بسم الله الرحمن الرحيم
المجلد الثاني
الباب الثالث والأربعون في الهجاء ومقدماته
القصد من الهجاء الوقوف على ملحه وما فيه من ألفاظ فصيحة ومعان بديعة لا التشفي بالاعراض والوقوع فيها وليس الهجاء دليلا على إساءة المهجو ولا صدق الشاعر فيما رماه به فما كل مذموم بذميم وقد يهجي الانسان بهتاناً وظلماً أو عبثاً أو ارهاباً.

قال المتوكل لأبي العيناء كم تمدح الناس وتذمهم قال ما أحسنوا وأساؤا.

وقد رضي الله تعالى على عبد من عبيده فمدحه فقال: "نِعْمَ العبد إنه أوَّاب"، وغضب على آخر فقال: "مناع للخير مُعْتَدٍ أثيم عتل بعد ذلك زنيم"، قيل الزنيم الملصق بالقوم وليس منهم.

وقال دعبل في المأمون بعد البيعة له وقتل الأمين:
( إني من القوم الذين همو همو ... قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد )
( شادوا لذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد )

فقال المأمون ما أبهته ليت شعري متى كنت خاملاً وفي حجر الخلافة ربيت وبدرها غذيت.

ولما قتل جعفر بن يحيى بكى عليه أبو نواس فقيل له أتبكي على جعفر وأنت هجوته فقال كان ذلك لركوب الهوى وقد بلغه والله أني قلت:
( ولست وإن أطنبت في وصف جعفر ... بأول إنسان خري في ثيابه )

فكتب يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ثيابه.

ومن العبث بالهجو ما روي أن الحطيئة هَمَّ بهجاء فلم يجد مَنْ يستحقه فقال:
( أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بسوء فلا أدري لمن أنا قائله )
( أرى بي وجهاً قبَّح اللهُ خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله )

وعبث بأمه فقال:
( تنحي فاجلسي عنا بعيدا ... أراح الله منك العالمينا )
( أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا )
( حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسر الصالحينا )

وقال رجل ما أبالي أهجيت أم مدحت فقال له الأحنف أرحت نفسك من تعب الكرام.

وقال رجل لآخر إن هجوتني أتموت ابنتي قال لا قال أفتخرب ضيعتي قال لا قال فرجلي مع ساقي إلى حلقي في حر أمك قال ولم تركت رأسك قال لأنظر ما تصنع وأنا أقول إنما يخشى من الهجو من يخاف على عرضه وأما من لا يخاف على عرضه فقد يستوي عنده المدح والذم وبئس الرجل ذاك.

وكان الرجل من نمير إذا قيل له ممن الرجل يقول من نمير وأمال بها عنقه فلما هجاهم جرير بقوله:
( فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا )

صار إذا قيل لأحدهم ممن الرجل يقول من بني عامر وما لقيت قبيلة من العرب بهجو ما لقيت نمير بهجو جرير.

وهجا ابن سام رجلاً فقال:
( يا طلوع الرقيب من غير إلف ... يا غريما أتى على ميعاد )
( يا ركودا في وقت غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم كساد )

وقصد ابن عيينة قبيصة المهلبي واستماحه فلم يسمح له بشيء فانصرف مغضباً فوجه إليه داود بن يزيد بن حاتم فترضَّاه وأحسن إليه فقال في ذلك:
( داود محمود وأنت مذمم ... عجبا لذاك وأنتما من عود )
( ولرب عود قد يشق لمسجد ... نصفا وباقيه لحش يهودي )
( فالحش أنت له وذاك بمسجد ... كم بين موضع مسلح وسجود )
( هذا جزاؤك يا قبيص لأنه ... جادت يداه وأنت قبل حديد )

وله هجاء في خالد:
( أبوك لنا غيث يغيث بوبله ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر )
( له أثر في المكرمات يسرنا ... وأنت تعفي دائما ذلك الأثر )

وقال المبرد في حقه لم يجتمع لأحد من المحدثين في بيت واحد هجاء رجل ومدح أبيه إلا له.

ولما قعد حماد عجرد لتأديب ولد الأمين قال بشار بن برد:
( قل للأمين جزاك الله صالحه ... لا يجمع الله بين السخل والذيب )
( السخل يعلم أن الذئب آكله ... والذئب يعلم ما بالسخل من طيب )

وقال فيه أيضاً:
( يا أبا الفضل لا تنم ... وقع الذئب في الغنم )
( إن حماد عجرد ... شيخ سوء قد اغتنم )
( بين فخديه حربة ... في غلاف من الأدم )
( إن رأى ثَمَّ غفلة ... يجمع الميم بالقلم )

فشاعت الأبيات فأمر الأمين باخراج حماد.

وقال رجل لأخيه لأبويه لأهجونك هجاء يدخل معك في قبرك قال كيف تهجوني وأبوك أبي وأمك أمي قال أقول:
( بني أمية هبوا طال نومكمو ... إن الخليفة يعقوب بن داود )
( ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الماء والعود )

فدخل يعقوب على المهدي فأخبره أن بشاراً هجاه فاغتاظ المهدي وانحدر إلى البصرة لينظر في أمرها فسمع أذاناً في ضحى النهار فقال انظروا ما هذا وإذا به بشار وهو سكران فقال له يا زنديق عجب أن يكون هذا من غيرك ثم أمر به فضربه سبعين سوطاً حتى أتلفه بها وألقي في سفينة فقال عين الشمقمق تراني حيث يقول:
( إن بشار بن برد ... تيس أعمى في سفينة )

فلما مات ألقيت جثته في الماء فحمله الماء فأخرجه إلى الدجلة فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة وأخرجت جنازته فما تبعه أحد وتباشر عامة الناس بموته لما كان يلحقهم من الأذى منه.

وخاصم أبو دلامة رجلاً فارتفعا إلى عافية القاضي فلما رآه أبر دلامة أنشد يقول:
( لقد خاصمتني دهاة الرجال ... وخاصمتها سنة وافيه )
( فلا أدحض الله لي حجة ... ولا خيب الله لي قافيه )
( ومن خفت من جوره في القضاء ... فلست أخافك يا عافيه )

فقال عافية لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني قال له أبو دلامة إذا والله يعزلك، قال ولم قال لأنك لا تعرف الهجاء من المدح قال فبلغ ذلك المنصور فضحك وأمر له بجائزة.

ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن علي وعيسى بن موسى والعباس بن محمد وجماعة من بني هاشم فقال له المهدي والله لئن لم تهج واحداً ممن في هذا البيت لأقطعن لسانك، فنظر إلى القوم وتحيَّر في أمره وجعل ينظر إلى كل واحد فيغمزه بأن عليه رضاه قال أبو دلامة فازددت حيرة فما رأيت أسلم لي من أن أهجو نفسي فقلت:
( ألا أبلغ لديك أبا دلامة ... فلست من الكرام ولا كرامه )
( جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الدمامه )
( إذا لبس العمامة قلت قردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامه )

فضحك القوم ولم يبق منهم أحداً إلا أجازه.

وقال ابن الأعرابي إن أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهب في محمد بن هاشم:
( لم تند كفاك من بذل النوال كما ... لم يند سيفك مذ قلدته بدم )

وهجا بعضهم القمر فقال يهدم العمر ويوجب أجرة المنزل ويشجب الألوان ويقرض الكتان ويضل الساري ويعين السارق ويفضح العاشق.

ولابن منقذ في أبي طليب المصري وقد احترقت داره:
( أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قسرا إلى الأقدار بالأقدار )
( ما أوقد ابن طليب قط بداره ... نارا وكان خرابها بالنار )

وكان للوجيه بن صورة المصري دلال الكتب دار بمصر موصوفة بالحسن فاحترقت فقال فيها ابن المنجم:
( أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها وهجة تتضرم )
( فما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم )

وقد أحسن الأديب كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى في ذم دار كان يسكنها حيث قال:
( دار سكنت بها أقل صفاتها ... أن تكثر الحشرات في جنباتها )
( الخير عنها نازح متباعد ... والشر دان من جميع جهاتها )
( من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الاجفان طيب سناتها )
( وتبيت تسعدها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها )
( رقص بتنقيط ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها )
( وبها ذباب كالضباب يسد عين ... الشمس ما طربي سوى غناتها )
( أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها )
( وبها من الخطاف ما هو معجز ... أبصارنا عن وصف كيفياتها )
( وبها خفافيش تطير نهارها ... مع ليلها ليست على عاداتها )
( وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها )
( وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها )
( لو شم أهل الحرب منتن فسوها ... أردى الكماة الصيد عن صهواتها )
( وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفوت العين كنه ذواتها )
( أبدا تمص دماءنا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها )
( وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذو الشمس عن ذراتها )
( وما راعني شيء سوى وزغانها ... فتعوذوا الله من لدغاتها )
( سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في شجراتها )
( وبها زنابير تظن عقاربا ... حر السموم أخف من زفراتها )
( وبها عقارب كالأقارب رتع ... فينا حمانا الهف لدغ حماتها )
( كيف السبيل إلى النجاة ولا نجاة ... ولا حياة لمن رأى حياتها )
( منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت على آفاتها )
( فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالرمل في خشناتها )
( والبوم عاكفة على أرجائها ... والدود يبحث في ثرى عرصاتها )
( والجن تأتيها إذا جن الدجى ... تحكي الخيول الجرد في حملاتها )
( والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها )
( شاهدت مكتوبا على أرجائها ... ورأيت مسطورا على جنباتها )
( لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها )
( أبدا يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها )
( قالوا إذا ندب الغراب منازلا ... يتفرق السكان من ساحاتها )
( وبدارنا ألفا غراب ناعق ... كذب الرواة فأين صدق رواتها )
( صبرا لعل الله يعقب راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها )
( دار تبيت الجن تحرس نفسها ... فيها وتندب باختلاف لغاتها )
( كم بت فيها مفردا والعين من ... شوق الصباح تسح من عبراتها )
( وأقول يا رب السموات العلا ... يا رازقا للوحش في فلواتها )
( أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها )
( واجمع بمن أهواه شملي عاجلا ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها )

ولبعضهم في بلان:
( أشكوا إلى الله بلانا بليت به ... مست أنامله ظهري فأدماني )
( فلا يدلك تدليكا بمعرفة ... ولا يسرح تسريحا باحسان )

وللشيخ شمس الدين البدوي في بلان أيضاً:
( وبلان له ظهر يباهي ... به حد الشفار المرهفات )
( هرى جسمي فالبسه نجيعا ... على حلل الستور السابلات )
( ورام يلين أعضائي برفق ... فأيبسها وكسر فوقحاني )
( ولم أنظر له أبدا جميلا ... وذلك من عظيم المهلكات )
( وأعمى مقلتي بصنان أبط ... يفوح به على كل الجهات )
( فلا تجعل إلهي مثل هذا ... يغسلني إذا حانت وفاتي )

ولبعضهم في حمام:
( وحمام دخلناه لأمر ... حكى سقرا وفيها المجرمونا )
( فيصطرخوا يقولوا أخرجونا ... فإن عدنا فانا ظالمونا )

وللشريف أبي يعلى الهاشمي البغدادي في نظام الملك يهدده بالهجاء يقول:
( أيجمل يا نظام الملك أني ... أعاود من ذراك كما قدمت )
( وأصدر عن حياضك وهي نهب ... فأفواه السقاة وما وردت )
( يدل على فعالك سوء حالي ... ويخبر عن نوالك إن كتمت )
( إذا استخبرت ماذا نلت منه ... وقد عم الورى كرما سكت )

وممن عرض بالهجو في شعره الخوارزمي قال في أبي جعفر:
( أبا جعفر لست بالمنصف ... ومثلك إن قال قولا يفي )
( فإن أنت أنجزت لي ما وعدت ... وإلا هجيت وأدخلت في )
( وقد علم الناس ما بعد في ... فغط الحديث ولا تكشف )

