فسيفعل بي كذا وكذا.

لكن القوي حينما يمسك بخصمه، يقول: أتركه وإن فعل شيئاً آخر أمسكه وأضربه على رأسه، إذن فإن كان الكيد عظيماً يكون الضعف أعظم.

ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ...}.



سورة النساء الآيات من 076-080 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 076-080 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 076-080   سورة النساء الآيات من 076-080 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 5:35 am

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [٧٧]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

نعرف أن الحق ساعة يقول: {أَلَمْ تَرَ} [النساء: 77] يعني: إن كانت مرئية في زمنها، فلك أن تتأمل الواقعة على حقيقتها، وإن كانت غير مرئية فمعناها: ألم تعلم، ولكن العلم بإخبار الله أصدق من العين.

وحين يقول الحق: {كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] لا بد أن تكون بوادر مدّ الأيدي موجودة، فلن يقال لواحد لم يمد يده: كيف يدك.

والكلام هنا في القتال، فيكون قد كفوا أيديهم عن القتال، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جاء في المقابل فقال: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ} [النساء: 77] إذن فقد قيل لهم: {كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] لأن بوادر مدّ الأيدي للقتال قد ظهرت منهم إما قولاً بأن يقولوا: دعنا يا رسول الله نقاتل، وإما فعلاً بأن تهيأوا للقتال.

وعندما يقول القرآن: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ} [النساء: 77] دل هذا القول على وجود زمنين بصدد هذه الآية: زمن قيل لهم: كفّوا أيديكم، وزمن كُتِبَ عليهم القتال، فنفهم من هذه أنه كانت هناك بوادر المدّ اليد إلى القتال قبل أن يكتب عليهم القتال والذين قالوا: دعنا نقاتل هم: ابن عوف وأصحاب له، ولو كان الأمر بالقتال متروكاً للرسول لكان قد أمرهم بمجرد أن قالوا ذلك.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم" فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77].

وهذا دليل على أنه منتظر أمر السماء.

وبعد ذلك كتب الله عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال تملص البعض منه، مصداقاً لقول الحق: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77] فلماذا هذه الخشية وهم مؤمنون: هل هذا يعني أنهم خافوا الناس أو رجعوا في الإيمان؟.

كما طلب بعض من بني إسرائيل القتال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ} [البقرة: 246].

إذن فعندما تصل المسألة إلى الأمر التطبيقي، قد يدب في نفوسهم الخَوَر والخوف، والحق سبحانه لم يمنع الأغيار أن تأتي على المؤمن، فما دام الإنسان ليس رسولاً ولا معصوماً فلا تقل: فلان عمل كذا أو فلان عمل كذا؛ لأن فلانا هذا لم يدع أنه معصوم، ولذلك يصح أن تأتي منه الأخطاء، وتأتيه خواطر نفسه، وتأتيه هواجس في رأسه، ويقف أحياناً موقف الضعف، ولذلك عندما يقول لك واحد: فلانة عملت كذا وفلان عمل كذا، قل له: وهل قال أحد إن هؤلاء معصومون؟

وما داموا غير معصومين فقد يتأتى منهم هذا.

والله يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 77] وهذا يعني أنهم ليسوا سواء، ففريق منهم أصابه الضعف، وفريق آخر بقي على شدته وصلابته في إيمانه لم تلن له قناة ولم ينله وهن ولا ضعف، ثم انظر أدب الأداء.

لم يقل: فلان أو فلان.

بل قال: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 77] وهذا يستدعي أن يبحث كل إنسان في نفسه، وهذه عملية أراد بها الحق الستر للعبد، وما دام الستر قد جاء من الرب، فلنعلم أن ربنا أغير على عبده من نفسه، ولذلك نقول دائماً: ساعة يستر ربنا غيب الناس على الناس فهذا معناه: تكريم للناس جميعاً.

وهب أن الله أطلعك على غيب الناس أتحب أن يطَّلع الناس على غيبك؟!

لا، إذن فأنت عندما ترى أن ربنا قد ستر غيبك عن الناس وستر غيب الناس عنك فاعرف أن هذه نعمة ورحمة؛ لأن الإنسان ابن أغيار، فيصح أن واحداً أساء إليك في نفسه ولم يرغب أن تعرف ذلك، وأنت أيضاً تريد أن تتخلص منه وتكرهه، فلو أطلعه الله على ما في قلبك، أو أطلعك على ما في قلبه لكانت معركة يجرح فيه كل منكما كرامة الآخر، لكن ربنا ستر غيب خلقه عن خلقه رحمة بخلقه.

وأنت أيضاً أيها العبد قد تعصيه ويحب أن يستر عليك، ويأمر الآخرين ألا يتقصوا أخبارٍ معصيتك له.

بالله أيوجد رَبٌ مثل هذا الرُّبُّ؟

شيء عجيب؛ فقد تكون عاصياً له ويحب أن يستر عليك، ويأمر غيرك: إياكم أن تتبعوا عورات الناس، فقد يكون عندهم بعض الحياء، ويكونون مستترين في أسمالهم وملابسهم لماذا؟

حتى لا يفقدوا أنفسهم أو يضلوا طريق التوبة لربهم.

إذن فالحق يرحم المجتمع، ولكن الخيبة من الناس أنهم يلحون على أن يعلموا الغيب ويبحثوا عمَّن يكشف لهم الطالع.

ونقول لِمَنْ يفعل ذلك: يا رجل لقد ستر الله الغيب عنك نعمة منه عليك، فاجعله مستوراً كما أراد الله.

إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77] والواحد من هذا الفريق يخشى القتال والقتل، ويخاف من الموت؛ لأنه سيأخذه إلى جزاء العمل الذي عمله في الدنيا، ولذلك نجد أحد الصحابة يقول: أكره الحق.

فتساءل صحابي آخر: كيف تكره الحق؟

قال: أكره الموت ومَنْ منا يحبه! ولماذا يخشى الناس القتال؟

لأن الله حين يُميت؛ يُميت بدون هدم بنية، ولكن الأعداء في القتال قد يقطعون جسد الإنسان ويمثلون به، لكن إن استحضر العبد الجزاء على هذه المُثْلَة تهون عليه المسألة.

{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ} [النساء: 77] وكأنهم قد نسوا أنهم طلبوا القتال، كي نعرف أن النفس البشرية حين تكون بمنأى عن الشيء تتمناه، وعندما يأتيها تعارضه.     

{وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77] فهل جاء هذا الكلام منهم على سبيل الاستفهام؟

يوضح الله لنا ذلك: إنهم يقولون: يا رب لماذا ابتليتنا هذا الابتلاء، وقد لا نقدر عليه في ساعة الخوف من لقاء المعارك؟

لذلك طلبوا أن يؤجل الله ذلك وأن يجعلهم يموتون حتف أنوفهم لا بيد العدو، وكلمة: {إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77] توضح أن كل واحد منهم يعي تماماً أنه سيموت حتماً، لكن لا أحد منهم يريد أن تنتهي حياته بالقتل.

ولماذا لا تطلبون التأخير؟

أحُباً في الدنيا ومتاعها؟

ويأتي جواب الحق: {قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] ولا يصح أن تحرصوا عليه أيها المؤمنون حرصاً يمنعكم أن تذهبوا لتقاتلوا، فكلكم ستموتون، وكل منا يجازيه ربنا على عمله، أما الذي يُقتل في سبيل الله فسيجازيه على عمله فوراً، ويعطيه حياة أخرى مقابل الموت.

لأنه سيأخذ الشهادة، ولذلك يأمر الحق رسوله بأن يقول: {قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ} [النساء: 77] إن قارنته بما يصل إليه المرء من ثواب عظيم إن قتل في الحرب جهاداً في سبيل الله.

قال بعضهم: إذا كان لا مفر من الموت، فلماذا لا نذهب لنقاتل في سبيل الله، فإن قتلنا فليكن موتنا بثمن زائد عن عملنا، إذن فهذا تربيب وتنمية للفائدة.

ولذلك قال الحكيم:
ولو أن الحياة تبقى لحي
لعددنا أضلَّنـــــا الشجعان

أي أن الحياة لو كانت تبقى لحي لكان أضل ناس فينا هم الشجعان الذين يقتلون أنفسهم في الحرب، لكن المسألة ليست كذلك.

والشاعر العربي يقول:
ألا أيها الزاجري أحضـــر الوغي
وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي

والمتنبي يقول:
أرى كلنــا يبغى الحيـــاة لنفســـــــه
حريصاً عليها مستهامــاً بهــا صبـا
فحب الجبــــان النفـــس ورثه التقى
وحب الشجاع النفـس أورده الحربا

إذن فالاثنان يحبان نفسيهما، لكن هناك فرقاً بين الحب الأحمق والحب الأعمق. وعندما ننظر إلى إجمالي السياق في الآية نجد أن الحق سبحانه يربي -في صدر الإسلام- الفئة المؤمنة تربية إيمانية لا تخضع لعصبية الجاهلية ولا لحمية النفس، ففريق من المؤمنين بمكة الذين ذاقوا الاضطهاد أحبوا أن يقاتلوا، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبلغهم أنه لم يؤمر بالقتال بعد، وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يصبروا على ما هم فيه حتى يأذن الله بالقتال.

وتلك تربية أولى للفئة المؤمنة؛ لأن الإسلام جاء وفي نفوس العرب حمية وعصبية وعزة وأنفة، فكلما أهيج واحد منهم في شيء فزع إلى سيفه وإلى قبيلته وشنها حرباً، فيريد الله سبحانه أن يستل من الفئة المؤمنة الغضب للنفس والغضب للعصبية والغضب للحمية، وأراد أن يجعل الغضب كله لله.

وحينما جاء الإذن بالقتال، جاء لا ليفرض على الناس عقيدة، ولا ليكرههم على إسلام، وإنما جاء ليحمي النفس الإنسانية من أن يتسلط عليها الأقوى الذي يريد أن يجعل الأَضعف تبيعاً له، فأراد سبحانه أن يحرر الاختيار في الإنسان فكان القتال حفاظاً على كرامة الإنسان أن يكون تبيعاً في العقيدة لغيره، وبعد ذلك يعرض قضية عرضاً عقلياً؛ فمن استجاب له فمرحباً به، ومن لم يستجب فله أن يظل على دينه.

وهذا يدل على أن الإسلام دين منع التسلط على عقائد الناس، وضمن لهم الحرية في أن يختاروا ما يحبون من العقائد بعد أن بين لهم الرشد من الغي.

وحينما شرع الله القتال فقد شرعه دون أن يكون هناك أدنى تدخل لغضب النفس ولا لحميتها ولا لعزتها، ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن يصور العواطف الإنسانية التي تواجه الإسلام ويواجهها الإسلام تصويراً طبيعياً.

فبين لنا أن الطبع الإنساني يعالج بالتربية، ولهذا نجد أن بعضاً من الذين طلبوا القتال خافوا: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77].

إذن فهناك فرق بين نظرية أن نقاتل، وأن نخوض القتال بالفعل؛ لذلك تجد أن منهم من خاف الذهاب إلى القتال خشية أن يُقتلوا، والقتل كما تعلمون: هدم بنية، ولكن الموت حتف الأنف هو الذي يسحب به الله الروح الإنسانية، دون هدم بنية أو نقص لها.

وأيضاً فالقتال يكون مظنة القتل، والخوف من القتال مظنة التراخي في الأجل، فالقتل موت مقرب أمام المقاتل، لكن الموت حتف الأنف علمه عند الله؛ لذلك قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ} [النساء: 77].

