أهمية التمسك بالتقويم الهجري
لفضيلة الشيخ
محمد بن عثيمين رحمه الله
أهمية التمسك بالتقويم الهجري Untit133
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


أما بعد:
فإننا في هذه اليوم أو في اليوم الذي بعده ندخل عاماً جديداً إسلامياً هجرياً ابتدأ عقد سنواته من أجل مناسبة في الإسلام، ألا وهي هجرة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- التي ابتدأ بها تكوين هذه الأُمَّة في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون، ألا وهو المدينة النبوية التي استقر فيها الإسلام واستقام فيها عوده حتى فتح الله به بلدان كثيرة جداً.


لم يكن التاريخ السنوي معمولاً به في أول الإسلام حتى كانت خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ففي السنة الثالثة أو الرابعة كتب إليه أبو موسى الأشعري إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الصحابة -رضي الله عنهم- فاستشارهم فقيل أنه بعضهم قال: أرِّخُوا كما تأرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك أرخوا بولاية مَنْ بعده فكره الصحابة ذلك، فقال آخرون: أرِّخُوا كما تأرخ الروم ولكنهم كرهوا ذلك أيضاً؛ لأن الفُرس والرُّوم ليسوا من المسلمين الفرس عُبَّاد النيران والرُّوم نصارى أصحاب صليب، فكره الصحابة -رضي الله عنهم- أن يوافقوا هؤلاء وهؤلاء.


ثم قال بعضهم أرِّخُوا من مولد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقال آخرون: أرِّخُوا من مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقال قوم آخرون: أرِّخوا من مُهاجر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فقال عمر -رضي الله عنه- الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل فأرِّخُوا منها فأرَّخُوا من الهجرة، واتفقوا على ذلك أن تكون أول السنوات الإسلامية، هي السنة الأولى من الهجرة، واتفقوا على ذلك ولكنهم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداء السنة، فقال بعضهم من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وقال آخرون: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي -صلى الله عليه وعلى وسلم- فيه المدينة مهاجراً.


ولكن عمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- وهم الخلفاء الثلاثة أفضل الأمَّة بعد أبي بكر -رضي الله عنه- اتفقوا على أن يكون ابتداء السَّنَة من المُحَرَّم؛ لأنه شهرٌ حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم، الذي به تمام أركان دينهم، والذي كان فيه بيعة الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم- والعزيمة على الهجرة فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المُحَرَّم الحرام.


أيها المسلمون:
سمعتم ما كان المسلمون السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار في التحري عن ابتداء التاريخ، والتقويم الإسلامي العربي ورأيتم اختلافهم واستقرارهم على هذا الرأي الحميد، وهذا يدل على أنه يجب على المسلمين أن يعتنوا بتاريخهم، وأن يعتنوا بتقويمهم، وأن لا يكونوا أذناباً لغيرهم يؤرخون بتاريخ غيرهم، فإن هذا بلا شك من الذل والخُنوع، وإن من المؤسف حقاً أن يعدل أكثر المسلمين اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمُتُّ إلى دين الإسلام بصلة، ولئن كان لبعضهم إي لبعض هؤلاء المسلمين الذين كانوا يؤرخون بالتاريخ الميلادي، لئن كان لبعضهم شُبهة من العُذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن يتناسوا تاريخهم الإسلامي الهجري، فليس لهم الآن أي عُذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي؛ لأن الله تعالى بنعمته أزال عنهم كابوس المستعمرين وظلمهم، ولقد سمعتم ما قيل من أن الصحابة -رضي الله عنهم- كرهوا التاريخ بتاريخ الفرس والروم .


أيها المسلمون:
إن التاريخ وإن التقويم شعار الأُمَّة، فإذا تناست الأُمَّة هذا الشعار، فهو تناسي لشخصياتها ومقوماتها التاريخية.

 
أيها المسلمون:
إننا في هذه الأيام نستقبل عاماً جديداً إسلامياً هجرياً، شهوره الشهور الهلالية التي قال الله عنها في كتابه المبين: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، هذه الشهور الأثنى عشر هي الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للعالم كلهم، قال الله تعالى :(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)، إنها مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص لا فرق بين عرب وعجم، وذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة كل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه، فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق، قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ).


إن هذه الشهور المبنية على أمر محسوس ليست كالشهور الإفرنجية شهوراً وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس، بل هي شهور اصطلاحية مختلفة بعضها يبلغ واحداً وثلاثين يوماً وبعضها لا يبلغ تسعة وعشرين يوماً وبعضها بين ذلك، ولا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول أو محسوس أو ديني، ولهذا طرحت في الآونة الأخيرة طرحت مشروعات لتغير هذه الأشهر على وجه منضبط، لكنها عورضت، من قبل الأحبار والرُّهبان عورضت من قبل العلماء والعُبَّاد من النصارى.


فتأمل أيها المسلم كيف يعارض رجال دين اليهود والنصارى العباد منهم والعلماء في تغير أشهر وهمية مختلفة إلى اصطلاح أضبط؛ لأنهم يعلمون لأنهم أعني الأحبار والرهبان يعلمون ما لذلك من خطر ورجال دين الإسلام ساكتون، بل مُقرُّون لتغير التوقيت بالأشهر الإسلامية، بل الأشهر العالمية التي جعلها الله مواقيت للعباد حيث عدل عنها كثير من المسلمين إلى التوقيت بالشهور الإفرنجية.


وقد سُئِلَ الأمام أحمد -رحمه الله-، فقيل له:
إن للفرس أياماً وشهوراً يسمُّونها بأسماء لا تُعرف، فكره ذلك أشد الكراهة، وروي عن مجاهد أنه كان يكره أن يُقال أذا رماه وإن من دواعي السرور والغبطة أن كانت المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم في هذه المملكة، التي نسأل الله أن يحرسها بدينه، وأن يحرس دينه بها كانت المادة الأولى أن دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله عز وجل، وسُنَّة نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولغتها هي اللغة العربية، أما المادة الثانية، وكانت هي المادة الثانية للعناية بها أن عيد الدولة هما عيد الفطر والأضحى، وتقويمها هو التقويم الهجري، وهذا -ولله الحمد- دليل ظاهر على تمسك هذه الدولة بمادة عزها وكرامتها وهي التمسك بدين الإسلام، وكون النظام مبيناً على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومحو جميع الأعياد الوثنية إلا أن عيد الأضحى وعيد الفطر وهما العيدان الإسلاميان هما عيد الدولة، وكذلك في التقويم تقويمها هو التقويم الهجري، فنسأل الله تعالى أن يزيد ولاتها تمسُّكاً بدين الله، وأن يزيد رعيتها تمسُّكاً بدين الله.


أيها المسلمون:
إننا في هذه الأيام نستقبل عاماً جديداً إسلاميا هجرياً ليس من السُّنَّة أن نُحدث عيداً لدخوله، وليس من السنة أن نُهنئ بعضنا بدخوله، ولكن التهنئة إنما هي أمر عادي وليس أمراً تعبدياً، وليست الغبطة بكثرة السنين كم من إنسان طال عمره، وكثرت سنواته، ولكنه لم يزدد بذلك إلا بُعداً من الله، إن أسوأ الناس، وشر الناس مَنْ طال عُمره وساء عمله ليست الغبطة بكثرة السنين، وإنما الغبطة بما أمضاه العبد من هذه السنين في طاعة الله عز وجل، فكثرة السنين خيرٌ لمَن أمضاه في طاعة ربه، وشرٌ لمَن أمضاه في معصية الله، والتمرُّد على طاعته، إن علينا أيها المسلمون، أن نستقبل أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة الله، ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا، ومراقبة مَنْ ولّانا الله عليه من الأهل من زوجات وأولاد بنين وبنات وأقارب.

 
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بما أنتم به معنيون وعنه يوم القيامة تُسألون: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، قوموا بذلك على الوجه الأتم الأكمل أو على الأقل بالواجب.


وأعلموا أيها المسلمون، أن أعضائكم وأن جُنوبكم ستكون عليكم يوم القيامة بمنزلة الخُصوم يوم يُختم على الأفواه وتكلم الأيدي والأرجل بما كسب الإنسان، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقال عز وجل: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

 
عباد الله:
اتقوا الله عز وجل، وأعلموا أن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة، بل كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد، ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران، ثم لا يفلح ولا ينجح.


فاغتنموا الأوقات عباد الله، بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله، فإن كل عام يمر بكم يقربكم من القبور، فإن كل عام يمر بكم يقربكم من القبور عاماً، ويبعدكم عن القصور عاماً يقربكم من الانفراد بأعمالكم، ويبعدكم من التمتع بأهليكم وأولادكم وأموالكم.

 
عباد الله:
والله ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العزة والكرامة والرفعة إلا مَنْ خضع لرب العالمين، ولا دام الأمن والطمأنينة والرخاء، إلا باتباع منهج المُرسلين ولئن استمرَّت زهرة الدنيا مع المعاصي، والانحراف إن ذلك لاستدراج يعقبه الإهلاك والإتلاف، فاعتصموا بطاعة الله اعتصموا بطاعة الله عن عقوبته، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.


اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد يا منَّان يا بديع السماوات، والأرض يا حيُّ يا قيوم نسألك، اللهم أن تجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وطمأنينة عام علم نافع وعمل صالح، عاماً تُسبغ به علينا النِّعم وتدفع به عنا النِّقم، عاماً ترزقنا فيه شُكر نعمتك وحُسن عبادتك، عاماً تُصلح به ولاة أمُورنا ورعيتنا عاماً تُيسرنا فيه للهُدى، وتُيسر الهُدى لنا، عاماً تجتمع فيه القلوب على طاعتك، عاماً تجتمع فيه قوة الشباب وحكمة الشيوخ، إنك على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين...