كتاب المستطرف في كل فن مستظرف
الباب الرابع والعشرون:
 في حُسن المُعاشرة والمودة وألأخوَّة والزِّيارة وما أشبه ذلك

أعلم أن المودة وألأخوة والزيارة سبب التآلف، والتآلف سبب القوة، والقوة سبب التقوى، والتقوى حصن منيع وركن شديد بها يُمنع الضيم وتُنال الرَّغائب وتُنجع المقاصد، وقد مَنَّ الله تعالى على قوم وذكرهم نعمته عليهم بأن جمع قلوبهم على الصفاء وردَّها بعد الفُرقة إلى الألفة والإخاء فقال تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ) ووصف نعيم الجنة وما أعد فيها لأوليائه من الكرامة إذ جعلهم إخواناً على سُرُرٍ متقابلين وقد سَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإخاء وندب إليه وآخي بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وقد ذكر الله تعالى أهل جهنم وما يلقون فيها من الألم إذ يقولون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين وأنشدوا في ذلك
( وما المرء إلا بإخوانه ... كما يقبض الكف بالمعصم )
( ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم )

وقال زياد خير ما اكتسب المرء الإخوان فإنهم معونة على حوادث الزمان ونوائب الحدثان وعون في السراء والضراء.

ومن كلام علي رضي الله عنه وكرم وجهه:
 ( عليك بأخوان الصفاء فإنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور )
( وإن قليلا ألف خل وصاحب ... وإن عدوا واحدا لكثير )

وقال الأوزاعي الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب إن لم تكن مثله شانته وقال عبد الله بن طاهر المال غاد ورائح والسلطان ظل زائل والإخوان كنوز وافرة وقال المأمون للحسن بن سهل نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة سوى سبعة قال وما السبعة يا أمير المؤمنين قال خبز الحنطة ولحم الغنم والماء البارد والثوب الناعم والرائحة الطيبة والفراش الواطىء والنظر الى الحسن من كل شيء قال فأين أنت يا أمير المؤمنين من محادثة الرجال قال صدقت وهى أولاهن وقال سليمان بن عبد الملك أكلت الطيب ولبست اللين وركبت الفارة وافتضضت العذراء فلم يبق من لذاتي إلا صديق أطرح معه مؤنة التحفظ وكذلك قال معاوية رضي الله عنه نكحت النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط وأكلت الطعام حتى لا أجد ما استمرئه وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء وركبت المطايا حتى اخترت نعلي ولبست الثياب حتى اخترت البياض فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي ألا محادثة أخ كريم.

وأنشدوا في معنى ذلك:
( وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوى العقول )
( وقد كنا نعد هم قليلا ... فقد صاروا أقل من القليل )

وقال لبيد
( ما عاتب المرء اللبيب كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح )

وقال آخر
( إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالا لزلته عذرا )

وقيل لابن السماك أي الاخوان أحق ببقاء المودة قال الوافر دينه الوافي عقله الذي لا يملك على القرب ولا ينساك على البعد إن دنوت منه داناك وإن بعدت عنه راعاك وإن استعنت به عضدك وان احتجت إليه رفدك وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله.

وأنشدوا في المعنى
( إن أخاك الصديق من يسعي معك ... ومن يضر نفسه لينفعك )
( ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك )
( وليس أخي من ودني بلسانه ولكن أخي من ودني وهو غائب )
( ومن ماله مالى إذا كنت معدما ... ومالي له إن أعوزته النوائب )

وقال أبو تمام
( من لى بإنسان إذا أغضبته ... وجهلت كان الحلم رد جوابه )
( وإذا صبوت إلى المدام شربت من ... أخلاقه وسكرت من آدابه )
( وتراه يصغي للحديث بطرفه ... وبقلبه ولعله أدري به )

وقيل لخالد بن صفوان أي إخوانك أحب إليك قال الذي يسد خلتي ويغفر زلتي ويقيل عثرتي وقيل من لا يؤاخي إلا من لا عيب فيه قل صديقة ومن لم يرض من صديقة إلا بإيثارة على نفسه دام سخطه ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه وكثر تعبه.

