الباب الرابع والأربعون في الصدق والكذب وفيه فصلان
الفصل الأول في الصدق:
قال الله تعالى مبشرا للصادقين: ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) وقال تعالى: ( والصادقين والصادقات ) فمدحهم وبيَّن لهم المغفرة والأجر العظيم.

وقال عمر رضي الله عنه: عليك بالصدق وإن قتلك.

وما أحسن ما قيل في ذلك:
( عليك بالصدق ولو أنه ... أحرقك الصدق بنار الوعيد )
( وابغ رضا المولى فأغبى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد )

وقال إسماعيل بن عبيد الله لما حضرت أبي الوفاة جمع بنيه فقال لهم يا بني عليكم بتقوى الله وعليكم بالقرآن فتعاهدوه وعليكم بالصدق حتى لو قتل أحدكم قتيلا ثم سئل عنه أقربه.

والله ما كذبت كذبة قط مذ قرأت القرآن.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بم يعرف المؤمن قال بوقاره ولين كلامه وصدق حديثه وقيل لكل شيء حلية وحلية النطق الصدق.

وقال محمود الوراق
( الصدق منجاة لأربابه ... وقربة تدني من الرب )

وقيل الصدق عمود الدين وركن الأدب وأصل المروءة فلا تتم هذه الثلاثة إلا به وقال أرسطاطاليس أحسن الكلام ما صدق فيه قائله وانتفع به سامعه.

وقال المهلب بن أبي صفرة ما السيف الصارم في يد الشجاع بأعزله من الصدق وكان يقال على الصدوق فلان وقف لسانه على الصدق ويقال الصدق محمود من كل أحد إلا من الساعي.

ويقال لو صدق عبد فيما بينه وبين الله تعالى حقيقة الصدق لأطلع على خزائن الغيب ولكان أمينا في السماوات والأرض.

وقيل من لزم الصدق وعود لسانه به وفق.

ويقال الصدق بالحر أحرى.

وقال عتبة بن أبي سفيان إذا اجتمع في قلبك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه فان الصواب أقرب إلى مخالفة الهوى.

وقال أرسطا طاليس الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب.

وكان نقش خاتم ذي يزن وضع الخد للحق عز وامتدح ابن ميادة جعفر بن سليمان فأمر له بمائة ناقة فقبل يده وقال والله ما قبلت يد قرشي غيرك إلا واحد فقال أهو المنصور قال لا والله قال فمن هو قال الوليد بن يزيد قال فغضب وقال والله ما قبلتها لله تعالى فقال والله ولا يدك ما قبلتها لله تعالى ولكن قبلتها لنفسي فقال والله لا ضرك الصدق عندي أعطوه مائة أخرى.

وقال عامر العدواني في وصيته إني وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا يعني من لزم الصدق وعود لسانه وفق فلا يكاد ينطق بشيء يظنه إلا جاء على ظنه.

وخطب بلال لأخيه امرأة قرشية فقال لأهلها نحن من قد عرفتم كنا عبدين فأعتقنا الله تعالى وكنا ضالين فهدانا الله تعالى وكنا فقيرين فأغنانا الله تعالى وأنا أخطب إليكم فلانة لأخي فان تنكحوها له فالحمد لله تعالى وإن تردونا فالله أكبر فأقبل بعضهم على بعض فقالوا بلال ممن عرفتم سابقته ومشاهده ومكانه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزوجوا أخاه فزوجوه فلما انصرفوا قال له أخوه يغفر الله لك أما كنت تذكر سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتترك ما عدا ذلك فقال مه يا أخي صدقت فأنكحك الصدق.

وخطب الحجاج فأطال فقام رجل فقال الصلاة فان الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك فأمر بحبسه فأتاه قومه زعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله فقال إن أقر بالجنون خليته فقيل له فقال معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني، فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه.

الفصل الثاني في الكذب وما جاء به
قال الله تعالى في الكاذبين: ( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) وقال تعالى: ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إياكم والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وتحروا الصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كذب العبد كذبة تباعد الملكان عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به ويُقال راوي الكذب أحد الكذابين.