فهل كان طلبهم للقتال لقصد الحمية، وسبحانه يريد أن يبرئ المؤمن أن يكون قتاله للحمية؛ لأنه جل وعلا يريد أن تكون المعركة إيمانية؛ لتكون كلمة الله هي العليا حتى ولو كان المخالف له صلة نسب أو صلة عصب أو صلة عواطف.

والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية ستواجه عنفاً شرساً في تثبيت قاعدة الاختيار الإيماني في البشر، فقال الحق لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: إن قالوا لك ذلك {قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]، فالحرص على أن يستبقي المؤمن نفسه من القتل ليموت بعد أجل قريب يعني أن يريد أن يأخذ من الحياة فرصة أكبر، فأوضح الحق: لا، ضعوا مقياسا تقيسون به الجدوى، فسبحانه قال: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ} [التوبة: 111].

إنه شراء وبيع.

وأيضاً قال سبحانه في الصفقة الإيمانية: {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].

إذن فالله يعاملنا بملحظ النفعية الإنسانية، واللبق، الفطن، الذكي هو الذي يتاجر في الصفقة الرابحة أو المضمونة أو التي تكون جدواها والفائدة منها أكثر من سواها.

فلو أننا قارنا الدنيا، لعلمنا أنها مهما طالت لا تؤثر ولا تزيد في عمر الفرد؛ لأن الدنيا تطول في الزمن، لكنها بالنسبة للأفراد تكون بمقدار عمر كل واحد فيها، لا بمقدار أعمار الآخرين، فإن دامت للآخرين طويلاً، فما دخل الفرد في ذلك؟

إذن فالدنيا بالنسبة للفرد هي زمن محدد، والله يبشر المؤمن الذي يقتل في سبيله أنه يأخذ من الصفقة زمناً غير محدود.

وأيضاً فالبقاء في الدنيا بدون قتل وإلى أن يموت الواحد حتف أنفه، هو بقاء مظنون وغير متيقن.

ونحن نرى مَنْ يموت طفلاً أو شاباً أو كهلاً.

أمّا الآخرة فهي غير محدودة وهي متيقنة.

إن النعيم في الدنيا يكون على مقدار تصور الفرد للنعيم وإمكانات الفرد في تحقيق النعيم. 

وأما النعيم في الآخرة فيكون على المقدار الذي أعده الله لعباده بطلاقة قدرته وسعة رحمته. 

فإن قارنا صفقة الدنيا بالآخرة لوجدنا أن متاع الدنيا على فرض أنه متاع هو قليل بالنسبة للآخرة.

إذن فالحق ينمي فينا قيمة الصفقة الإيمانية، ويعلم أن كل إنسان يحب الخير لنفسه، فلا يظنن أحد أن الدين جاء ليسلبه الحرية، أو ليستذله، فالدين إنما جاء ليربب للمؤمن النفعية وينميها له.

ومثال ذلك عندما منع الدين واحداً أن يسرق الآخرين فهو قد منع أيضاً كل الآخرين أن يسرقوا من أي واحد، وبذلك يكسب كل إنسان حماية الدين له، فحين يمنع الواحد عن فعل خطأ في حق الآخرين فهو قد منع الآخرين وهم ملايين أن يخطئوا في حقه.

فإذا قال الدين لواحد: لا تمد عينيك إلى محارم غيرك، ففي هذا القول ما يوصي كل غيرٍ في الدنيا: لا تمدوا أعينكم إلى محارم فلان، فالكسب العظيم -إذن- يعود على الفرد.

وقول الحق: {قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ} [النساء: 77] يوضح لنا عظمة الصفقة الإيمانية، وبعد ذلك يؤكد لنا العدل في قوله: "ولا تظلمون فتيلاً" ونعرف أن الفتيل هو ما فُتل من الأقذار حينما يدعك الإنسان كفيه معاً، فيخرج ناتجاً كالفتلة، أو الفتيل هو الفتلة في بطن النواة، أي لا نظلم حتى في الشيء التافه.

والعدالة هنا بمشروطها؛ لأن الله أوضح أن من يصنع السيئة يجازي بسيئة مثلها، ومن يصنع حسنة يجازي بعشرة أمثالها أو أكثر.

وهكذا لا ترهق العدالة مؤمناً لأنها تأتي بفضلها، فالحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، وتحسب الحسنة عند الله في ميزان العدالة بما أخذ من الفضل، فلا يقولن واحد: إن هناك عدلاً من الله بدون فضل.

إذن فقول الحق: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] هو بضميمة الفضل إلى العدل.

ولذلك نحن ندعو الله قائلين: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ لأن مجرد العدل قد يتعبنا.

وندعو الله: وبالإحسان لا بالميزان؛ لأنه لو عاملنا بالميزان قد نتعب.

وندعو الله: وبالجبر لا بالحساب، والجبر هو أن يجبرنا الله، وهكذا نرى أن قوله الحق: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] بلاغ من الحق لنا: أننا سنعدل معكم بالفضل فتكون السيئة بواحدة، وتكون الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر.

وقوله الحق: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] يعني فيما قضى به سبحانه متفضلاً بالفضل مع العدل.

وسبحانه يريد أن يطمئننا على أن قضايا الإيمان يجب أن يحافظ عليها، فإياك أن تظن أن عملك هو الذي سيعطيك الجزاء، إنما فضل الله هو الذي سيعطيك الجزاء.

يقول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

فالفضل هو الذي يُفرح قلب المؤمن.

ثم يأتي الحق سبحانه ليرد من بعد ذلك على قضية قالها المنافقون حينما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحد، ثم قتل من قتل من المسلمين؛ فقال المنافقون: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] ففهموا أن العندية عندهم حصن لهم من الموت، وأن الذهاب إلى القتال هو الذي يجلب الموت.

ونعرف أن كل حدث من الأحداث له زمان وله مكان ونسميه الظرف.

إن الذين درسوا "الظرف" في النحو يقولون: "ظرف زمان أو ظرف مكان"، فكل حدث من الأحداث لا بد أن يوجد له زمان ومكان.

والزمان في الموت مبهم والمكان في الموت أيضاً مبهم، فظرف حدث الموت زماناً أو مكاناً مبهم، وحين يبهم الله شيئاً؛ فلا تظنوا أنه يريد أن يخفيه ويُغمضه علينا، إن الحق يبهم الأمر ليوضحه أوضح بيان، فالإبهام من عنده أوضح بيان، كيف؟.

إنه سبحانه حين يجهلنا بزمن الموت ويخفيه علينا فمعنى ذلك أن الإنسان قد يستقبل الموت في أي لحظة، وهل هناك بيان أوضح من هذا؟.

فحين جهَّلنا بزمن الموت فهو لم يمنع عنا معرفة زمنه، ولكنه أشاع زمنه في كل زمن، فلا أحد بقادر على الاحتياط من زمن الموت، وكذلك الحال في مكان الموت.

وها هوذا الحق يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ...}.



سورة النساء الآيات من 076-080 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 076-080 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 076-080   سورة النساء الآيات من 076-080 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 5:39 am

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [٧٨]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

والحق هنا يتعرض لقضية الموت مع المكان فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] فالعقل البشري الذي يتوهَّم أن بإمكانه الاحتياط من الموت -مكاناً- عليه أن يعي جيداً أنه لا يستطيع ذلك، فوجود الشخص عند ظرفٍ ما لا يدفع ولا يمنع عنه الموت، فالعندية سواء في معسكر الكفر أو في معسكر الإيمان لن تمنع حدوث الموت.

والعندية -كما نعلم- تعطي ظرف المكان.

فلطافة تغلغل الموت تخترق أي مكان وزمان ما دام الحق قد قضى به.

وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته كثيرون، لكن إن نظرنا إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف.

فكلما لطف عدو الإنسان ودق؛ كان عنيفاً، وكلما كان ضخماً كان أقل عنفاً.

فالذي له ضخامة قد يهول الإنسان ويفزعه، ولكن بإمكان الإنسان أن يدفعه.

لكن متى يكون العدو صعباً؟

يكون العدو صعباً كلما صغر ولطف ولا يدخل تحت الإدراك.

فيتسلل إلى الإنسان.

ومثال ذلك: هب أن واحداً يبني بيتاً في خلاء ويمر عليه إنسان ليبارك له وضع أساس البيت فيقول لصاحب البيت: إنك لم تحتط لمثل هذا المكان، فهو يمتلئ بالذئاب والثعالب ويجب أن تضع حديداً على النوافذ التي في الدور الأول، وذلك حتى لا تدخل إليك هذه الحيوانات المفترسة.

ويضع صاحب البيت حديداً على نوافذ الدور الأول.

ويجيء واحد ثان ويقول له: لقد فاتك أن هذا المكان به ثعابين كثيرة وعليك أن تضيق فتحات الحديد، ويفعل ذلك صاحب البيت ليرد الثعابين.

ويجيء ثالث لزيارة صاحب البيت فيقول: إنني أتعجب منك كيف تحترس من الذئاب والثعابين ولا تحتاط من ذباب هذه المنطقة؟.

إنه ذباب سام.

وهنا يضع صاحب البيت سلكاً على النوافذ.

ويجيء واحد رابع ليقول لصاحب البيت؛ في هذه المنطقة حشرات أقل حجماً من الذباب وأكثر عنفاً من البعوض ويمكنها أن تتسلل من فتحات السلك الذي تضعه على نوافذك، فيخلع صاحب البيت السلك المعلق على نوافذ البيت ويقوم بتركيب سلك آخر فتحاته أكثر ضيقاً بحيث لا تمر منه هذه الحشرات.

إذن فعدوك كلما لطف ودق عن الإدراك كان عنيفاً.

ولذلك فأخطر المكيروبات التي تتسلل إلى الإنسان، ولا يدري الإنسان كيف دخلت إلى جسده ولا كيف طرقت جلده، ولا يعرف إصابته بها إلا بعد أن تمر مدة التفريخ الخاصة بها وتظهر بجسده آلامها ومتاعبها.

إنها تدخل جسم الإنسان دون أن يدري، ولا يعرف لذلك زماناً أو مكاناً.

ويلفتنا سبحانه إلى أن الشيء عندنا كلما لطف ازداد عنفاً، ولا تمنعه المداخل.

فما بالكم بالموت وهو ألطف من كل هذا، ولا أحد يستطيع أن يحتاط منه أبداً.

وما مقابل الموت؟.

إنه الحياة حيث توجد الروح في الجسد.

وما كنه الروح؟

لا يعرف أحد كنه الروح على الرغم من أنه يحملها في نفسه، ولا أحد يعرف أين تكون الروح أو ما شكلها، ولا أحد يعرف مَنْ رآها أو سمعها أو لمسها.

وعندما يقبضها الله فإن الحياة تنتهي.

والحق هو الذي جعل للحيّ روحاً، وعندما ينفخها فيه تأتي الحياة.

إن الحق -سبحانه- يلفتنا وينبهنا إلى ذلك فيترك في بعض ماديتنا أشياء لا يستطيع العلماء بالطب ولا المجاهر أن يعرفوا كنهها وحقيقتها، فنحن لا نعرف -مثلاً- الفيروس المسبب لبعض الأمراض.

فإذا كان الله قد جعل للإنسان روحاً يهبه بها الحياة، فلماذا لا نتصور أن للموت حقيقة، فإذا ما تسلل للإنسان فإنه يسلب الروح منه، وبذلك نستطيع أن نفهم قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الملك: {تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ} [الملك: 1-2].

إذن فالموت ليس عملية سلبية كما يتوهم بعض الناس، بل عملية إيجابية، وهو مخلوق بسرّ دقيق للغاية يناسب دقة الصانع.

