خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام
=======================
إن أمره لعجيب..!!

هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الإسلام بقية الأيام..!!

ألا فلنأت على قصته من البداية..

ولكن أية بداية..؟
انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءاً إلا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مبايعاً..

ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ما سبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..

فلنبدأ معه اذن من حيث يحب..
من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقَّت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين..

فانفجرت شوقاً إلى دينه، وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..

لقد خلا يوماً إلى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوم تألقاً وارتفاعاً، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدَّ إليه من الهُدى بسبب..

والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:
"والله لقد استقام المنسم.. وإن الرجل لرسول.. فحتى متى..؟ أذهب والله، فأسلم"..

ولنصغ إليه -رضي الله عنه- وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة إلى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:
".. وددت لو أجد مَنْ أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الإجابة، وخرجنا جميعاً فأدلجنا سحراً.. فلما كنا بالسهل إذا عمرو بن العاص..

فقال:
مرحباً يا قوم..

قلنا:
وبك..

قال:
أين مسيركم؟

فأخبرناه، وأخبرنا أيضاً أنه يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليُسلم..

فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..

فلما اطّلعت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلَّمت عليه بالنبوَّة فردَّ عليَّ السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..

فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير..

وبايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقلت:
استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدٍّ عن سبيل الله..

فقال -صلى الله عليه وسلم-:
إن الاسلام يَجُبُّ ما كان قبله..

قلت:
يا رسول الله على ذلك..

فقال:
اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدٍّ عن سبيلك..

وتقدَّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"..

أرأيتم قوله للرسول -صلى الله عليه وسلم-:
"استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدٍّ عن سبيل الله"..؟

ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي إلى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..

وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها..

أما الآن..
فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرِّ والفرِّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين عالماً جديداً، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..

مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجباً..!!!!

أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة..؟

لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة..

لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام..

تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاءً منقطع النظير..

وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- قادة المعركة الثلاثة حين قال:
"أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً.. ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيداً.. ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً"..

كان لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا بقيّة، ادَّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..

هذه البقيّة هي:
"ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".

فمَنْ كان هذا البطل..؟

لقد كان خالد بن الوليد..

الذي سارع إلى غزوة مؤتة جندياً عادياً تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الجيش: زيد، وجعفر وعبد الله ابن رواحة، والذين اساشهدوا بنفس الترتيب على أرض المعركة الضارية..

وبعد سقوط آخر القواد شهيداً، سارع إلى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عالياً وسط الجيش المسلم حتى لا تبعثر الفوضى صفوفه..

ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجَّه بها مسرعاً الى خالد بن الوليد، قائلاً له:
"خذ اللواء يا أبا سليمان"..

ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوماً فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..

أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها أهل وبها جدير..!!

هنالك قال مجيباً ثابت:
"لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدراً"..

وأجابه ثابت:
"خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته إلا لك".

ثم نادى في المسلمين:
أترضون إمرة خالد..؟

قالوا:
نعم..

واعتلى العبقري جواده..

ودفع الراية بيمينه إلى الأمام كأنما يقرع أبوابا مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاجب سيقطعه البطل وثباً.. في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمراً كان مقدوراً..

ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد..

فضحايا المسلمين كثيرون، وجناحهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..

ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغيّر من المصير شيئاً، فتجعل المغلوب غالباً، والغالب مغلوباً..

وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقرياً لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الإسلام، والخروج ببقيته سالماً.. أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة..

بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..

ولكن، اذا كان صحيحاً أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمَنْ أشجع قلباً من خالد، ومَنْ أروع عبقرية وأنفذ بصيرة منه..؟!

هنالك تقدَّم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسِّم جيشه، والقتال دائر، إلى مجموعات، ثم يكل إلى كل مجموعة بمهامها..

وراح يستعمل فنَّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليماً معافى..

بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال..!!

وفي هذه المعركة أنعم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على خالد بهذا اللقب العظيم..

وتنكث قريش عهدها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..

وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالداً أميراً..

ويدخل خالد مكة، واحداً من قادة الجيش المسلم، والأمَّة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها، قائداً من قوَّاد جيش الوثنية والشرك زمناً طويلاً..

وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..

ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قرباناً خاسراً لأصنام عاجزة كاسدة..

وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..

مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا..

يعودون اليه على صهوات أجسادهم الصاهلة، وتحت رايات الإسلام الخافقة..

وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، إلى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّاً، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد..!!

كيف تمّت المعجزة..؟

أي تفسير لهذا الذي حدث؟

لا شيء إلا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم إلى بعض فرحين قائلين:
(وَعْدَ اللهِ.. لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ)..!!

ويرفع خالد رأسه إلى أعلى.. ويرمق في إجلال وغبطة وحبور رايات الإسلام تملأ الأفق..

فيقول لنفسه:
أجل إنه وعد الله ولا يُخلِفُ اللهُ وعدهُ..!!

ثم يحني رأسه شاكراً نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحداً من الذين يحملون راية الإسلام إلى مكة..

وليس من الذين سيحملهم الفتح على الإسلام..

ويظل خالد إلى جانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته..

وبعد أن يلحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم..

يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة..

إلي أبي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!

وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين إلا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادَّخر خالداً ليوم الفصل، وأن خالداً في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعاً، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..

عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبوبكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم..

ولكنه ازداد تصميماً.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه إلا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..

ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..

لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!

ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..

ثم في قبائل: بني عامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..

ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..

واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين ناراً..

ولكن، كان هناك أبو بكر..!!

عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب.. ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..

ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة.. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..

وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة..

وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام "علي" طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف..

فيقول له:
"الى أين يا خليفة رسول الله..؟

اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:
لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك.."

وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش إلى إحدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..

وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميراً..

ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
"سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: نعم عبد الله.. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله.. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..

ومضى خالد إلى سبيله ينتقل بجيشه من معركة إلى معركة، ومن نصر إلى نصر حتى كانت المعركة الفاصلة..

فهناك باليمامة كان بنوا حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردة قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب..

وكانت بعض القوات المسلمة قد جرَّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالاً..

وجاء أمر الخليفة إلى قائده المظفر أن سِرْ إلى بني حنيفة.. وسار خالد.. ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطراً حقيقياً، وخصماً رهيباً..