قال الشاعر
( ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب )

وقال آخر
( إذا كنت في كل الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه )
( وإن أنت لم تشرب مرارا على الأذي ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه )

وقال إذا رأيت من أخيك أمرا تكرهه أو خلة لا تحبها فلا تقطع حبلة ولا تصرم وده ولكن داو كلمته واستر عورته وأبقه وأبرأ من عمله قال الله تعالى ( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون )

فلم يأمره بقطعهم وإنما أمره بالبراءة من عملهم السيء وقال الأرواح أجناد مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تنكر منها اختلف وقال عليه الصلاة و السلام إن روحي المؤمنين ليلتقيان من مسيرة يوم ما رأى أحدهما صاحبه.

وفي ذلك قال بعضهم:
( هويتكم بالسمع قبل لقائكم ... وسمع الفتي يهوى لعمرى كطرفة )
( وخبرت عنكم كل جود ورفعة ... فلما التقينا كنتم فوق وصفه )

وقال آخر:
( تبسم الثغر عن أوصافكم فغدا ... من طيب ذكركم نشرا فأحيانا )
( فمن هناك عشقناكم ولم نركم ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا )

ما تحاب اثنان في الله الا كان أفضلهما عند الله أشدهما حبا لصاحبه ما زار أخ أخا في الله شوقا إليه ورغبة في لقائه إلا نادته ملائكة من ورائه طبت وطابت لك الجنة وقالوا ليس سرور يعدل لقاء الإخوان ولا غم يعدل فراقهم وقالوا شر الاخوان الواصل في الرخاء الخاذل عند الشدة وقالوا إن من الوفاء أن تكون لصديق صديقك صديقا ولعدو صديقك عدوا وقالوا أعجب الأشياء ود من يهودي وحفظ من نصراني ورياضة من دهري وكرم من أعجمي والحذر من الكريم إذا أهنته واللئيم إذا أكرمته والعاقل إذا أحرجته وألأحمق إذا مازحته والفاجر إذا عاشرته وقالوا صحب من الإخوان من أولاك جمائل كثيرة فكافأته بجميلة واحدة فنسي جمائله وبقي شاكرا ناشرا ذاكرا لجميلتك يوليك عليها الإحسان الكثير الجزيل ويجعل أنه ما بلغ من مكافأتك القليل وقال ابن عائشة لقاء الخليل شفاء الغليل وقال بعض الحكماء إذا وقع بصرك على شخص فكرهته فاحذره جهدك.

قال عبد الله بن طاهر:
( خليلي للبغضاء حال مبينة ... وللحب آثار ترى ومعارف )
( فما تنكر العينان فالقلب منكر ... وما تعرف العينان فالقلب عارف )

وقال آخر
( وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وشرقني على ظمإ بريقي )
( غفرت ذنوبه وكظمت غيظي ... مخافة أن أعيش بلا صديق )

وقال آخر
( وليس فتى الفتيان من جل همه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق )
( ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا ... لضر عدو لنفع صديق )

وأما آداب المعاشرة فالبشاشة والبشر وحسن الخلق والأدب فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-ين والصديقين البشاشة إذا تراءوا والمصافحة إذا تلاقوا وكان القعقاع بن شور الهذلي إذا جالسته رجل يجعل له نصيبا من ماله ويعينه على حوائجه ودخل يوما على معاوية فأمر له بألف دينار وكان هناك رجل قد فسح له في المجلس فدفعها للذي فسح له...