ووصف الحق أمر الموت والحياة في سورة الملك وقدم لنا الموت على الحياة؛ مع أننا في ظاهر الأمر نرى أن الحياة تأتي أولاً ثم يأتي الموت.

لا، إن الموت يكون أولاً، ومن بعده تكون الحياة.

فالحياة تعطي للإنسان ذاتية ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما يلائم حياته ويمتع به السمع والبصر، فيظن أن الحياة هي المخلوقة أولاً.

ينبهنا ويوضح لنا الحق: لا تستقبل الحياة إلا إذا استقبلت قبلها ما يناقض الحياة، فيقول لنا عن نفسه: {ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ} [الملك: 2] وهذا ما يسهل علينا فهم الحديث القدسي الشريف الذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويأتي الحق سبحانه بالموت في صورة كبش ويذبحه.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وَجِلِين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه.

فيقال: هل تعرفون هذا؟

قالوا: نعم رَبَّنَا، هذا الموتُ، ثم يُقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين، أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه.

فيُقال: هل تعرفون هذا؟

قالوا: نعم هذا الموت، فيأمر به فيُذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين "كلاهما": "خلود فيما تجدون لا موت فيه أبداً".

وتجسيد الموت في صورة كبش معناه أن للموت كينونة.

ويعلمنا الله أنه يقضي على الموت، فنحيا في خلود بلا موت.

وينبه الناس الذين كفروا وظنوا أن الذين قتلوا في سبيل الله لو كانوا عندهم لما ماتوا.

نقول لهم: العندية عندكم لا تمنع الموت.

ولو كان من دنا أجله وحان حَيْنه يسكن في بروج مشيدة لأدركه الموت.

أن الأداء القرآني يتنوع؛ فهناك من الأداء ما نفهمه من الألفاظ، وهناك ما نفهمه من الهَدْى الأسلوبي للقرآن؛ لأنه خطاب الرب.

فالبشر فيما بينهم يتخاطبون بملكات لغوية وملكات عقلية، لكن عندما يخاطب الحقُّ الخلقَ فسبحانه يخاطب كل ملكات النفس.

ولذلك نجد طفلاً صغيراً يحفظ القرآن ويمتلئ بالسرور، فيسأله واحد من الكبار: ما الذي يسرك في حفظ القرآن؟.

فيجيب الصغير: إنني أحس بالانسجام وكفى.

هو لا يعرف لماذا يحس بالانسجام من سماع القرآن أو حفظه، فالمتحدث هو الله، وسبحانه بقدرته وجمال كماله يخاطب كل الملكات النفسية.

وسبحانه وتعالى يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ} [النساء: 78] أي أينما توجدوا يدرككم الموت.

وكلمة "يدرككم" دليل على أن الإنسان عندما تدب فيه الروح ينطلق الموت مع الروح، إلى أن يدركها في الزمن الذي قدره الله.

وكلمة "يدرك" توضح لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها وكما قال الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة: "حتى إذا أدركها جرت، فلا أحد منكم إلا هو مُدْرَك"، ولذلك يقول أهل المعرفة والإشراق: "الموت سهم أرسل إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك".

وهكذا نعرف أن قوله الحق: {يُدْرِككُّمُ} [النساء: 78] تدل على أن الموت يلاحق حياة الإنسان ويجري وراء روحه حتى يدركها.

ويقول الحق: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].

وعندما نبحث في الحروف الأصلية لمادة كلمة "البروج" نستطيع أن نرى المعنى العام لها.

والحروف الأصلية في هذه الكلمة هي "الباء" و "الراء" و "الجيم" وكلها تدل على الارتفاع والظهور.

فيقال: "هذه امرأة فيها بَرَج" أي أن عيونها واسعة وتحتل قدراً كبيراً من وجهها وتكون واضحة، فالبَرَجُ هو الاتساع والظهور.

والأبراج عادة كان بناؤها مرتفعاً كحصون وقلاع نبنيها نحن الآن من الأسمنت والحديد.

والقصد من{مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] أي أنها بروج تم بناؤها بإحكام، فالشي قد يكون عالياً ولكنه قد يكون هشاً.

أما الشيء المشيد فهو من "الشِّيد" وهو "الجص"، ومن "الشَّيْد" وهو "الارتفاع"، والمقصود أن لبنات البرج تلتحم أبعاضها وأجزاؤها بالجص فهي مرتفعة متماسكة.

إنك إذا رأيت جمعاً وقوبل بجمع فمعنى ذلك أن القسمة تعطينا آحاداً.

فساعة يدخل المدرس الفصل يقول لطلابه: أخرجوا كتبكم.

فمعنى هذا القول أن يخرج كل تلميذ كتابه.

وعلى ذلك يكون القياس.

فلو بني كل إنسان لنفسه برجاً مشيداً لجاءه الموت.

والجمع مقصود أيضا: أي لو كنتم جميعاً معتصمين ببرج محاط ببرج آخر وثالث ورابع، كأنه حصن محصن فالحصون في بعض الأحيان يتم بناؤها وكأنها نقطة محاطة بدائرة صغيرة.  

وحول الدائرة دائرة أخرى أوسع.

ولذلك تجد الحصن نقطة محاطة بعدد من الحصون.

والموت يدرك البشر ولو كانوا في برج محاط ببروج.

وكلا المعنيين يوضح قدرة الحق في إنفاذ أمره بالموت.

وساعة يتكلم سبحانه عن الموت وعن الحياة في الجهاد فهو يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ لأن الدين هو نور طارئ على ظلمة، والذين يعيشون في الظلام يكونون قد ألفوا الظلمة والفوضى وكل منهم يعربد في الآخرين.

وعندما جاء الدين فرّ بعضهم من مجيء النور؛ لأن النور يحرمهم من لذات الضلال؛ ولأن النور يوضح الرؤية.

لذلك يوضح سبحانه وتعالى أنه أتى بالموت ليؤدي حاجتين: الحاجة الأولى: أنّ مَن يؤمن عليه أن يستحضر الموت لأن جزاءه لا يكون له منفذ إلا أن يموت ويلقى ربه، ويعلم أن الحاجب بينه وبين جزاء الخالق هو الموت، فساعة يسمع كلمة الموت فهو يستشرف للقاء الله؛ لأنه ذاهب إلى الجزاء.

والحاجة الثانية: أن غير المؤمن يخاف الموت ويخشاه ولا يستعد له ويخاف أن يلاقي ربه.

إذن فكلمة {ٱلْمَوْتُ} [النساء: 78] تعطي الرَّغب والرَّهَب.

فصاحب الإيمان ساعة يسمع كلمة الموت يقول لنفسه: إن متاعب الدنيا لن تدوم، أريد أن ألقى ربي.

ولذلك يجب أن يستحضر المؤمنون بالله تلك القضية.

وحين يستحضرون هذه القضية يهون عليهم كل مصاب في عزيز؛ فالإنسان ما دام مؤمناً فهو يعرف أن العزيز الذي راح منه إمَّا مؤمن وإمَّا غير مؤمن، فإن كان مؤمناً فليفرح له المؤمن الذي افتقده؛ لأن الله عجَّل به ليرى خيره، فإن حزنت لفقد قريب مؤمن فأنت تحزن على نفسك.

وإن كان الذي ذهب إلى ربه غير مؤمن، فالمؤمن يرتاح من شره.

إذن الموت راحة، والذي عمل صالحاً يستشرف إليه، وهذا رَغَب، أما الكافر فهو خائف؛ وهذا رَهَب.

ولذلك فمن الحمق أن يحزن الإنسان على ميْت، وعليه أن يلتفت إلى قول الحق: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].

ويتابع الحق: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78].

ومثل هذا الكلام أليق بمَنْ؟

الذي يقول عن الحسنة إنها من عند الله فهو يؤمن بالله وهذه الكلمة لها في ذهنه تصور.

والآية لا تريد هذا الصنف من الناس ولكن بعضهم يريد أن يفرق بين محمد وربه.

فينسب الخير والحسنة لله، وينسب الشر والسيئة لمحمد، وعلى هذا فالذين قالوا مثل هذا الكلام إمَّا أن يكونوا من المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم وولاءهم لرسول الله وفي قلوبهم الكفر، وإمَّا أن يكونوا من بعض أهل الكتاب لأنهم يؤمنون بالله ولكنهم لا يعترفون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهؤلاء وأولئك ينظرون إلى الأمر الذي فيه خير على أساس أنه من عند الله، ويلقون اتهاماً باطلاً لرسول الله أنه مسئول عن الشرور التي تحدث لهم.

كأنهم يريدون أن يقيموا انعزالاً بين محمد وربه.

لا.

فسبحانه لا يتيح لهم ذلك؛ فقد أنزل قرآناً يتلى إلى أبد الآبدين: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80].

والحق يقول: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ} [آل عمران: 31].

فلا أحد يملك أن يصنع مضارة بين محمد وربه؛ لأن محمداً رسول من عند الله مبلغ لقول الله ومنهجه، وسبحانه يقول: {وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 74].

والحق سبحانه وتعالى لا يرضى عن عبد يستغفر الله فقط، ولكن لا بد أن يذهب العبد ويطلب من رسول الله أن يستغفر له الله، فلا أحد يمكنه أن يقيم صلحاً مع الله من وراء محمد رسول الله، فلا تفرقوا بين أمر الله وأمر رسول الله، ومن يريد أن يصنع مضارة بين الله ورسوله بأن يقول عن الحسنة إنها من عند الله، وأن السيئة من عند محمد، فهذا قول خاسر.

ما حكاية هذا القول؟

إنهم إن ذهبوا إلى حرب فغنموا قالوا: "إن الله أسعدنا بالغنائم".

وإن هُزِموا قالوا: إن محمداً هو الذي أوقع بنا الهزيمة، وكأن لمحمد تصرفاً دون تصرف الله.

فإياك أن تُخدع بمن يحاول أن يعزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه.

إن محمداً قد بعثه الله وأنزل عليه القرآن.

وكان رسول الله حين نزلت الدعوة يأمل أن يستجيب له القوم الذين يؤمنون بالله وهم أهل الكتاب.

وكانوا أقرب إلى قلبه من القوم الذين لا يؤمنون بالله وهم المشركون، وكان هناك معسكران: معسكر الفرس، ومعسكر الروم، وكان معسكر الفرس يعبد النار -معاذ الله- أما معسكر الروم فهو يؤمن بالله وبالكتب السابقة على رسول الله ولكنه كافر بمحمد.

والذي يؤمن بالله كان قريباً إلى قلب محمد ممن كفر بالله، وهذا دليل على أن عصبية محمد قد أتت له من الله.

وقد ينصرف المعنى إلى اليهود.

فحينما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان من المصادفة أن تقل ثمارهم ومزارعهم؛ فقالوا: مزارعنا وثمارنا في نقص منذ قدم هذا الرجل.

وهل كان ذلك الأمر مصادفة أو أننا نجد له تعليلاً مادياً؟

فحينما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أنكروه بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وسلب مجيئه منهم السلطة الزمنية التي كانت لهم؛ لأنهم كانوا أهل مال، ويتعاملون بالربا ويثيرون العصبية، ويتاجرون من أجل أن تظل لهم السيادة، وهم أهل علم بالكتاب وحاولوا التجارة بكلمات الله.

فكانت لهم السيادة من ثلاث جهات: علمياً ومالياً ومنهجياً.