ويُقال رأس المآثم الكذب وعمود الكذب البهتان.

وقيل أمران لا ينفكان من الكذب كثرة المواعيد وشدة الاعتذار.

وقال الحسن في قوله تعالى: ( ولكم الويل مما تصفون ) وهي لكل واصف كذب إلى يوم القيامة.

وقال الأصمعي قلت لكذاب أصدقت قط قال لولا أني أخاف أصدق في هذا لقلت لك لا فتعجب.

وقال محمود بن أبي الجنود
( لي حلية فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة )
( من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة )

ويقال فلان أكذب من لمعان السراب ومن سحاب تموز وكان بفارس محتسب يعرف بجراب الكذب وكان يقول إن منعت الكذب انشقت مرارتي وإني والله لأجد به مع ما يلحقني من عاره من المسرة ما لا أجده بالصدق مع ما ينالني من نفعه.

وقال فيلسوف من عرف من نفسه الكذب لم يصدق الصادق فيما يقوله.

ولبعضهم:
( حسب الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه )
( فمتى سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه )

وأضاف صيرفي قوما فأقبل يحدثهم فقال بعضهم نحن كما قال تعالى: ( سماعون للكذب أكالون للسحت).

وعن عبد الله ابن السدي قال قلت لابن المبارك حدثنا حديثا قال ارجعوا فلست أحدثكم فقيل له إنك لم تحلف فقال لو حلفت لكفَّرت وحدثتكم ولكن لست أكذب فكان هذا أحب إلينا من الحديث وقال مجاهد يكتب على ابن آدم كل شيء حتى أنينه في سقمه وحتى أن الصبي ليبكي فتقول له أمه اسكت وأشتري لك كذا ثم لا تفعل فتكتب كذبة.

وقال الفضيل ما من مضغة أحب إلى الله تعالى من اللسان إذا كان صدوقاً ولا مضغة أبغض إلى الله تعالى من اللسان إذا كان كذوباً.

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً أعظم الخطايا اللسان الكذوب.

قال الشاعر:
( لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو فعله السوء أو من قلة الأدب )
( لبعض جيفة كلب خير رائحة ... من كذبة المرء في جد وفي لعب )

ولما نصب معاوية رضي الله تعالى عنه ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء وجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يسلمون على يزيد حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال يا أمير المؤمنين أعلم إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها والأحنف ساكت فقال معاوية مالك لا تقول يا أبا بحر فقال أخاف الله تعالى إن كذبت وأخافكم إن صدقت فقال جزاك الله خيراً عمَّا تقول ثم أمر له بألوف فلما خرج الأحنف لقيه ذلك الرجل بالباب فقال له يا أبا بحر إني لأعلم أن هذا من شرار خلق الله تعالى ولكنهم استوثقوا من الأموال بالأبواب والأقفال فلسنا نطمع في إخراجها إلا بما سمعت فقال له الأحنف يا هذا أمسك فان ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيهاً.

وقيل إن الكذب يحمد إذا وصل بين المتقاطعين أو أصلح بين الزوجين ويذم الصدق إذا كان غيبة وقد رفع الحرج عن الكاذب في الحرب وعن المصلح بين المرء وزوجه.

وكان المهلب في حرب الخوارج يكذب لأصحابه يقوي بذلك جأشهم فكانوا إذا رأوه مقبلاً إليهم قالوا جاءنا بكذب.

وقال يحيى بن خالد رأينا شارب خمر نزع ولصاً أقلع وصاحب فواحش رجع ولم نر كذاباً صار صادقاً.

وكان عمر بن معد يكرب مشهوراً بالكذب.

وقيل لخلف الأحمر وكان شديد التعصب لليمن أكان ابن معد يكرب يكذب فقال كان يكذب في المقال ويصدق في الفعال.

قيل إن بلالاً لم يكذب مُذ أسلم رضي الله تعالى عنه والحمد لله وحده.