 فقال:
( وكنت جليس قعقاع بن ثور ... وما يشقي بقعقاع جليس )
( ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس )

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لجليسي على ثلاث أن أرمقه بطرفي إذا أقبل وأوسع له إذا جلس وأصغي له إذا حدث ويقال لكل شيء محل ومحل العقل مجالسته الناس ومثل الجليس الحسن كالعطار إن لم يصبك من عطره أصابك من رائحته ومثل الجليس السوء مثل الكبريت إن لم يحرق ثوبك بناره آذاك بدخانه وكانت تحية العرب صبحتك الأنعمة وطيب الأطعمه وتقول أيضا صبحتك الأفالح وكل طير صالح ووصف المأمون ثمامة بحسن المعاشرة فقال إنه يتصرف مع القلوب تصرف السحاب مع الجنوب وقيل أول ما يتعين على الجليس الإنصاف في المجالسة بأن يلحظ بعين الأدب مكانه من مكان جليسه فيكون كل منهما في محلة وقال ذو العلم والسلطان أحق بشرف المنزل وقال جعفر الصادق رضي الله عنه إذا دخلت منزل أخيك فأقبل كرامته كلها ما عدا الجلوس في الصدور وينبغي للانسان أن لا يقبل بحديثه على من لا يقبل عليه فقد قيل إن نشاط المتكلم بقدر إقبال السامع ويتعين عليه أن يحدث المستمع على قدر عقله ولا يبتدع كلاما لا يليق بالمجلس فقد قيل لكل مقام مقال وخير القول ما وافق الحال وأوجبوا على المستمع أنه إذا ورد عليه من المتكلم ما كان مر بسمعه أولا أن لا يقطع عليه ما يقوله بل يسكت إلى أن يستوعب منه القول وعدوا ذلك من باب الأدب ولعله إذا صبر وسكت استفاد من ذلك زيادة فائدة لم تكن في حفظه وقيل ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم الجالس في مجلس ليس له بأهل والمقبل بحديثه على من لا يسمعه والداخل بين اثنيبن في حديثهما ولم يدخلاه فيه والمتعرض لما لا يعنيه والمتآمر على رب البيت في بيته والآتي إلى مائدة بلا دعوة وطالب الخير من أعدائه والمستخف بقدر السلطان ويتعين على الجليس أن يراعي ألفاظه ويكون على حذر أن يعثر لسانه خصوصا إذا كان جليسه ذا هيبة فقد قيل رب كلمة سلبت نعمة وقال أبو العباس السفاح ما رأيت اغزر من فكر أبي بكر الهذلي لم يعد على حديثا قط وقيل أن أبا العباس كان يحدثه يوما إذ عصفت الريح فأرمت طستا من سطح إلى المجلس فارتاع من حضر ولم يتحرك الهذلي ولم تزل عينه مطابقة لعين السفاح فقال ما اعجب شأنك يا هذلي فقال إن الله يقول ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) وإنما لي قلب واحد فلما غمره النور بمحادثة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال فلو انقلبت الخضراء على الغبراء ما أحسست بها ولا وجمت لها فقال السفاح لئن بقيت لك لأرفعن مكانك ثم أمر له بمال جزيل وصلة كبيرة وكان ابن خارجة يقول ما غلبني أحد قط غلبة رجل يصغي إلى حديثي.

وفي نوابغ الحكم أكرم حديث أخيك بانصاتك وصنه من وصمة التفاتك.

وقيل من حق الملك إذا تثاءب أو ألقي المروحة من يده أو مَدَّ رجليه أو تمطَّي أو اتكأ أو فعل ما يدل على كسله أن يقوم مَنْ بحضرته وكان أردشير إذا تمطَّي قام سُمَّارُه.

ومن حق الملك أن لا يُعاد عليه حديث وإن طال الدهر

 قال روح بن زنباع أقمت مع عبد الملك سبع عشرة سنة فما أعدت عليه حديثا إلا مرة واحدة فقال لي قد سمعته منك

وعن الشعبي قال ما حدثت بحديث مرتين رجلا بعينه

وقال عطاء بن أبي رباح إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه قط وقد سمعت به من قبل أن يولد

وقيل المودة طلاقه الوجه والتودد إلى الناس

وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه إن المسلمين إذا التقيا فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كتحات ورق الشجر

وقيل البشر يدل على السخاء كما يدل النور على الثمر

وقيل من السنة إذا حدثت القوم أن لا تقبل على واحد منهم ولكن اجعل لكل واحد منهم نصيبا

وقالوا إذا أردت حسن المعاشر ة فالق عدوك وصديقك بالطلاقة ووجه الرضا والبشاشة ولا تنظر في عطفيك ولا تكثر الالتفات ولا تقف على الجماعات وإذا جلست فلا تتكبر على أحد وتحفظ من تشبيك أصابعك ومن العبث بلحيتك ومن اللعب بخاتمك وتخليل أسنانك وإدخال أصبعك في أنفك وكثرة بصاقك وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة وليكن مجلسك هادئا وحديثك منظوما مرتبا واصغ إلى كلام مجالسك واسكت عن المضاحك ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحدا على الظلم ولا تهازل أمتك ولا عبدك فيسقط وقارك عندهما واذا خاصمت فانصف وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجتك ولا تكثر الإشارة بيدك ولا الالتفات إلى من وراءك واهدىء غضبك وتكلم وإذا قربك سلطان فكن منه على حذر واحذر انقلابه عليك وكلمة بما يشتهي ولا يحملنك لطفه بك على ان تدخل بينه وبين أهله وحشمه وإن كنت لذلك مستحقا عنده وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك ولا تجالس الملوك فإن فعلت فالتزم ترك الغيبة ومجانبه الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والمذاكرة بأخلاق الملوك والحذر منهم وإن ظهرت المودة ولا تتجشأ بحضرتهم ولا تخلل اسنانك بعد الأكل عندهم ولا تجالس العامة فإن فعلت فآداب ذلك ترك الخوض في حديثهم وقلة الاصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم وإياك أن تمازح لبيبا أو سفيها فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يتجرأ عليك ولأن المزاح يخرق الهيبة ويذهب بماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الإيمان والود ويشين فقه الفقيه ويجريء السفيه ويميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة والذلة ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط فليذكر الله عند قيامه فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا انت استغفرك وأتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك.

وأما آداب المسايرة
فقد روى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعقب هو وعلى بن أبي طالب كرم الله وجهه ورجل آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في سفر على بعير فكان إذا جاءت نوبته في المشي مشى فيعزمان عليه أن لا يمشي فيأبي ويقول ما أنتم بأقدر مني على مشي وما أنا بأغني منكم عن أجر وقال لا تتخذوا ظهور الدواب كراسي وقيل لا تتقدم الأصاغر على الأكابر إلا في ثلاث إذا ساروا ليلا أو خاضوا سيلا أو واجهوا خيلا وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث في نكبته وغيبته ووفاته وأما ما جاء في الإخوان القليلي الموافاة العديمي المكافأة الذين ليس عندهم لصديق.

فقال وهب بن منبه صحبت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلا غفر لي زلة ولا أقالني عثرة ولا ستر لي عورة وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا كان الغدر طبعا فالثقة بكل أحد عجز وقيل لبعضهم ما الصديق قال اسم وضع على غير مسمى وحيوان غير موجود

قال الشاعر
( سمعنا بالصديق ولا نراه ... على التحقيق يوجد في الأنام )
( وأحسبه محالا نمقوه ... على وجه المجاز من الكلام )

وقال أبو الدرداء كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا شوكا لا ورق فيه

وقال جعفر الصادق لبعض إخوانه أقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم وإن كان مائة صديق فاطرح تسعة وتسعين وكن من الواحد على حذر

وقيل لبعض الولاة كم لك صديق فقال أما في حال الولاية فكثير وأنشد:
( الناس إخوان من دامت له نعم ... والويل للمرء إن زلت به القدم )

ولما انكب علي بن عيسي الوزير لم ينظر ببابه أحدا من أصحابه الذين كانوا يألفونه في ولايته فلما ردت إليه الوزارة وقف أصحابه ببابه ثانيا فقال
( ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكلما انقلبت يوما به انقلبوا )
( يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا )

وقال آخر
( فما كثر الأصحاب حين نعدهم ... ولكنهم في النائبات قليل )

وقال البحترى
( إياك تغتر أو تخدعك بارقة ... من ذي خداع يرى بشرا وألطافا
( فلو قلبت جميع الأرض قاطبة ... وسرت في ألأرض أوساطا وأطرافا )
( لم تلق فيها صديقا صادقا أبدا ... ولا أخا يبذل الإنصاف إن صافي )

وقال بعضهم في المعنى أيضا
( خليلي جربت الزمان وأهله ... فما نالني منهم سوى الهم والعنا )
( وعاشرت أبناء الزمان فلم أجد ... خليلا يوفي بالعهود ولا أنا )

وقال آخر
( لما رأيت بني الزمان وما بهم ... خل وفي للشدائد أصطفي )
( فعلمت أن المستحيل ثلاثة ... الغول والعنقاء والخل الوفي )

بيت مفرد
( وكل خليل ليس في الله وده ... فإني به في وده غير واثق )

قال آخر
( ذا ما كنت متخذا خليلا ... فلا تأمن خليلك أن يخونا )
( فإنك لم يخنك أخ أمين ... ولكن قلما تلقي أمينا )

وقال آخر
( تحب عدوى ثم تزعم أنني ... أودك إن الرأي عنك لعازب )
( وليس أخي من ودني بلسانه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب )
( ومن ماله مالي إذا كنت معدما ... ومالي له إن أعوزته النوائب )

ولما غضب السلطان على الوزير ابن مقلة وأمر بقطع يده لما بلغه أنه زور عنه كتابا إلى أعدائه وعزله لم يأت إليه أحد ممن كان يصحبه ولا توجع له ثم أن السلطان ظهر له في بقية يومه أنه بريء مما نسب إليه فخلع عليه ورد إليه وظائفة فأنشد يقول هذه الأبيات:
( تحالف الناس والزمان ... فحيث كان الزمان كانوا )
( عاداني الدهر نصف يوم ... فانكشف الناس لي وبانوا )
( يا أيها المعرضون عنا ... عودوا فقد عاد لي الزمان )

ومثله في المعني
( أخوك أخوك من يدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا )
( إذا حاربت حارب من تعادى ... وزاد سلاحه منك اقترابا )

وقال أبو بكر الخالدي
( وأخ رخصت عليه حتى ملنى ... والشيء مملول إذا ما يرخص )
( ما في زمانك من يعز وجوده ... إن رمته إلا صدق مخلص )
فيجب على الإنسان أن لا يصحب إلا من له دين وتقوى فإن المحبة في الله تنفع في الدنيا والآخرة

وما أحسن ما قال بعضهم
( وكل محبة في الله تبقي ... على الحالين من فرج وضيق )
( وكل محبة فيما سواه ... فكالحلفاء في لهب الحريق )

فينبغي للإنسان أن يجتنب معاشرة الأشرار ويترك مصاحبة الفجار ويهجر من ساءت خلته وقبحت بين الناس سيرته قال الله تعالى ( الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )

وقال تعالى ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )

فأثبت الله المماثلة بيننا وبين البهائم وذلك إنما هو في الأخلاق خاصة فليس أحد من الخلق إلا وفيه خلق من أخلاق البهائم ولهذا تجد أخلاق الخلائق مختلفة فإذا رأيت الرجل جاهلا في خلائقه غليظا في طبائعه قويا في بدنه لا تؤمن ضغائنه فألحقه بعالم النمورة والعرب تقول أجهل من من نمر وإذا رأيت الرجل هجاما على أعراض الناس فقد ماثل عالم الكلاب فإن دأب الكلب أن يجفو من لا يجفوه ويؤذي من لا يؤذيه فعامله بما كنت تعامل به الكلب إذا نبح ألست تذهب وتتركه وإذا رأيت أنسانا قد جبل على الخلاف إن قلت نعم لا قال لا وإن قلت لا قال نعم فألحقه بعالم الحمير فإن دأب الحمار إن أدنيته بعد وإن أبعدته قرب فلا تنتفع به ولا يمكنك مفارقته وإن رأيت إنسانا يهجم على الأموال والأرواح فألحقه بعالم الأسود وخذ حذرك منه كما تأخذ حذرك من الأسد وإذا بليت بإنسان خبيث كثير الروغان فألحقه بعالم الثعالب وإذا رأيت من يمشي بين الناس بالنميمة ويفرق بين الاحبة فألحقه بعالم الظربان وهي دابة صغيرة تقول العرب عند تفرق الجماعة مشي بينهم ظربان فتفرقوا وإذا رأيت أنسانا لا يسمع الحكمه والعلم وينفر من مجالسة العلماء ويألف أخبار أهل الدنيا فألحقه بعالم الخنافس فإنه يعجبها أكل العذرات وملامسة النجاسات وتنفر من ريح المسك والورد وإذا شمت الرائحة الطيبة ماتت لوقتها وإذا رأيت الرجل يصنع بنفسه كما تصنع المرأة لبعلها يبيض ثيابه ويعدل عمامته وينظر في عطفيه فألحقه بعالم الطواويس وإذا بليت بإنسان حقود لا ينسي الهفوات ويجازي بعد المدة الطويلة على السقطات فألحقه بعالم الجمال والعرب تقول أحقد من جمل فتجنب قرب الرجل الحقود وعلى هذا النمط فليحترز العاقل من صحبة الأشرار وأهل الغدر ومن لا وفاء لهم فإنه إذا فعل ذلك سلم من مكائد الخلق وأراح قلبه وبدنه والله أعلم.

وأما الزيارة والاستدعاء إليها
فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى وجبت محبتي للمتحابين في والمتباذلين في والمتزاورين في اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وقال من عاد مريضا أو زار أخا نادى مناد أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا وقيل المحبة شجرة أصلها الزيارة

قال الشاعر
( زر من تحب وإن شطت بك الدار ... وحال من دونه حجب وأستار )
( لا يمنعك بعد من زيارته ... إن المحب لمن يهواه زوار )

ولكن الزيارة غبا لقوله زر غبا تزدد حبا

قال الشاعر في معنى ذلك
( عليك يا غباب الزيارة إنها ... إذا كثرت صارت إلى الهجر مسلكا )
( ألم تر أن الغيث يسأم دائما ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا )

ويقال الاكثار من الزيارة ممل والاقلال منها مخل

 وكتب صديق إلى صديقة هذا البيت
( إذا ما تقاطعنا ونحن ببلدة ... فما فضل قرب الدار منا على البعد )

وقال آخر
( وإن مروري بالديار التي بها ... سليمي ولم ألم بها لجفاء ) وقال آخر
( قد أتانا من آل سعدى رسول ... حبذا ما يقول لي وأقول )

وقال آخر
أزور بيوتا لا صقات ببيتها ... وقلبي في البيت الذي لا أزوره )
وزار محمد بن يزيد المهلبي المستعين ووهب له مائتي ألف درهم وأقطعه أرضا فقال
( وخصصتني بزيارة أضحي لنا ... مجدى بها طول الزمان مؤثل )
( وقضيت ديني وهو دين وافر ... لم يقضه مع جوده المتوكل )

وكتب المأمون إلى جاريته الخيزران يستدعيها للزيارة
( نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور )
( عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور )
( فأجدوا المسير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا )

وقيل لفيلسوف أي الرسل أنجح قال الذي له جمال وعقل وقيل إذا أرسلتم رسولا في حاجة فاتخذوه حسن الوجه حسن الاسم وقال لقمان لابنه يا بني لا تبعث رسولا جاهلا فإنه لم تجد حكميا عارفا فكن رسول نفسك وقال بعضهم إذا أبطأ الرسول فقل نجاح... ولا تفرح إذا عجل الرسول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.