وعندما جاء الإسلام ألَّف بين الأوس والخزرج فبارت أسلحتهم وضاعت منهم السلطة التي صنعوها بالتفرقة، وضاعت منهم سيادة المال؛ لأن الإسلام حرم الربا، وضاعت منهم سيادة المنهج لأن الإسلام كشف تحريفهم للكتاب وأنزل الله كتابا -وهو القرآن- غير قابل للتحريف.

وهكذا انتهت وسائل السيطرة، لذلك وقعوا في الحزن وانشغلوا بهذا الهم.

وكان الواحد منهم لا يسارر الآخر من اليهود ولا يناجيه إلا في أمر محمد.

وما دامت هذه المسألة قد شغلتهم إلى هذه الدرجة فلا بد أنها قد شغلتهم عن الزراعة والاهتمام بها.

هم انشغلوا عن الأسباب فكانت النتيجة هي ما حدث.

ولكنهم حاولوا إلصاق ذلك برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من الصعب عليهم أن يفهموا الأمر الحادث لهم، وإمّا أن يكون تفسير ذلك هو أن السماء أرادت لهم عقاباً لأنهم حاولوا المكر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك شغل وقتهم عن الأخذ بالأسباب.

وإمّا أن يكون ذلك من آفة سماوية فلماذا لم يلتفتوا إلى أن دين محمد هو المنقذ لهم مما هم فيه؟

لقد كانوا يستعزون به.

لكنهم لم يؤمنوا به: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] فنزل بهم أكثر من عقاب.

فالذين كانوا يتعاملون مع اليهود بالربا امتنعوا عن ذلك، وكذلك نقصت الزروع والثمار. 

إذن فالمسألة جاءتهم بنقص من الأموال؛ فقالوا ما قاله الله مما أورده الحق على ألسنتهم: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النساء: 78].

أي كل من الحسنة والسيئة من عند الله وما الحسنة وما السيئة؟

الحسنة هي الظفر والغنيمة والسراء والرخاء والخصب.

والسيئة هي الهزيمة والقتل والضراء والبؤس والجدب.

هذا ما فهموه، ونحن -المؤمنين- نفهم الحسنة فهماً دقيقاً؛ فالحسنة في الشرع هي ما يأمر به الله، والسيئة هي ما ينهى عنه الله؛ بدليل أن المؤمن قد يصاب في عزيز لديه ثم يقف موقفاً إيمانياً في استقبال هذه المصيبة ويقول: "إن حزني لن يرده فالأفضل أن أكسب به الجنة". 

ويزيد على ذلك: "يكفيني عزاءً الأجرُ عليه، فأنا لم أكن سآخذ منه طيلة حياته مثل الأجر الذي سآخذه في صبري على مصيبتي فيه".

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينبهنا بقوله: إياك أن تظن أن الحسنة هي ما تستطيبه نفسك، أو أن السيئة هي ما تشمئز منها نفسك، لا، فالمصاب في عُرْف الشرع هو مَنْ حُرم الثواب.

ولذلك جاء القول: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النساء: 78] أي أن الحسنة والسيئة من عند الله. 

وهل يصنع الله سيئة؟

ونقول: نستغفر الله، فالسيئة في نظر الإنسان والحسنة في نظر الإنسان، وكلها من عند الله، ولكن إذا نسبنا الفعل إلى الله فكل ما يصدر عنه حسن، وافتقاد المقاييس الصحيحة هو الذي يتعب.

وعندما نحاول أن نحسب مثل تلك الأمور بحساب الكمبيوتر تستقيم لنا النتائج.

ومثال ذلك: تلميذ أهمل في المذاكرة وفي حضور الدرس لذلك فهو يرسب آخر العام، ولكنه ينظر إلى الرسوب على أنه سيئة، ولكنها في عرف الحق عموماً حسنة.

فنجاح مثل ذلك الخائب ضياع لمقاييس الاجتهاد ولَمَا ذاكر أحد ولا نطمس العلم.

وحينما وضع الله قانون أن من لا يستذكر يرسب، فهذا إحياء للحسنة في آلاف غيره، ويكون الراسب نموذجاً واضحاً ووافياً وتطبيقياً، وخاضعاً لسنة الكون.

وكذلك الذي لم يزرع أرضه أو تكاسل عن الحرث أو أهمل الري، فهو يأتي يوم الحصاد ولا يُؤْتي ثماراً وهذا أمر سيئ بالنسبة له، أما بالنسبة لقضية الحق الكونية في ذاتها فهي حسنة؛ لأن ذلك يدفع كل واحد إلى عدم إهمال أي سبب من الأسباب؛ فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضراراً به، ولكن لو قاس مسها له بما فعله لوجد أن ذلك هو سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وحين يضع الحق سبحانه وتعالى سنناً في كونه فالذي يأخذ بالأسباب يعطيه، ويحرم سبحانه من لا يأخذ بالأسباب.

وعندما نقيس الأمور بهذا المقياس نرى الناجح هو المجدّ، والمتكاسل هو الراسب، والنتيجة كلها من عند الله تقنيناً كونياً.

والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض أقوال طرف فإن كان مقراً بما فيه يتركه من غير تعليق عليه، وإن كانت قضية باطلة يكر عليها بالحجة ليبطلها ويدحضها.

وهذا يلفتنا إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن نلف قضايا الخصوم لفاً بحيث لا نعرفها، ولكنه يعرض قضية الخصوم عرضاً ثم يكر عليها بالنقد ليربى -كما قلنا- المناعة الإيمانية، حتى لا تفاجئ قضيةٌ كفرية عقيدةً إيمانية؛ فسبحانه يعرض قضايا الكفار ويوضح لنا: سيقولون كذا فقولوا لهم كذا.

مثال ذلك: عندما قالوا: إن الله اتخذ ولداً قال الحق: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5].

فهو سبحانه يعرض قضايا الخصوم؛ لأن الذي يحاول أن يلف قضية الخصوم يكون مشفقاً منها، لكن من يعرضها ينبه عقل السامع إليها ليبطلها ويقول: "هاي هي ذي نقاط الضعف في هذه القضية".

وحينما قالوا: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] أرادوا بهذا القول أن يصنعوا مضارة بين الله ورسوله، فأوضح الحق سبحانه؛ قل لهم يا محمدُ: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النساء: 78]، وتتجلى دقة الحق سبحانه في أنه جعل محمداً -صلى الله عليه وسلم- وكيلاً في البلاغ عنه، وكان من الممكن أن يسوق الحق القضية بدون "قل".

لكنه سبحانه أراد في هذه أن يوسط رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أنه يقول: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النساء: 78].

و{كُلٌّ} [النساء: 78] تعني: كُلاً من الحسنة ومن السيئة.



سورة النساء الآيات من 076-080 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 076-080 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 076-080   سورة النساء الآيات من 076-080 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 5:41 am

تابع تفسير الآية (78)


ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن قضايا الوجود تتسق مع فطرة الإيمان.

ولقد وقع خلاف طويل بين العلماء في أفعال العباد، وتساءلوا: هل يفعل العبد أي فعل بنفسه، أو أن الله هو الذي يجري على عباده الأفعال؟.

فإذا كان العبد هو الذي يفعل الفعل فمن العدالة أن يتلقى الثواب أو العذاب جزاء ما قدم.

وإذا كان الله هو الذي يجري كل الأفعال فلماذا يعذبه الله؟.

ودخل العلماء في متاهة كبيرة.

وهنا نقول: يجب أن تفهم أن الحق حينما خلق الكون جعل فيه سُنناً، ومن عجيب الأمر أن السُنن تنتظم وتشمل وتضم المؤمن والكافر مما يدل على أنه لا أحد في كون الله أولى بربوبية الله من الآخر، فحتى الذين لا يؤمنون بالله أدخلهم الحق في ربوبيته فأمر الأسباب التي خلقها استجيبي لمن يخدمك وأعطيه المسببات ولا تلتفتي إلى أنه مؤمن أو كافر لأنني أنا الذي خلقته وأوجدته في الكون، وما دمت أنا الذي أوجدته في الكون فلا بد أن أتكفل بكل ما يقيم حياته، وأنا سأعرض منهجي، وأقول لعبادي: أنا أحب هذا الفعل وأنا أكره هذا الفعل فمن يؤمن بي فسيكون له وضعٌ آخر، سيكون عبداً لله.

إذن فالله بالألوهيّة مناط التكليف لمن يؤمن به، والرب بالربوبية مناط الخلق والرزق وقيومية الاقتيات للخلق جميعا، لكل العباد؛ فالسنن والنواميس الكونية تخدم الكل، بدليل أن بعض السنن كانت تحب أن تتمرد لأنها عصبية إيمانية لله.

عندما ترى الله يُعطي بعضاً من عباده وهم غير مؤمنين به.

فالسُّنن والنواميس كجنودٍ لله نجدها متأبية على ابن آدم من عدم شكره لله، لكن الحق يوضح للخلق المسخر: هم خلقي وأنا الذي استدعيتهم للوجود.

فصنع الحق نواميس للكون تؤدي مهمتها للمؤمن وللكافر جميعا، ثم أنزل سبحانه تكليفاً بوساطة الرسل.

ويوضح: أنا أحب كذا وأكره فالذي يحبني يعمل بتكليفي.

إذن فمناط الربوبية غير مناط الألوهية.

مناط الربوبية خلق من عَدم وإمداد من عُدم.

ومناط الألوهية طاعة، والطاعة تقتضي أمراً ونهياً.

فكل ما كان من مدلول الأمر والنهي -الذي هو التكليف- فهذه مطلوبات الألوهية.

وكل ما كان من مطلوبات السنن الكونية فهو من مناط الربوبية.

والسنن الكونية لا تتخلف أبداً.

فمثلاً الذي يريد أن ينجح في مادة من المواد في مدرسة ما.

لابد أن يحصل على خمسين بالمائة من مجموع الدرجات.

ومَنْ يريد أن ينجح في مادة أخرى لابد أن يحصل على أربعين بالمائة.

وحين تنطبق هذه الشروط على طالب ما.

فهل هذا الطالب هو الذي أنجح نفسه أو أن القانون هو الذي أعطاه النجاح؟

إن القانون هو الذي أعطاه النجاح.

وصحيح أن القانون لم يقل للطالب وهو يكتب الإجابة: إن مستوى إجابته سيحقق له درجات النجاح، إنّه قد بذل جهداً في التحصيل الدراسي، وحقق له هذا الجهد النجاح في نطاق ما تم تقديره.

فالقانون لا ينجح أحداً، ولا يتسبب في رسوب أحد، ولكن الطالب الذي يبذل جهداً ينجح، والطالب الذي لا يبذل جهداً يرسب.

وعلى ذلك فكل شيء في الوجود له قانونه.

إن اليد المخلوقة لله، لو نظرنا إلى حركتها، لا نعرف كيف تزاول مهمتها.

وعندما يرفع أحدنا شيئاً من الأرض لا أحد فينا -غالباً- يعرف العضلات التي تتحرك لتحمل هذا الشيء.

فالذي فعل حقيقة هو الله.

واليد سواء أفعل الإنسان بها خيراً؛ أم شرّاً، فالفاعل الحقيقي لكل فعل هو الله.

وقام الإنسان فقط بتوجيه الطاقة الصالحة للسلام على واحد، أو لصفع واحد آخر، فاليد صالحة للمهتمين.

وعندما يوجه الإنسان يده للصفع فهو يأخذ عقاباً، وعندما يوجهها للسلام يأخذ ثواباً.    

صحيح أن الإنسان ليس له دخل في العمل ذاته ولكن له دخل في توجيه الطاقة الصانعة للعمل؛ فالثواب أو العقوبة ليست للفعل ولكن لتوجيه الطاقة.