ومدح السراج الوراق إنسانا فلم يجزه فكتب يعرض له بالهجاء ويهدده يقول:
( أعد مدحي علي وخذ سواه ... فقد أتعبتني يا مستريح )
( ولا تغضب إذا أنشدت يوما ... سواه وقيل لي هذا صحيح )

وله أيضاً يقول:
( أعد مدحا كذبت عليك فيه ... وقد عوفيت بالحرمان عنه )
( ولكني سأصدق فيك قولا ... فلا يصعب عليك الحق منه )

وقال بعضهم في حُجَّاجٍ قدموا ولم يهدوا إليه شيئاً:
( مضوا ليحجوا والوجوه كأنها ... تكاد لفرط البشر أن توضح السبلا )
( وعادوا كأن القار فوق وجوههم ... فلا مرحبا بالقادمين ولا سهلا )
( وجاؤا وما جادوا بعود أراكة ... ولا وضعوا في كف طفل لنا نقلا )

وقال آخر:
( إذا رمت هجوا في فلان تصدني ... خلائق قبح عنه لا تتزحزح )
( تجاوز قدر الهجو حتى كأنه ... بأقبح ما يهجى به المرء يمدح )

وهجا بعضهم امرأة فقال:
( لها جسم برغوث وساق بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح )
( تبرق عينيها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضجيع وتكلح )
( لها منظر كالنار تحسب أنها ... إذا ضحكت في أوجه الناس تلفح )
( إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوذ منها حين يمسي ويصبح )

ولبعضهم في عظيم أنف:
( لك وجه وفيه قطعة أنف ... كجدار قد دعموه ببغله )
( وهو كالقبر في المتال ولكن ... جعلوا نصفه على غير قبله )

وفيه أيضاً:
( رأينا للزكي جدار أنف ... يضاهي في تشامخه الجبالا )
( تصدى للهلاك لكي يراه ... فلولا عظمه لرأى الهلالا )

ولبعضهم في أبخر مخنث:
( قالوا فلان به نتن فقلت لهم ... يا قوم قد حار فكري في مساويه )
( يا قوم لا تعجبوا من نتن نكهته ... فالأير يدفع ما فيه إلى فيه )

ولصفي الدين الحلي:
( رأى فرسي اصطبل عيسى فقال لي ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي )
( به لم أذق طعم الشعير كأنني ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
( تقعقع من برد الشتاء أضالعي ... لما نسجتها من جنوب وشمال )

وله أيضاً:
( ليهتك إن لي ولدا وعبدا ... سواء في المقال وفي المقام )
( فهذا سابق من غير سين ... وهذا عاقل من غير لام )

وله في طبيب يدعى إسحاق:
( مباضع إسحق الطبيب كأنها ... لها بفناء العالمين كفيل )
( معودة أن لا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قتيل )

وله في أحمق طويل اللسان:
( لو أن قوة وجهه في قلبه ... قنص الأسود وجندل الأبطالا )
( أو كان طول لسانه بيمينه ... أفنى الكنوز وأنفذ الأموالا )

وهجا اعرابي رجلاً ثم مدحه فقال:
( إني مدحتك من فساد قريحتي ... وعلمت أن المدح فيك يضيع )
( لكن رأيت المسك عند فساده ... يدني إلى بيت الخلا فيضيع )

وقيل لبعضهم ما تقول في فلان وفلان قال هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما.

وقيل لرجل كيف وجدت فلاناً قال طويل اللسان في اللؤم قصير الباع في الكرم وثاباً على الشر مناعاً للخير.

وسمع أعرابي قوله تعالى: ( الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا ) فانتفض ثم سمع قوله تعالى:
( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر )

فقال: الله أكبر هجانا ثم مدحنا وكذلك قال الشاعر:
( هجوت زهيراً ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تُهجى وتُمدح )

وقال أبو زيد العبدي:
( ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ... إن الكلاب طويلة الأعمار )

وقال المتوكل لأبي العيناء ما بقي أحد في المجلس إلا هجاك وذمَّك غيري فقال:
( إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا علي لئامها )