الملتــــزم والإرهــــابي
============
في أحد اللقاءات الشبابية، وبينما كان الجميع منشغلين بمتابعة البرنامج المسرحي المُعد خصيصاً للتسلية والتثقيف واللهو البريء، ووسط ضحكات الحضور وتعليقات مُقَدّم الحفل الساخرة، كان هناك اثنان من الشباب، لا يتجاوز عمر الواحد منهما الثلاثين سنة، يتحدثان بصوت خافت، لا يكاد يسمع أحدهما الأخر بسبب الضجيج، فيضطران أحياناً لرفع صوتيهما حتى يكاد يعلو على صوت مُقَدّم الحفلـ ولكن لا أحد يشعر بهما أو يدري عمَّ يتحدثان.

وبعد طول كلام وحديث لا ينتهي قال أحدهما للآخر:
دعنا نُكمل مشاهدة البرنامج الثقافي وبعده نواصل الحديث.

فرد عليه الآخر قائلاً:
لا يا خالد... لا تنجرف وراء هؤلاء المفرّطين الذين لا هَمَّ لهم سوى اللهو واللعب، يضيعون أوقاتهم بما لا ينفعهم، رغم علمهم أنهم محاسبون عن كل لحظة منها.

فرد عليه خالد قائلاً:
وما المشكلة في ذلك يا طارق!.. فالشباب يُروحون عن أنفسهم، ولم يقولوا محظوراً أو يفعلوا مُحرَّماً.

فقال طارق:
كُفَّ عن الدفاع عن هؤلاء العُصَاة، وإلا أصبحت في عِدَادِ الضَّالين الخاسرين، فإن مِتَّ مُتَّ على الفِسْق والمعصية -والعياذ بالله- كأي واحدٍ منهم، وأنت بإذن الله لست كذلك فأنت من الطيبين الأخيار.

فقال خالد:
ما الذي تقوله!... أهؤلاء وفيهم أخي وأخوك ضَالُّون!... فَمَنْ المهتدي إذاً؟!...

فرد طارق وقد ضاق ذرعاً بما يسمع:
لا تُطل الكلام عن هؤلاء العُصَاة الفَسَقَة، ودعنا نتحدث بما هو أهم.

فقال خالد:
وما هو الأهم في نظرك؟

فرد طارق:
ما رأيك بما يجري الآن من تغييرات في بلادنا، وما تقوم به الدولة من أعمال تدَّعي أنها تحسينات وإصلاحات، وهي في حقيقتها إفساد وتغيير عن النَّهج القويم الذي كانت تسلكه هذه البلاد، حتى بدأت أيدي الحاقدين تعبث بها.

فقال خالد متسائلاً:
ولِمَ تُسَمّ الأمور بغير مسمياتها؟ فتقول عن الإصلاح إفساد، وعن التغيير عبث، وجميع الإجراءات والتغييرات التي تحدث يتم إقرارها من قِبَلِ لِجَانٍ وهيئات شرعية مختصة عالمة بشؤون المسلمين وما يصلح لهم ويناسبهم!...

فأنت إن كنت تتكلم باسم الشرع وتستقي مبادئك ورؤيتك منه، فأنا شخصياً لم أرَ شيئاً يتعارض معه، أما إن كانت لديك ميول وأهداف أخرى فهذا شأن آخر.

فقال طارق:
لا تكن ساذجاً يا خالد وتدع تلك الزُّمرة الفاسقة تُمَرّر عليك أهدافها وما تصبوا إليه بتلبيسه حُلَةً شرعيةً تغطي ما وراءه من شُرور.

فسأله خالد:
إن لم تكن مقتنعاً بما يقولون، ولم تقتنع بما أقوله لك، وأنا من أقرب الناس إليك، وأكثرهم فهماً لك، فما الذي تريده بالضبط؟

فأجابه طارق وقد اعتدل في جلسته:
أريد أن نوقف تلك التغييرات بأي وسيلة كانت.

فقال خالد:
وبأي حق توقف تلك التغييرات؟
وما هي الكيفية التي ستتبعها لتصل لما تريد؟
هل ستناقش ولي الأمر فيها؟
وتقول له: لا نريد أن تغيّرُوا أي شيء فنحن نريد أن يبقى كل شيء على ما كان عليه، فالتغيير ابتداع، ومن ثم ضلال عن الطريق القويم، وبعد ذلك غضب وعقوبة.
هل ستقول له ذلك أم إنّ لديك مبرراتك التي ستقنع بها ولي الأمر، وتُثنيه عن اتخاذ قرار التجديد والإصلاح؟
وإن كنت أشك أن لديك حجة مقنعة في ذلك، فكل ما ستقول أن هذا التغيير أمر لا ينبغي لأنه سيقود إلى أمور لا تُحْمَدُ عُقباها، وسوف تقوم بتحميل الأمور والمسائل ما لا تحتمل.

فقال طارق:
اسمع يا خالد نحن نعيش في مجتمع واحد، وهذا البلد ليس ملكاً لأحدٍ بعينه، لذا يجب عليهم أن يسمعوا كلامنا، ويقوموا بتنفيذ ما نطلبه منهم، وإلا سنقوم بإجبارهم على فعل ذلك بطريقتنا الخاصة.

فقال خالد:
وقد بدأ ينفعل وما الذي ستفعله؟!... هاه!... هل ستقوم بالتخريب والتدمير لتصل إلى ما تصبو إليه!... ثم لا تنس أنك تقول إن هذا البلد ليس ملكاً لأحد. فَلِمَ تُهَمِّشْ هذه العبارة حين تريد أن يصدر التغيير منك أنت وتفرض وصايتك على الجميع وكأنه لا يفهم ولا يعلم إلا أنت ومَنْ هم على شاكلتك؟

ثم إن هم قاموا بالتغيير والتجديد فقد فعلوه بوصفهم ولاة أمر ولا يجوز الخروج عليهم، وقاموا بذلك بطريقة سلمية لم تصب أحداً بأذى، وفعلوا ما رأوا أن فيه مصلحة للأمة بعد أن اجتهدوا، فإنْ أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر اجتهادهمـ أمَّا أنت فبصفتك مَنْ يريد تجميد المشاريع التي يُقرُّها ولي أمر المسلمين، وتعمل على إيقافها ولو بالقوة، قل لي بربك مَنْ تظنُّ نفسك؟

علا صوتاهما، وبدأ يلحـظ نقاشهمـا بعض مَنْ هـم بالقرب منهما، ثم ما لبث أن ذهب الجميع تجاه ذلك النقاش الحاد، الذي زادت حدته حين قال طارق:
يا خالد إنّنا يجب أن لا نسكت لهم ولا على تصرفاتهم، لأننا إن تركناهم يفعلون ما يريدون فسنجد مجتمعنا وقد تغيَّر إلى مجتمع لا نقدر على العيش فيه، ولهذا فواجبنا أن نفعل ما بوسعنا لإيقاف مخططاتهم، وصَدِّهم عن المَسَاس ببلادنا وبيعها.

وأنت تعلم أن بإمكاننا زعزعة أمنهم عن طريق القيام ببعض الأعمال الجهادية التي تُؤَلّب الناس عليهم، وتجعلهم ينزعون ثقتهم منهم، ويجبرونهم على اتّباعنا والخضوع لقولنا.

فرد خالد غاضباً:
في البداية لا تنسَ أن تُسَمِّ الأشياء بأسمائها، فلا تقل لِمَا تنوي القيام به من أعمالٍ تخريبيةٍ إرهابية، إنّها أعمال جهادية، فالإسلام والجهاد بَرَاءٌ مِمَّا تقوم به أنت ومَنْ هم على شاكلتك.

ثم تحدَّث عن نفسك ولا تُشركني معك في أعمالك الإجرامية وقل -إن استطعت إلى ذلك سبيلاً- سأفعل وسأقوم ولا تَقُلْ سنفعل وسنقوم، فأنا لست شريكك بل أنا ضدَّك على طول الطريق ما دامت تلك الأفكار المُنحرفة في رأسك.

فقال طارق:
كيف ذلك يا خالد فكلانا يحمل نفس التَّوجه، والفِكر، ومبدؤنا واحد، وواجبنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فرد عليه خالد:
نعم من واجباتنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن بالتي هي أحسن، وبالكلمة الطيبة، والقول الحسن، مع الاستعانة بالصبر، أمَّا أن نقوم بإرهاب الناس وترويعهم ليتبعوا منهجنا، فهذا غير صحيح، ولا أتفق معك فيه.

إضافة إلى أننا مختلفون تماماً فيما يتعلّق بالفِكر، فأنت تحمل فِكراً متطرفاً متشدّداً لا يَمُتُّ للإسلام بصلة، أمَّا أنا فأحمل فِكراً متسامحاً يسمع ويناقش ويحاور ويُـقنع ويقتنع بوجهة النظر المخالفة.

فقال طارق:
ولكن يا خالد المجتمع كله ينظر لنا نظرة واحدة، ومن هذا المنطلق يتوجَّب علينا أن نضع أيدينا معاً ونعمل معاً كي ننتصر على مَنْ عادانا ونقهرهم ونُبيدُهُم.

فقال خالد:
يا طارق شتـان بيني وبينك، وإن اتفقنا بالمظهر الخارجي، ولكن مخابرنا مختلفة تماماً، فأنت تتحدث بلغة القوة والقهر والإبادة، أما أنا فأتحدث بلغة مختلفة تماماً عن لغتك، ومنهجي ومبادئي أستمدُّها قولاً وعملاً من شريعتي السَّمحة التي تحاول أنت وأمثالك تشويهها والإساءة إليها.

فكما أسأتم لكل مسلم في أنحاء المعمورة، وربطتم بأفعالكم بينه وبين الإرهاب، واستغلَّ ذلك أعداء الأمة، وروَّجوا له، وسقوا زرعكم الذي غرستم، حتى بات يراه مَنْ هم في أقاصي المشرق والمغرب.

ها أنتم مرة ثانية تحاولون إيهام مجتمعنا أننا وإيَّاكم في خندق واحد، ولكن في حقيقة الأمر نحن بَرَاءٌ منكم ومن أفعالكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء حتى تعودوا لرشدكم، وتكفُّوا عن الإساءة لنا، وعن وتشويه سمعة الإسلام وأهله أمام العالم.

فقال طارق:
إن موقفي ثابت ولن أحيد عنه، وسوف أبذل كل جهدي في سبيل إجبار الجميع على سماعي واتّباع منهجي، عندها لم يتحمل الجميع ما قاله طارق، وطفح بهم الكيل، وعلموا أن الرجل متشرّبٌ للفِكر المُنحرف، ولن يجعله يتنازل أو يتراجع عنه إلا وقفة حازمة من ولي الأمر، تردُّ إليه صوابه، أو تٌخرجه عن هذا المجتمع قبل تدنيسه ونقل العدوى إليه واحداً تلو الآخر.

وصاح الجميع بصوت واحد:
أخرجوا هذا المُفْسِدَ من مجلسكم!...
لا تدعوا له الفرصة ليستغل مظهره الطيب ليبُثَّ ما به من سُمِ زُعَافٍ، دَعُوهُ يتعرَّى خارج معسكركم، اكشفوا سَوْأتَه، واجعلوا الجميع يراه ويعرفه ويحترس منه وينبذه فلا يخالطه فيستره ولا يتعاطف معه فيشجعه.

إنَّ هذا النوع من البشر لا يلتفت لمبدأ، ولا يردعه دين ولا يزعه سلطان، وإنهم بمظهرهم الخارجي، وتلـبُّسهم ثياب الملتزمين الطيبين أوهموا الناس وجعلوهم يخلطون بين أولئك الأخيار وتلك الحفنة من الأشرار.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى أن ظن بعض الطيبين أن ما يقوم به أولئك المفسدون هو التصرف الصحيح، وهو والواجب عمله؛ لوقف أي فعل لا يتوافق مع آرائهم ومعتقداتهم.

ثم إن فئةً أخرى من الأخيار ظنَّت أن مَنْ يتعرض لأولئك الأشرار ويفضحهم ويبين للناس خطرهم ويحذر منهم إنما يتعرض للملتزمين الطيبين.

وهنا يجب أن يعلم الجميع أن أولئك مختلفون تماماً وإن بدا أن مظهرهم متشابه فباطنهم على النقيض، ففئة مصلحة وأخرى مفسدة، فاحذروا ولا تخلطوا، فإنكم إن خلطتم ولم تفرقوا بين الفئتين تكونوا قدَّمتم خدمة جليلة لتلك الفئة الضَّالة وجعلتم لها ملاذاً وملجئاً تنزوي وتدس رأسها فيه حين تريد الراحة أو استغلال بعض السُّذَج وتسخيرهم لتنفيذ مخططاتهم.

ولكن إن تركناهم يسرحون ويمرحون كما يشاؤون فسوف يكثر أتباعهم، ويختلط علينا الصالح بالطالح، فلا نعود نميّز بين الغَثّ والسَّمين، وستقوى شوكتهم، ويعلو شأنهم، ويعظم نفوذهم، ويعودون يتسلطون علينا، ويفرضون وصايتهم، ويسيّروننا كما يشاؤون ويشتهون، وكل ذلك بسبب تساهلنا وتسامحنا معهم. ونسأل الله -تعالى- أن لا يتم لهم ذلك.