والسكين -كمثال آخر- يذبح بها الإنسان الدجاجة، أو يطعن بها إنساناً، وهي لا تعصي توجيه الإنسان إن ذبح الدجاجة؛ ولا تعصاه إن طعن إنساناً.

والحق قد خلق قانوناً للسكين أن تذبح، والإنسان يقوم بتوجيه الآلة التي خلقها الله صالحة لأن تذبح إلى الذبح، سواء أكان الذبح فيما حرَّم الله، أم فيما أحلَّ، إذن فالله هو الفاعل لكل شيء.

وما دام الفعل في نطاق أوامر المكلِّف صاحب السنن فهو الذي يقوم بكل فعل.

وعندما تدقق النظر تجد أن كل فعل من عند الله، وليس للإنسان سوى توجيه الطاقة؛ فالشاب الذي يذاكر دروسه، لم يخلق عقله ولا خلق عينيه اللتين يقرأ بهما، ولكن عقله صالح أن يفكر في الأمر الحسن الصالح، أو أن يفكر في الأمر الرديء، وعيناه صالحتان لأن ينظر بهما في مجلة هزلية أو ينظر بهما في كتاب.

إذن فهو ساعة يفعل هذا أو يفعل ذلك هل يفعل ذلك من وراء رَبِّه؟.

لا، إنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق سوى توجيه الطاقة التي خلقها الله صالحة لأن تفعل هذا وتفعل ذاك.

إذن فثوابك وعقابك يكونان على توجيه الطاقة الفاعلة إلى الأمر الصالح أو الأمر السيء.  

فعندما يقول ربنا: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النساء: 78] نقول: هذا حق وصدق؛ فالذي أهمل في زراعة أرضه ولم يسمدها أو لم يروها وأصابه جدب فهذا نتيجة عدم توجيه الطاقة المخلوقة لله في مجالها الصحيح.

لكن عندما يمتنع المطر فلا عمل في ذلك للإنسان.

فالنواميس الكونية صنعها الله.

ومن يأخذ بأسبابها تعطه وإن أصابت الإنسان سيئة في إطار هذه فهي من عند الإنسان؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب.

وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضاً على الجماعة؛ فالذي يلعب الميسر ويأتي له الخراب والدمار، هذا من نفسه؛ لأنه تلقى الأوامر من الحق بألا يمارس تلك الألعاب.

وأي أمة اشتكت من ضيق الأرض الزراعية وضيق الرزق فهذا بسبب الأمة نفسها؛ لأن القائمين بالأمر كان عليهم العمل لتنمية الموارد بالنسبة لنمو السكان.

والذي يتعبنا ويرهقنا أننا نتحمل غفلة أجيال، فتجمعت المشكلات فوق رءوس جيلٍ واحد.

ولو أن كل جيل سبق قام بمسئوليته لكانت مهمة الأجيال الحالية أقل تعباً.

فما دامت لدينا أرض صالحة لأن تنبت كان علينا أن نعدها ونستغل المياه الجوفية في زراعتها.

فالمسألة إذن كسل من أجيال سابقة.

وما دام هناك مخزون في المياه الجوفية كان يجب أن نعمل العقل لنستنبط أسرار الله في الكون.

فليس من الضروري أن ينزل المطر، لأن الحق يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ} [الزمر: 21].

وجعل الله للمياه مسارب في الأرض حتى تستطيع البلاد ذات الحرارة الشديدة الوصول إلى المياه الجوفية ولا تتعرض المياه المنتشرة في مسطحات كبيرة للتبخر.

لقد أخفى الله جزءاً من المياه في الأرض لصالح الإنسان.

وفي البلاد الحارة نجد الملح واضحاً على سطح التربة دليل على أن الحق وضع قانون تقطير المياه العذبة لتكون صالحة للشرب والزراعة.

وكلنا يعرف قانون التبخر، فعندما نأتي بكوب من المياه وننشره على مسطح حجرة مساحتها خمسة وعشرون متراً مربعاً فالمياه تتبخر بسرعة، لكن لو تركنا كمية المياه نفسها في كوب الزجاج فلن تنقص إلا قدراً ضئيلاً للغاية.

إذن فكلما زاد المسطح كان البخر أسرع.

وأراد الحق أن تكون ثلاثة أرباع اليابسة من المياه؛ لأن الماء أصل كل شيء حي.

وجعل بعضها من الماء المالح حتى لا تأسن ولا تتغير، وتوجد هذه المياه في مساحة متسعة حتى تتبخر وتنزل مطراً، فما يجري في الوديان يجري، والمتبقي من المياه يصنع له الحق مسارب في الأرض لأنه ماء عذب، حتى يستخدم الإنسان ذكاءه الموهوب له من الله فيستخرج المياه من الأرض، فالحق خلق لنا كل ما يمكن أن يحقق لنا استخراج قوت الحياة.

وسبحانه القائل: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9-10].

فإياكم أن تقولوا: إن السكان سيزيدون على القوت الذي في الأرض، ولكن اعترفوا بخمول القدرات الإبداعية للاستنباط.

فبعد أن يقول الله: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] فلا قول يُصَدَّق من بعد قول الله.

وهب أن موظفاً -ولله المثل الأعلى- جاء في أول الشهر بتموين الشهر كله ووضعه في مخزن البيت، وجاء ظهر اليوم ولم يجد زوجته قد أَعدَّت الغداء، فماذا يحدث؟

إنه يغضب.

ولقد وضع ربنا أقواتنا مخزونة في الأرض، ونحن لا نعمل بالقدر الكافي على استنباط الخير منها.

وسبحانه يوضح لنا: إن الإنسان إن لم يستفد بالنواميس التي خلقها الله له، ولم ينفذ التكاليف أمراً ونهياً فلسوف يُتعب الإنسان نفسه؛ فتكون معيشته ضنكاً.

فسبحانه يقول: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

هذه القرية كانت تتمتع بالأمن والاطمئنان لكنها كفرت بأنعم الله.

والكفر في المعنى العام هو: ألا تشكر النعمة لله.

وعندما نُمعن النظر بدقة لنرى قانون ربط السبب بالمسببات، وربط السنن الكونية بالكون والمكوِّن والمكوَّن له نجد أشياء عجيبة، فهذه القرية كانت آمنة مطمئنة والرزق يأتيها رغداً من كل مكان.

إذن فالقرية هي مكان السكن، وليس مكان السكن فقط هو الذي فيه الرزق بل يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكأن كل مكين في بقعة؛ له بقع خالية في مكين آخر تخدمه.

وتلك القرية كفرت بأنعم الله.

والكفر في معناه الواضح هو الستر، والقرية التي كفرت بأنعم الله هي التي سترت نعمة الله، فنعمة الله موجودة ولكن البشر الذين في تلك القرية هم الذين ستروا هذ النعمة بالكسل وعدم الاستنباط للنعمة وترك استخراجها من الأرض.

أو أن سكان هذه القرية استخرجوا نعمة الله واستنبطوها وستروها عن الخلق، وفساد الكون إنما يأتي من هذين الأمرين: أي أن هناك أمماً متخلفة، كسل سكانها عن توجيه طاقاتهم لاستنباط النعم من الأرض.

أو أن هناك أمماً أخرى تملك الثراء والخير وترميه في البحر حتى لا يذهب إلى الأمم المتخلفة. 

والخراب الذي نلمسه في علاقات العالم ببعضه البعض يقول لنا: إن العالم هو القرية التي ضرب الله بها المثل: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

ولنر دقة الأداء القرآني، في قوله: {فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ} [النحل: 112]، ونعلم أن الذي يُذاق هو الطعم.

والطعم يكون باللسان وحده: أما اللباس فيعم كل الجسم، والحق هنا يعطي الإذاقة ولا يكون الذائق هو الفم فقط بل كل الجسم، فالفم إنما يتناول لصالح بقية الجسم، وعندما لا تصل مادة الحياة إلى بقية الجسم فكل الجسم يذوق الجوع أيضاً.

والكون المخلوق لله مصنوع على نظام دقيق من أجل أن تسير السُّنن الكونية في مجالاتها التي حددها الله، وعندما تنتظم هذه السنن في حركتها فهي تعطي النتائج للإنسان ولو بعد حين، حتى إن بعض المفسرين والمتكلمين بعمق يقولون: إن الأمراض الوراثية التي تنتقل من أجيال سابقة إلى أجيال لاحقة كان السبب فيها تقصير آباء واجتراءهم على أشياء مخالفة لمنهج السماء، فإذا شرع الله سنة كونية للفرد ثم خالفها تصيبه نتيجتها السيئة من بعد ذلك، وكذلك الأمة والجماعة.

لكن المسائل التي يقف فيها العقل فقط هي المصائب التي تصيب الناس بغير عملهم.

وكان على الفلسفة أن تبحث هذا المجال، أما الدين فهو يقول لنا أسباب تلك المسائل؛ فالشيء الذي له مقدمات من أسباب تكاسل الإنسان عنها، ثم أصابته كارثة فهذا من فعل الإنسان في نفسه.

أما الأشياء التي تأتي قدرية فهذا أمر مختلف.

فإذا كان ديننا قد وضع للإنسان أسباباً كونية وحكمة الإنسان الإيمانية قالت له: افعل ذلك حتى يحدث كذا، ولا تفعل ذلك حتى لا يحدث كذا فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لم يعطه كل ما يستطيع به استيعاب كل حكمة المكوِّن في الكون، ليلفت سبحانه الإنسان دائماً على أن طلاقة القدرة مازالت موجودة، فيحدث شيء من الأشياء يتساءل فيه الإنسان: ما سبب ذلك؟

ولماذا؟

ومثال ذلك الزلزال أو البركان أو السيل الجارف والريح العاصف، كل هذه الأحداث لا دخل للإنسان فيها، وهي أحداث تقول للإنسان: لو أن المسائل في الكون فيها رتابة أسباب لما ارتبطنا بقوة غيبية خفية نضرع إليها دائماً لنَسْلَم.

وجاءت بعض مدارس الفلسفة في ألمانيا -مثلاً- وقالت: إن وجود الشر في الكون دليل على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله حكيم لما أفلتت منه هذه المسائل، ولما خرج واحد بعين واحدة ولا خرج أعرج ولا مشوه.

وقالت مدرسة أخرى في العصر نفسه: لا، إن رتابة النظام في الكون دليل على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله لخرق القانون والناموس ولأخرج بعض الأحداث عن هذا الناموس.    

وهكذا نرى أنهم يريدون الكفر من أجل الكفر بدليل أن مدرسة أخذت النظام في الكون كدليل للكفر، ومدرسة أخرى أخذت الشواذ في الكون كدليل على الكفر.

وكُلّ من أقطاب المدرستين إنما يبحث عن سبب للكفر.

ونقول لهم: كلاكما غبي؛ الذي يريد منكم النظام سبباً لوجود إله حكيم، والذي يريد الشذوذ سبباً لوجود إله قادر، هذان الأمران موجودان في الكون، وكلاهما دليل على وجود الإله الحكيم القادر لو كنتم منصفين.

انظر إلى النظام في الكون الأعلى؛ فلو فسدت فيه مسألة صغيرة لانهدم الكون كله.

انظروا إلى الشمس والمطر والكواكب والنجوم، إنها خاضعة لنظام محكم.

فيا مَنْ تريد النظام دليلاً على حكمة مكون، فالنظام موجود، ويا مَنْ تريد الشذوذ دليلاً على أن هناك إلهاً يُسيطر على ميكانيكية الكون فهذه أمور موجودة.

والشذوذ إنما يتأتى من الأفراد، فإن شذ فرد فلن يفسد القضية العامة، فالذي يولد بعين واحدة مبصرة سنجد مئات الملايين امتلكوا البصر كاملاً.

لكن عندما يأتي الشذوذ في نظام الكون وحركة الأفلاك فالذي يحدث هو دمار للعالم.

فمَنْ أراد أن يرى النظام السائد يدل على الحكمة نقول له: انظر إلى الفلك الأعلى.

ومَنْ يريد الشذوذ دليلاً على أن هناك قوة تتحكم في ميكانيكية العالم نقول له: هذا موجود، ولكن الشذوذ موجود في الأفراد.

فإن شَذَّ فردٌ فلا يعطب بقية الأفراد.

ونعرف -أيضاً- أن رتابة النعمة قد تُلهي الإنسان عن المُنعم.

فالإنسان منا يظل لمدة طويلة وأسنانه سليمة فلا يتذكر مسألة أسنانه، لكن إن آلمه ضرس واحد فهو يتذكر أن له ضرساً، وكذلك إن آلمته إحدى عينيه، أو إذا آلمته كُلْيَته فهو يجري إلى الطبيب.

وهذه أمور لافتة حتى تُخرج الإنسان من رتابة النعمة عليه ليتذكر المنعم بالنعمة.

وعندما نرى إنساناً أكرمه الله بفقدان البصر، فالواحد منا يقول: الحمد لله ويمسك الإنسان منا عينيه مخافة أن تذهبا، وكذلك عندما نرى أبرص أو أعرج، وهذه هي وسائل إيضاح في الكون حتى لا تغفل الناس عن المنعم بالنعمة.

فإذا ما نظرنا إلى الأشياء التي تصيب الإنسان فرداً، أو تصيب الأمة كمجموع فنحن نجدها بما قدمت يدها؛ لأنها صنعت شيئاً يخالف التوجيه.

فإن كان هناك شيء خارج عن قدرة الإنسان فنحن نقول: هذه هي حكمة المكوِّن حتى يلفتنا إلى أنه المنعم.

ولهذا نرى الشَّواذ في الخِلقة قلة ولا كثرة، ويعوض الله من أصيب بشذوذ في شيء بدوام مَلَكَةٍ في شيء آخر.

ولذلك يقول الشاعر:
عميت جنيناً والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاب ضياء العين للعقل رافداً
لعلم إذا ما ضيع الناس حصـلا

وضربت المثل مرة ببيتهوفن الموسيقار العالمي الذي أطرب العالم بسمفونياته، إنّه كان أصم.

ولذلك نحن نسمع في لغة العامة: كُلُّ ذِي عَاهَةٍ جَبَّار.

فإذا كان الله قد جعله وسيلة إيضاح ليلفت الناس إلى نعم الله سبحانه عليهم فهو يعوضه بموهبة أخرى ويلتفت الناس فيها إلى صاحب العاهة فيرون فضل الله عليه أيضاً.

إذن فالمصائب التي تحدث وليس للإنسان دخل فيها هي الملحظ الذي يجب أن نبحثه.

وهذه هي مكونات الحكمة كي يلتفت الإنسان دائما إلى أن الكون غير متروك بلا قيادة.

إن الله خلق الكون وخلق القانون والنواميس ليدلنا على أنه موجود.

ولا تزال يده في الكون.

فإذا حدثت حادثة فلا بد أن نلتمس لها حكمة.

والحكمة خرق وخروج عن النواميس يلفت إلى أن فوق ميكانيكية العالم وقوانينها قوة أخرى تقول لها: "تعطلي".

ولذلك فمعجزات بعض الرسل من هذا اللون، فطبيعة النار أنها تحرق، ولكنها لم تحرق سيدنا إبراهيم عليه السلام.

أكان مراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجِّىَ إبراهيم من النار؟

لو كان مراده هو نجاة إبراهيم من النار فحسب لما مَكَّن خصومه من أن يمسكوه.

وبعد أن أمسك خصوم سيدنا إبراهيم به، وأشعلوا النار وأججوها.

كان باستطاعة الحق سبحانه أن يأتي بغمامة لا قدرة لخصوم إبراهيم عليها وتمطر مطراً تطفئ النار.

لا.

فقد أراد الله النار ناراً متأججة وأن يقدر خصوم إبراهيم عليه ويمسكوا به ولا تنطفئ النار، وأن يلقوه في النار، وبعد ذلك يوضح الحق: أنا أزاول سلطاني في الناموس؛ لأني خالق الناموس وأعطله متى شئت، {قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

أما لو حدثت المسألة الأولى وانطفأت النار، لقالوا: آه لو لم تنطفئ النار، وآه لو لم ينزل الماء على النار.

إن الحق أراد أن يدحض كل دعاوى الخصم.

فعندما تحدث أحداث لا دخل للإنسان فيها نقول: دعها لحكمة الخالق لأنه يريد أن يلفت الخلق إلى أنه صاحب اليد العليا في الكون.

فميكانيكية الكون تحير العقول؛ لأنها مضبوطة بدقة، ولكنها لم تفلت من يد ربنا.

ولذلك نرى في بعض الأحيان رياحاً عنيفة تثير الغبار فلا يرى الإنسان شيئاً على الإطلاق.  

ومعنى ذلك أن الذرات تراكمت وتراكبت حتى صارت جداراً، ويحدث ذلك مهما حاولت الأجهزة العلمية التحكم في ذلك أو منعه.

ومن العجيب أن الحق يترك لنا لذعة تقول: لقد كرمتك بالعقل ولكني لم أدع لك كل الفهم، فقد يوجد صاحب غريزة لا عقل له ويكون أقدر على فهم الأشياء منك أيها الإنسان.

وعندما يحدث زلزال في منطقة ما، فأول ما يخرج من المكان هي الحمير.

وهذا لفت للإنسان حتى لا يقع فريسة للغرور: {كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ} [العلق: 6-7].

فإذا ما رأيت حدثا في الكون ولا دخل للإنسان فيه ولا للأمم دخل فيه؛ فلتعلم أن لله فيه حكمة حتى يلفتنا إلى المكون الأعلى؛ وحتى لا يظن أحد أن لميكانيكية الكون رتابة، إنما هي نظام يجريه الله على وفق قدرته وإرادته وحكمته.

ولذلك يقولون: إن العقل الإلكتروني لا يخطئ، وهم لا يعرفون أن من الخيبة ألا يخطئ، لأنه كما تملؤه وتمده بالمعلومات سيخرج لك هذه المعلومات.

ليس له خيار في شيء.

أما العقل البشري فهو قادر على الاستنباط والاستكشاف وعدم ذكر بعض المعلومات التي قد تضر.

هذه هي العظمة.

ويقول بعضهم -كمثال آخر- إن الورد الصناعي لا يذبل، نقول: إن عيبه أنه لا يذبل لأن الذبول حيوية، وعدم الذبول دليل على أنه لا حياة فيه، وأنّه جمود فقط.

وساعة يجري الحق سبحانه وتعالى شيئاً في كونه ولا دخل لأحد فيه فهو يريد أن يلفت الكون إلى بقاء القيومية العليا والقدرة الإلهية في الكون؛ حتى لا تغتر بميكانيكية الكون.

ولذلك يعرض القرآن بصيصاً من هذه الأشياء، إذا أخذتها بحكم العقل فهو لا يقبلها، لكن حين يفسرها من أجراها نجدها في منتهى العقل.

مثال ذلك: سيدنا موسى عندما ذهب إلى العبد الصالح، ما الذي حدث؟.

قال العبد الصالح: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67].

ويلتمس العبد الصالح لموسى العذر فيقول له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68].

فيقول سيدنا موسى وهو من أولي العزم من الرسل: {قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69].

فيخرق العبد الصالح السفينه.

وخرق السفينة في السطحية الفهمية شرّ، وعلى الرغم من أن سيدنا موسى وعد العبد الصالح بعدم عصيان الأمر وأن يكون صابراً، على الرغم من ذلك لم يطق حادثة خرق السفينة، فقال للعبد الصالح: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71].

لقد شك سيدنا موسى في ظاهر الأمر، ولكن عندما يدرك الحكمة يجدها عين الخير.

فلو لم يخرق العبد الصالح السفينة لأخذها الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة صالحة وسليمة غصبا: {أَوَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79].

فلو لم يخرقها العبد الصالح لما استرد أصحاب السفينة سفينتهم، وبالخرق للسفينة ستظل لأصحابها؛ لأن بها عطباً يستطيعون إصلاحه بعد ذلك.

إذن، كل شيء يجري على غير ما تشتهيه سطحية الفهم البشري فلنعلم أنها ما دامت ليست من أحد، وهي من المكوِّن الأعلى فوراءها حكمة.

وهل يوجد أكثر بشاعة من القتل؟

لقد قتل العبد الصالح غلاماً.

ما الحكمة في ذلك؟.

إن الواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى.

ويقول قائل: وما ذنب الولد؟

نقول: أنت لا تفهم الأمور، لقد ذهبت إلى الحق بدون تجربة في أن يطيع أو يعصي الله، ذهب إلى رحمة الله مباشرة، وهذا أفضل له.

وكان في ذلك القتل للولد رحمة لوالديه؛ فالشيء إن حدث للنفس إن كان من مخالفة الإنسان للناموس فيكون الإنسان هو الذي فعل الضر بنفسه.

وكذلك الأمة حين تخالف ناموساً شرعياً أو كونياً.

لكن لو كانت الأمور فوق طاقة البشر فلا بد أن لله فيها حكمة.

وقصة العبد الصالح وموسى مليئة بالحكم.

فقد ذهب الاثنان إلى قرية واستطعما أهلها أي طلبا من أهلها طعاماً: {حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77].

ولم يطلب أي منهما نقوداً، وذلك حتى لا تثار الظنون السيئة، ولكن طلبا الطعام ليأكلاه.  

وهو أول الحاجات الضرورية للإنسان.

فقالوا لهما: لا لن نعطيكما لأن أهل تلك القرية كانوا لئاماً.

ولذلك اتجه العبد الصالح إلى جدار يريد أن ينقض فأقامه، فقال سيدنا موسى للعبد الصالح: لماذا لا تأخذ منهم أجراً؟

وأخيراً يوضح العبد الصالح لسيدنا موسى: {وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82].

فأهل القرية اللئام الذي طُلِبَ منهم الطعام لم يكونوا قادرين على تحمل أمانة حفظ الكنز للغلامين.

فأمر الله العبد الصالح بحجب الكنز عن أهل تلك القرية.

إذن، فالمسائل إن جرت على الإنسان بسبب منه فهو الذي فعل الضر بنفسه، أما إذا كان الأمر لا دخل للإنسان فيه فعليه أن يثق بحكمة مَن يجريه وبذلك يستقبل الإنسان كل شيء يصيبه بالراحة.

إن صاحب الإيمان يلقى الأحداث بقلب قوي.

فإن كانت من نفسه فهو يعدل سلوكه، وإن كانت من ربه فهو يثق بحكمة ربه: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ} [النساء: 78] وهذا إيضاح لك حتى تفهم أن أي فعل هو من عند الله.

فليس للإنسان في الطاقة أي فاعلية ولكن للإنسان توجيه المخلوق من طاقات وجوارح إلى الطاعة أو إلى المعصية.

وما دام كل من عند الله فهو سبحانه يريد لنا أن نتلو العجب من هؤلاء ونقرأه فيقول سبحانه: {فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] كأن منطق العقل والفكر يقودان إلى ضرورة الفهم.

وعندما لا يفهمون ذلك فنحن نستعجب من عدم فهمهم.

ولا نستعجب من عدم فهمهم إلا إذا كان الأمر المطروح أمامهم أمراً يستوعبه العقل.

والحق يقول: {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] وساعة تقول فلان لا يفقه، فهذا معناه أن عقله ممنوع من الفهم.

أما عندما نقول: لا يكاد يفقه.

فهو يعني: لا يقرب حتى من الفهم.

والقول الثاني هو الأكثر بلاغة.

ومن بعد ذلك يقول الحق: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ...}.



سورة النساء الآيات من 076-080 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 076-080 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 076-080   سورة النساء الآيات من 076-080 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 5:42 am

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا [٧٩]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

فإن جرت عليك سنة كونية خيراً فهو من الله، أما إن أصابتك سيئة فيما لك فيه دخل فهي من نفسك.

كأن المسألة قسمان: شيء لك فيه دخل، وشيء لا دخل لك فيه.

ولا بد أن تعتبره حسنة لأنه يقيم قضية عقدية في الكون.

فالمؤمن بين لوم نفسه على مصيبة بما له فيه دخل، وثقة بحكمة مَن يجري ما لا دخل له فيه وهو الله -سبحانه-: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 79].

ومن هو الرسول؟

الرسول مبلغ عمَّنْ أرسله إلى مَنْ أرسل إليه.

وما دام رسولاً مبلغاً عن الله فأي شيء يحدث منه فهو من الله.

وعندما يقول الحق: {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 79] أي لا يضرك يا محمد أن يقولوا: إن ما أصابهم من سيئة فمن عندك؛ لأنه يكفيك أن يكون الله في صفك؛ لأنهم لا يملكون على ما يقولون جزاء، وربك هو الذي يملك الجزاء وهو يشهد لك بأنك صادق في التبليغ عنه وأنّك لم تحدث منك سيئة كما قالوا.

ومن بعد ذلك يقول الحق: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ...}.



سورة النساء الآيات من 076-080 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

سورة النساء الآيات من 076-080 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النساء الآيات من 076-080   سورة النساء الآيات من 076-080 Emptyالسبت 04 مايو 2019, 5:43 am

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [٨٠]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

والطاعة للرسول هي طاعة لله، وذلك أمر منطقي؛ لأنه رسول، فمَنْ أطاع الرسول فطاعته طاعة لله؛ لأن الرسول إنما يبلغ عمن أرسله.

ولذلك ففي المسائل الذاتية التي كان يفعلها سيدنا رسول الله كبشر وبعد ذلك يطرحها قضية من عنده كبشر، وعندما يثبت عدم صحتها يعطينا رسول الله مثالاً عن أمانته.

فعن أنس -رضي الله عنه-، "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بقوم يُلَقّحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصاً، فمَرَّ بهم، فقال: مَا لِنَخْلِكم؟ قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".

أي في المسائل الخاضعة للتجربة في المعمل والتي لا دخل للسماء فيها.

أما الأمور الخاضعة لنواميس الكون فلا يتركها للعباد.

ومن العجيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يتصرَّف في شيء لم يكن لله فيه حكم مُسبق وبعدله له الله بينه وبين نفسه فمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يبلغنا بهذا التعديل لنشهد -واقعاً- أنه صادق في البلاغ عن الله ولو كان على نفسه.

وجاءت هذه الآية الكريمة بعد قول الحق سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 79].

والرسول -كما نعلم- هو مَنْ بلّغ عن الله شرعه الذي يريد أن يحكم به حركة حياة الخليفة في الأرض وهو الإنسان.

وإذا ما نظرنا إلى المادة المأخوذة من الراء والسين واللام وجدنا الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى.

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ} [الحج: 52].

إذن فالرسول قد يكون رسولاً بالمعنى المفهوم لنا، وقد يكون نبياً، كلاهما مرسل من الله.

ولكن الفارق أن الرسول يجيء بشرع يؤمر به؛ ويؤمر هو - أيضاً - بتبليغه للناس ليعملوا به، ولكن النبي إنما يرسله الله ليؤكد سلوكاً نموذجياً للدين الذي سبقه؛ فهو مرسل كأسوة سلوكية.

ولكن الرسول على إطلاقه الاصطلاحي يأتي بمنهج جديد قد يختلف في الفروع عن المنهج الذي سبقه.

وكلاهما رسول؛ هذا يجيء بالمنهج والسلوك ويطبقه، والنبي يأتي بالسلوك فقط يطبقه ليكون نموذجاً لمنهج سبقه به رسول.

وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل، وجعل خاتم الرسل سيدنا محمدا فمعنى ذلك أن رسالته -صلى الله عليه وسلم- ستكون رسالة لا استدراك للسماء عليها، فكيف يعقل أن تكون رسالته موضوعاً لاستدراك البشر عليها؟

فما دام الله قد ختم به الرسالة، وأنزل عليه قوله: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً} [المائدة: 3] إذن فلم يعد للسماء استدراك على هذه الرسالة، فكيف يأتي بعد ذلك إنسان معاصر أو غير معاصر ليقول: لا، إننا نريد أن نستدرك كذا أو نقول: الحكم كذا أو هذا الحكم لا يلائم العصر إذا كان الله لم يجعل للسماء استداركاً على الرسالة لأن الله أكملها وأتمَّها فكيف يسُوغ للبشر أن يكونوا مُستدركين على الرسالة؟.

إن الرسول حين يضاف، يضاف مرة إلى الله، ويضاف مرة إلى المرسل إليهم؛ لأنه واسطة التعلق بين المُرْسِل والمْرسَل إليه، فإن أردت الإضافة بمعنى "مِن" الابتدائية؛ تقول: رسول الله، أي رسول مِن الله.

وإن أردت الغاية من الرسالة تقول: رسول إلى الناس أو رسول للناس.

إذن فالإضافة تأتي مرة بمعنى "من" وتأتي مرة بمعنى "اللام"، وتأتي مرة بمعنى "إلى". 

وأمر الرسالة ضروري بالنسبة للبشر؛ لأن الإنسان إذا ما استقرى وتتبع الوجود كله بفطرته وبعقله السليم من غير أن يجيء له رسول، فإنَه يهتدي بفطرته إلى أن ذلك الكون لا يمكن أن يكون إلا عن مكوِّنٍ له قدرة تناسب هذه الصفة المحكمة البديعة.

ولا بد أن يكون قيوماً لأنه يمدنا دائماً بالأشياء، لكن أنعرف بالعقل ما تريد هذه القدرة؟

نحن ننتهي فقط إلى أن وراء الكون قوة، هذه القوة لها من القدرة والحكمة والعلم والإرادة وصفات الكمال ما يجعلها تخلق هذا الكون العجيب على تلك الصورة البديعة ذات الهندسة الدقيقة، وهذا الكون له غاية.

أيمكن -إذن- للعقل أن يضع اسماً لهذه القوة؟

فكونها قوة يستلزم أن يكون لها قدرة وحكمة، لكنا لا نعرف اسمها، فكان ولا بد أن يجيء رسول، هذا الرسول يعطي للناس جواب ما شغلهم وهو: ما القوة التي خلقت هذا الكون وجعلته بهذه الصنعة العجيبة.

ويقف العقل هنا وقفة، فعندما يأتي الرسول ويقول: أنا أدلكم على هذه القوة اسماً ومطلوباً، كان يجب على الخلق أن يرهفوا آذانهم له؛ لأنه سيحل لهم ذلك اللغز الذي رأوه بأنفسهم وأوقعهم في الحيرة -المؤمن منهم والكافر يؤمن بهذا- لأنه يجد نفسه في كون تخدمه فيه أجناس أقوى منه، ولا تتخلف عن خدمته أبداً، وأجناس لا تدخل تحت طاقته ولا تحت قدرته وتصنع له أشياء لا يفهم عقله كيف تعمل، فكان الواجب أن يؤمن.

لقد ضربنا مثلاً وقلنا: لو أن إنساناً وقعت به طائرة أو انقطع به طريق في صحراء، وليس معه زاد ولا ماء، وبعد ذلك جلس فغلبه النوم فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة منصوبة فيها أطايب الطعام وفيها الشراب السائغ.

بالله قولوا لي: ألا يشتغل عقله بالفكر فيمَنْ جاء بالأطعمة قبل أن يتناول منها شيئاً؟

لذلك كان من الواجب قبل أن ننتفع بهذه الأشياء أن نلفت ذهننا: مَنْ صنع هذه الصنعة؟!

ومع ذلك تركنا الله فترة حتى نفكر، حتى إذا جاء رسول يقول: القوة التي تبحث عنها بعقلك هذه اسمها كذا ومطلوبها منك كذا، وأنت كائن ومخلوق لها أولاً وإليها تعود أخيراً.

وخلاصة المسألة أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق أعد لهم مائدة الكون، وفيها الأجناس التي تخدمه -كما قلنا-: سلسلة الأجناس وخدمتها تجعلك تتعجب وتتساءل: كيف يخدمني الأقوى مني؟

الشمس التي لا تدخل تحت قدرتي، والقمر الذي لا أستطيع أن أتناوله، والريح التي لا أملك السيطرة عليها، والأرض التي لا أستطيع أن أتفاهم معها، كيف تؤدي لي هذه الخدمات؟. 

لا بد أن يكون هناك من هو أقوى مني ومنها هو الذي سخرها لخدمتي.

وهل رأيت شيئاً من هذه الأشياء امتنع أن يؤدي لك الخدمة أو نقص منها شيئاً؟.

لم يحدث؛ لأنها مسخرة، فإذا جاء رسول من الله ليحل لنا لغز هذه الحياة ويدلنا على موجدها، كان يجب أن نفتح له آذاننا ونسمعه، فإذا ما قال لي: الذي خلق لك الكون هو الله، والذي خلقك هو الله وهو صانعك، وأرسلني بمنهج لك كي تؤدي مهمتك كما ينبغي فافعل كذا ولا تفعل كذا، وأنت صائر إليه ليحاسبك على ما فعلت، وهذا المنهج هو خلاصة الأديان كلها.

ولذلك يكون مجيء الرسول ضرورياً وبعد ذلك يؤيده سبحانه بمعجزة تثبت صدقه، وما دام قد أرسله بالمنهج الذي هو: افعل ولا تفعل، فهذا يعني أن تطيع هذا الرسول، ويقول ربنا في آية أخرى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ} [النساء: 64].

أي ليست الطاعة ذاتية له، إنما الطاعة صادرة من الله، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتميز عن سائر الرسل؛ لأن معجزته التي تؤيد صدقه في بلاغه عن الله هي عين كتاب منهجه في الأصول، وكل الرسل كانت على غير ذلك.

كان الرسول يأتي بمعجزة ويأتي بكتاب منهج، العصا واليد البيضاء كانت لموسى هذه معجزته؛ ولكن منهجه في "التوراة"، إذن فالمعجزة منفصلة عن المنهج.

سيدنا عيسى معجزته -مثلاً- أنَّه يبرئ الأكمه والأبرص، لكن كتاب منهجه "الإنجيل"، إلا سيدنا رسول الله فإن معجزته وهي القرآن هي عين منهجه؛ لأن الله أراد للدين الخاتم ألا تنفصل فيه المعجزة من المنهج.

إن معجزات الرسل السابقين على رسول الله من رآها يؤمن بها، والذي لم يرها يسمع خبراً عنها، وإن كان واثقاً ممن أخبره يصدقه، وإن لم يكن واثقاً -لأنها ليست أمامه- فلا يصدقه، ولولا أن الله أخبرنا بهذه المعجزات في القرآن لكان من الممكن أن نقف فيها.

أما معجزته -صلى الله عليه وسلم- فباقية بقاء منهجه، ويستطيع كل مسلم أن يقول في آخر عمر الدنيا: محمد رسول الله وتلك معجزته، أما غيره من الرُّسل فلا يأتي أحد ويقول: فلان رسول الله وتلك معجزته، لأنها حدثت وانتهت، أما القرآن فهو باق بقاء الرسالة والكون.  

والرسول -صلى الله عليه وسلم- حين يأتي بالبلاغ عن الله فالحق يبيّن لنا: أنا أرسلت الرسول ليطاع.

والمنطق أن يقول القرآن: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ} [النساء: 80]؛ لأن الرسول جاء مبلغاً عن الله؛ فالمباشر لنا هو رسول الله، وعرفنا من قبل أنه إذا ما توارد أمر الطاعة من الله مع أمر مع رسوله نطيع الاثنين، وإذا كان الله قد جاء بأمر إجمالي كالزكاة والحج، وجاء الرسول ففصل، فنطيع الله في الأمر الإجمالي ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، وإذا كان الله لم يجيء بحكم لا مجمل ولا مفصل، فقد جاء التشريع من الرسول بالتفويض الذي فوض الله فيه رسوله بقوله: {وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ} [الحشر: 7].

فالرسول الوحيد الذي أعطاه الله تفويضاً في التشريع هو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل الرسل بلغوا عن الله ولم يبلغ واحد منهم عن نفسه شيئاً إلا سيدنا رسول الله، فقد فوّضه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ} [الحشر: 7].

إذن فللرسول مهمة داخلة في إطار القرآن أيضاً، ومثال ذلك في حياتنا نجد من يقول لموظف: إن الموظف الذي يغيب خمسة عشر يوماً في قانون الدولة يفصلونه، فيأتي موظف ومعه دستور البلاد ليرد ويقول: هذا هو الدستور وقد قرأته فلم أجد فيه هذا القانون، وهذا الكلام الذي تقوله عن فصل الموظف غير دستوري.

نقول له: إن الدستور قال في هذه المسألة: وتؤلف هيئة تنظم أعمال العاملين في هذا المجال، إذن فبالتفويض توجد هيئة تضع نظاماً ليطبق على العاملين فتكون هذه من الدستور، فكل بنود قانون العاملين تدخل في التفويض الذي نص عليه في الدستور للهيئات أو للجان التي تضع التشريعات الفرعية، فكذلك إذا قيل لك: هات دليلاً من القرآن على أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وأن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع ركعات، وأن العشاء أربع ركعات، هات دليلاً من القرآن على هذه، تقول: دليلي من القرآن: {وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ} [الحشر: 7]، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كي يضمن سلامة المنهج من هذه التحريفات التي يفترونها يقول: "لا أُلْفِينَّ أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه أمرٌ مِمَّا أمرْتُ به، أو نَهيْتُ عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".

وفي رواية أخرى: عن المقْدَام بن معد يكرب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه، وإن ما حَرَّمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كما حَرَّمَ الله.

أروي هذا الحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كي تعرفوا غباء القائلين بهذا، ولنقل لهم: قولكم هذا دليل على صدق الرسول، بالله فلو لم يأت واحد بمثل قولكم بأنه لا يوجد إلا القرآن؛ بالله ماذا كنا نقول للمحدثين الذين رووا حديث رسول الله، ولو لم يقولوا هذا لقلنا: النبي قال: يتكئ رجل على أريكته ويتحدث، ولم يتكلم أحد بما يخالف هذا الكلام.

إذن فوجود هؤلاء دليل صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما دام الله قد أرسله -صلى الله عليه وسلم- منه إلى خلقه فيكون مع هذه الرسالة الطاعة والطاعة هي: الاستجابة للطلب.

وأنواع الطلب كما يقول الذين يشتغلون في البلاغة والنحو كثيرة، فمرة تتمنى شيئاً مستحيلاً مثل قول القائل:
ليت الكواكب تدنوا لي فأنظمهـا
عقود مدح فما أرضي لكم كَلِمي

والكواكب لن تنزل بطبيعة الحال.

أو كقول الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعــــل المشيب

هذا لون من الطلب يدل على أن الطلب محبوب، لكنه لا يقع وقد يقع، وكذلك الاستفهام طلب شيء لأنك تستفهم عن شيء كقولك لمن تزوره: مَن عندك؟.

وأما أن تطلب شيئاً ليفعل فهذا هو الأمر، أو تطلب شيئاً ليجتنب فهذا هو النهي، فتكون الطاعة هي: أن تجيب طالباً إلى ما طلب.

والطالب إما أن يطالب بأمر لتفعله وإما بنهي لتجتنبه.

وإذا أطلقت الطاعة إطلاقاً عاماً فهي لا تنصرف إلا لطاعة العبد لربه، وبعد ذلك تقول: الولد أطاع أباه، الطالب أطاع أستاذه، العامل أطاع معلمه، فهذه طاعة مضافة إلى مطاع، لكن إن أطلقت كلمة الطاعة فهي تنصرف إلى طاعة العبد لله، وهذه أسلم أنواع الطاعات، لماذا؟

لأن أمر كل آمر، أو نهي كل ناهٍ؛ قد يشكك فيه أنّه أمرك بكذا ليعود عليه بالفائدة، أو نهاك عن كذا ليعود عليه بالفائدة، لكن إذا كان الذي طلب منك هو في غني عن عملك وعن انتهائك، فهذه مسألة لا يكون فيها شبهة، فالذي يشكك الإنسان في الطاعة هو المخافة أن يكون الطالب قد طلب أمراً يعود عليه بالمنفعة، أو نهي عن أمر يعود على الناهي بالمنفعة أو يدفع عنه مضرّة.

لكن إذا كان الطالب له كل صفات الكمال المطلق قبل أن توجد أنت، فوجودك وعملك وعدم عملك لا يعود عليه بشيء، فتكون هذه هي أسلم أنواع الطاعة.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله".

إن المنافقين هم الذين يتعبهم وجود نور لأنهم ألفوا الحياة في ظلام، ويرهقهم وجود عدل؛ لأنهم استمرأوا الحياة في المظالم، لذلك فهم يحاولون أن يتصيدوا شيئاً ليقفوا في أمر هذه الدعوة، فقالوا: أما سمعتم لصاحبكم.

إنه قارب الشرك.

يقول: لا تعبدوا إلا الله ومع ذلك يريد أن يجعل من نفسه رباً له حب وله طاعة.

وينزل الحق على رسوله قوله: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ} [النساء: 80].

إذن فالطاعة هنا ليست ذاتية للرسول؛ لأنها إما بلاغ عن الله في النص الجزئي، وإما بلاغ عن الله في التفويض الكلي، وما دامت بلاغا من الله في التفويض الكلي فيكون الله قد أمنه أن يشرع: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ} [النساء: 80].

ما هو مقابل الطاعة؟.

إنه التوليّ والعصيان، ورأينا الناس تنقسم تجاه الرسول إلى قسمين: قسم يطيعه في "افعل ولا تفعل"، وما لم يرد فيه: "افعل ولا تفعل"؛ فهو داخل في حكم المباحات؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛ فالذين يستجيبون للرسول أي يطيعونه في "افعل ولا تفعل" هم من أقبلوا على المنهج.

والذين لا يطيعونه فقد "تولوا" أي أعرضوا وصدّوا.

انظروا إلى الحق سبحانه وتعالى كيف يحمي نفسية الرسول فيقول سبحانه: {وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80] فالذي يتولى ولا يطيع الرسول، فالحق لم يرسلك يا محمد لترغمهم على الإيمان.

وهناك فرق بين "أرسلناك لهم" أو "أرسلناك إليهم" و "أرسلناك عليهم".

فـ "أرسلناك لهم" تعني أنك تبلغ فقط، إنما "عليهم" فهي تعني لتحملهم على كذا، أي يجب أن تنتبه يا محمد إنا أرسلناك للناس -لا على الناس- لتبلغهم، فمَنْ شاء فليطع ومَنْ شاء فليعص، فلا تجهد نفسك وتظن أننا أرسلناك عليهم لترغمهم على أن يؤمنوا، فتكلف نفسك أمراً ما كلفك الله به: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [البقرة: 272].

والحق يقول أيضاً: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21-22].

وفي آية أخرى يقول: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45].

"جبار" يعني تجبرهم على أن يطيعوا.

فالإجبار يتنافى مع التكليف ويتنافى مع دخول الإيمان طواعية ويتنافى مع الاختيار.

{فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80] والحفيظ هو: الحافظ بمبالغة، تقول مثلاً: هذا حافظ مال فلان، وهذا حفيظ مال الناس جميعاً يعني عنده مبالغة في الحفظ، إذن فالمبالغة جاءت في تكرير الحدث فهو يحفظ لذلك الإنسان ولغيره.

والحق يؤكد ذلك لمصلحته -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه سبحانه بيَّن لنا شغل رسول الله بأمته، وأنه يحب أن يكونوا جميعا مؤمنين ملتزمين مطيعين، ولذلك يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

إنهم لا يؤمنون، فيوضح له سبحانه: أرح نفسك، فعليك البلاغ فقط.

وهكذا يخفف الله مهمة الرسول.

ونجد أغلب عتابات الله لرسول الله، لا لأنه خالف، ولكن لأنه حَمَّلَ نفسه فوق ما تفرضه عليه الرسالة، مثل مَنْ يثيرون قصة ابن أم مكتوم، فيقولون: النبي أخطأ ولذلك قرعه الله ووبخه.

نقول لهم: كان الرسول يرغب أن يؤمن به صناديد قريش العتاة الكافرون، وجاءه ابن أم مكتوم مؤمناً ويريد أن يستفهم، وكان من الأسهل أن يتعرض لابن أم مكتوم ولا يتعرض للصناديد الذين يخالفونه! لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك السهل وذهب للصعب، فكأنه سبحانه يتساءل: لماذا أتعبت نفسك.

{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ} [عبس: 7] أي ما الذي يجعلك تتعب، إذن فهو يلومه لصالحه لا لأنه خالف.

فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80]، إنما قاله ليخفف عن الرسول.

إذن الحفيظ هو الذي يحافظ على من يبلغه أمر الله وأن يكون سائراً على منهج الله.

إن أراد أن ينحرف يعدله، فيوضح سبحانه: أنا لم أرسلك حفيظاً عليهم، أنا أرسلتك لتبلغهم، وهم أحرار يدخلون في التكليف أو لا يدخلون.

إذن فالحفيظ هو المهيمن والمسيطر، كما قال في الآيات الأخرى: والمسيطر أو الجبار هو الذي يحملهم على الإيمان، والكلام في الطاعة المقصودة لله.

وأن تنفذ جوارحك ما يأمر به سبحانه فيما تسمعه أذنك وما ينطق به لسانك، وليست الطاعة أن تقول: يا رسول الله نحن طائعون، وبعد ذلك تحاول أن تخدش هذه الطاعة بأن تجعلها طاعة لسان وليست طاعة جوارح.

فطاعة اللسان دون الجوارح غير محسوبة من الإيمان.

ولهذا يقول الحق بعد ذلك: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ...}.



سورة النساء الآيات من 076-080 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
سورة النساء الآيات من 076-080
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سورة النساء الآيات من 021-025
» سورة النساء الآيات من 106-110
» سورة النساء الآيات من 026-030
» سورة النساء الآيات من 111-115
» سورة النساء الآيات من 031-035

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـقــــــــــــــرآن الـكـــــــــــــــريـم :: مجمـــوعــة تفاســـــير :: خواطر الشعراوي :: النساء-
انتقل الى: