ابني في المركز الصيفي
=============
كنت أهم بالخروج حين سمعت جرس باب منزلي يرن، ذهبت وفتحت الباب، وإذا به أحد الأصدقاء القدماء الذي لم أراه منذ بضعة أشهر.

رحبت به، واستأذنته بضع دقائق؛ كي أوصل ابني إلى المركز الصيفي غير البعيد عن منزلي، ثم أعود إليه؛ لنتناول فنجان من القهوة معاً، واستعادةِ بعض ذكريات الماضي، ومعرفة ما لديه من أخبار، خاصةً وهو يطوف منازل الأصدقاء واحداً تلو الآخر، كالنحلة أحياناً، ينقل الأخبار السّارة، وأحايين كالذباب، يغتاب هذا، ويسبّ ذاك، دون موعدٍ أو تنسيقٍ مسبق، وما قدومه لمنزلي هذه المرة إلا تصديقاً لكلامي عنه.

والحقيقة أنـّي كنت في غاية الشوق لأراه، وسرّني قدومه إليّ كثيراً؛ لأنّي كنت أفكر في الأصدقاء الذين لم أرهم منذ مدة بسبب ارتباطي مع الأبناء أثناء فترة امتحانات آخر السنة الدراسية، ووددت لو أن أحدهم طمأنني عليهم وأسمعني أخبارهم، وما هناك أحدٌ أفضلُ من صاحبي يعتمد عليه في تقديم كل ذلك لي.

إلا أنّه حين سمع مني تلك العبارات المتعلقة بتوصيل ابني إلى المركز الصيفي، تجهّم وجهه، وتغيّر لونه، وتورَّم شِدقاه، وبدا لي أنه يكاد ينفجر من كثرة ما بِفِيهِ من كلامٍ وثرثرةٍ لم يقدر على كبتها أو أخفاء علاماتها.

لم أعرف في البداية سبب كل تلك التغيّرات التي طرأت عليه، وإن كنت ظننتها في البداية تعود لعدم دعوته للدخول إلى منزلي، وتحججي بإيصال ابني، إلا أني قلت في نفسي: لا... فهو متعود على الطرد من الجميع دون اعتذار، وأنا قابلته بكل حفاوةٍ، ورحبت به، واعتذرت منه بطريقة لبقة، فما أظن اعتذاري سبباً فيما طرأ عليه من تغيّر.

وبالطبع، فضوله وحماقته لم يتركا لي المزيد من الوقت لأخمِّـن، أو أفتش عن سببٍ آخر لما أصابه.

حيث بادرني قائلاً:
إلى أين تريد أن تأخذ ابنك؟

قلت:
ما الذي أصابك يا همّام؟ أو فقدت سمعك في الفترة الأخيرة؟ أما سمعتني حين قلت: أريد أن أوصل ابني إلى المركز الصيفي؟!

قال:
لا لم أفقد سمعي، ولكني أتعجب من إنسانٍ متعلمٍ متفتحٍ مثلك، يأخذ ابنه إلى تلك الأماكن المشبوهة!.

قلت:
أي أماكن مشبوهة قصدت يا همّام؟

قال:
المراكز الصيفية.

فقلت له:
أخبرني ماذا تعرف عن تلك المراكز؟

قال:
أعرف عنها الكثير... خاصةً ما تجهله أنت وأمثالك السُذج!

قلت:
همّام... ما الذي جرى لك؟!... أراك فقدت عقلك أيضاً، ويبدو لي أنه لحق ببصيرتك المسلوبة.... ولكن هات ما عندك، وأخبرني بما لديك من معلومات سريّة لا يعلمها الناس السُّذَّجْ مِمَّنْ هم على شاكلتي.

قال بصوتٍ خافت، وقد انتشى بعبارة (معلوماتٍ سرية):
أما تعلم أن تلك المراكز تخرِّج أعداداً هائلة من الإرهابيين كل عام؟!...
أما تدري أنها مفرخة للإرهاب؟!...
وإن أُغلقت سوف يعود الأمن والأمان لبلادنا، ولن يكون هناك إرهابٌ بعد ذلك.

قلت له وبصوتٍ خافتٍ أيضاً مجارياً له في كلامه:
ومن أين لك هذه المعلومات السرية الخطيرة؟

قال:
أين تعيش يا رجل؟!...
أما تعلم بما يدور في هذه البلاد ويحدث؟!...

قلت:
بلى... إنّي أعلم وأتابع جميع ما يحدث.

قال:
إذاً بالتأكيد أنّك سمعت ما يقال عن تلك المراكز الملغومة؟

قلت:
نعم سمعت اثنين أو ثلاثة يتحدثون ويكتبون عن بعض سلبياتها، ورأيتهم قد اجتهدوا -لعله بنيّة صافية، خالية من الشوائب- فعمّموا تلك السلبيات الصادرة من بعض المنتمين إليها على جميع منسوبي تلك المراكز، ومع حماسهم واندفاعهم، طالبوا بإغلاقها، متناسين إيجابياتها الكثيرة التي لا حصر لها، مقابل سلبيةٍ أو سلبيتين سمعوا عنها.

فقال:
أي إيجابياتٍ تتحدث عنها؟
وليس لأولئك القائمين عليها همٌ سِوى توزيع أشرطة الكاسيت ذات المحتويات الفاسدة التي تدعو إلى العنف والتكفير؟

فسألته:
هل سمعت أياً من تلك الأشرطة، وما تحويه؟

فردّ بعصبيةٍ:
أعوذ بالله، فأنا لا يمكن أن أسمع مثل ذلك.

قلت:
وعلى أي أساسٍ بنيت أفكارك، وأطلقت للسانك العنان، وسلطته ليقول ما يشاء، ويحكم كيف يشاء، ويلقي الكلام جزافاً دون حسيبٍ أو رقيب، في أمورٍ وأحداثٍ لم يهن عليك التحقق منها بنفسك، مكتفياً بما يردده الآخرون، مصيّراً نفسك بوقاً بأيديهم، ينفخون فيه ما شاؤوا، متى شاؤوا، دون اعتراضٍ منك.

فقال:
يا أخي أنا أساساً غير مقتنع بما تحويه تلك الأشرطة، وأطالب دائماً بإيقافها، والتصدي لها، ولِمَنْ يقف خلفها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأنا لدي الكثير من تلك الأشرطة التي تتحدث عنها، والتي تهدى إليّ في مناسباتٍ شتـّى، فآخذها مجاملة، ثم أرمي بها، أو أتلفها، أو أحرقها مع أولادي في أقرب فرصة، متى صار عندي متسع من الوقت يكفي لفعل ذلك.

فسألته:
ولمَ لا تتنازل قليلاً، وتسمع ما تحويه، وتسجّـل كل ما لا يتوافق مع مبادئ هذه البلاد الخيّرة، -بلاد الحرمين الشريفين- التي لا يرضى القائمون عليها بأي فعلٍ أو تصرفٍ يخل بأمنها أو معتقدات أهلها؟

قال:
أراك صرت مثلهم، تتهرب من تسمية مملكتنا الحبيبة باسمها الذي عُـرفت به!

قلت:
أليست بلاد الحرمين، ومهبط الوحي، ومنبع الإسلام؟
فهل تنكر ذلك يا همّام؟
أم إنّه لا يروق لك رؤية ماء صافٍ، فلا تهنأ حتى تعكره ثم تصطاد فيه؟!...
ثم إنّ مليكها -حفظه الله- شرّف نفسه بلقبٍ أحبه واعتز كثيراً بحمله، وتميّـز به عن سائر ملوك الأرض قاطبة، وهو (خادم الحرمين الشريفين)، وأسأل الله تعالى أن تكون خدمته تلك في موازين أعماله، وأن يجزل له الأجر والمثوبة.

فردّ عليّ قائلاً:
ولكن ألا تلاحظ أن مرتادي تلك المراكز على هيئة واحدة، وينتمون لحزبٍ واحد؟

قلت:
أظن الحديث معك سيطول، ولكن اركب معي؛ لنوصل الولد إلى المركز كي لا يتأخر، ونكمل حديثنا أثناء ذلك.

ثم استرسلت في كلامي وقلت له:
أخبرني قبل كل شيء عن الأحزاب الجديدة في بلادنا، فأنا لا أعلم أنّ في بلادنا أي أحزابٍ سياسيّة؟

قال ساخراً:
ذلك الحزب الذي يطلقون عليه حزب الصحوة!

فسألت:
وأنت لأي الأحزاب تنتمي؟
هل لحزب الغفوة؟
أم لحزب النوم؟
أم لحزب الشخير؟

فأخذ يضحك مما قلت، ثم قال:
والله لا أقصد إغاظتك، أو التندر عليك، ولكنّي سمعت بعض الناس يقول عن مرتادي تلك المراكز ومستمعي تلك الأشرطة: إنهم ينتمون لحزب الصحوة.

قلت:
آه... عرفت الآن لأي حزبٍ تنتمي يا صاحبي، فأنت تنتمي لحزب الببغاوات، الذين يرددون ما يسمعون دون أن يفكروا، أو يتدبروا، أو يتحققوا مما سمعوا، فيلقون الكلام جزافاً، غير مبالين بردود أفعال الآخرين.

ثم دعني أوضح لك أمراً في غاية الأهمية، ويجدر بك وبمن هم على شاكلتك معرفته، وهو أن الإنسان الفطن اليقظ، خيرٌ من الإنسان الغافل النائم.

فالأول:
قارئ، مطّلعٌ، ملمٌ بما يدور في الساحة من أحداث، مدركُ لما يحاك ضد هذه الأمّة من مؤامراتٍ يُراد منها بث الفرقة والعداء بين شبابها، ومن ذلك، رمي مبادئها وثوابت دينها بالرجعية والتخلف، والقدح في رسولها -صلى الله عليه وسلم- والطعن في ولاتها، واتهام مؤسساتها الدينية والاجتماعية بدعم الإرهاب، والدعوة للعنف.

والثاني:
وهو ذلك الإنسان الغافل، الذي لا يعلم بما يدور في هذا العالم، ولا بما يخططه أعداء الأمة لإضعافها، بل تجده على العكس من ذلك، ما أن يسمع تهمة عامّة تجنـي بها على هذه الأمّة، إلا ويأخذها، ويبدأ يرددها ويفصّلها، فيدّعي تارةً: أن المناهج فاسدة، ويجب تغييرها، ومرةً يقول: إن حلقات تحفيظ القرآن تربّي على العداء، والتشكيك في الآخرين، ثم يعرِّج على الشريط الإسلامي، فيقذفه بأقذع الأوصاف، ويطالب بإغلاق التسجيلات الإسلامية، متهماً إياها بنشر الفكر التكفيري الفاسد، ثم ينقلب حين تأتي الإجازة، ليبدأ التحريض ضد المراكز الصيفية، ويتهمها بأنها معسكرات إرهابية.

والحقيقة أنّي فكـّرت، وتأملت حالة أولئك الغافلين المردِّدين لما يقوله أعداء الإسلام، فوجدتها لا يمكن أن تكون سِوى واحدة من ثلاث حالات:

أولاها:
أنهم يعلمون أشياء لا نعلمها، ولا يعلمها المسؤولون في الجهات المعنية، الذين منحوا القائمين على تلك الأنشطة، من تسجيلات، وحلقات تحفيظ القرآن، ومراكز صيفية، وغيرها، الفسوحات والتراخيص اللازمة، ليفسدوا عقول أبنائنا، ويهدموا مجتمعاتنا، في مختلف المدن والمحافظات، فالواجب عليهم في هذه الحالة تقديم كل ما لديهم لصاحب الصلاحية؛ لإيقاف أولئك عند حدّهم، قبل فوات الأوان.

ثانيتها:
أن يكون مردِّدو تلك العبارات، غير مستندين إلى دليل، بل اجتهدوا من تلقاء أنفسهم، وسمعوا الآخر -أياً كان الآخر وبغض النظر عن مأربه- فردّدوا عباراته، غير مدركين لما تحويه، فهؤلاء يجب أن ننبههم لحقيقة تلك الدعوات الهدّامة، وما يراد من ورائها، ثم نوضّـح لهم حقيقة الأنشطة التي نقوم بها، وندعوهم لزيارتها، والوقوف عليها؛ كي يشاهدوا ويقفوا بأنفسهم على الحقيقة، ومن ثم ينقلون ما شاهدوا، وسمعوا بتجرد ومصداقية، أما محاربتهم، والتهجم عليهم، فغير مجدية، بل ما تزيدهم إلا تعنتاً وانجرافا خلف ما يسمعون، ويسهم عدم احتوائهم في فتح ثغرةٍ ينفذ منها أعداء الإسلام.

ثالثتها:
محاولة بعض الناس الاصطياد في الماء العكر، والإساءة للآخر بالطعن بأنشطته، وكل ما يقوم به، واستغلال أي ظروفٍ تمر بها الأمّة؛ لبث سمومه، والمطالبة بإعاقة المجتمع، والتضييق على أهله، وحرمان شبابه من منافذ طيبةٍ وسُبلٍ خيرة، دون إيجاد بدائل، رغم صلاحية تلك الأنشطة التي يريدون استبدالها، وعدم الحاجة لإيجاد بديلٍ لها، بل كل ما يهمه تعطيل تلك الأنشطة، بقصد الانتصار لنفسه من بعض القائمين عليها، دون تفكيرٍ مسبقٍ بالعواقب المترتبة على حملته تلك، في حال حققت مبتغياتها، وما يمكن أن تجره قرارات المنع والإغلاق التي يطالب بها، من ويلات على هذه الأمة، التي لن يجد شبابها متنفساً، ولا وسيلة لقضاء أوقات فراغهم سِوى الاستراحات وما يحدث في بعضها من منكرات، أو السفر للخارج وما فيه من فتن، ومفاسد، وأمراض، أو التسكع في الشوارع والأسواق، وإيذاء المسلمين بالتفحيط والمعاكسات.

ثم لا تنس المكاسب التي تتحقق لأعداء الأمة، فيما لو حدث إغلاق لتلك الأنشطة لا سمح الله.

فردّ عليّ قائلاً:
يا أخي، كلامك فيه الكثير من الصحة، ولكن ما تجلبه تلك الأنشطة من وجع رأس، وما يمكن أن يقوم به بعض منسوبيها من تصرفات، يجعلني أطالب بمنعها وإغلاقها.

قلت:
كأنك تريد أن تقول ما يردده بعض الناس: الباب اللي يجيك منه ريح، سدّه واستريح؟!...

قاطعني بحماس قائلاً:
بالضبط...وصلت لمربط الفرس.

فسألته:
هل تعتقد أنّ هذا المثل، أو هذا المبدأ صحيح؟

قال:
بالطبع... فهذا عين الصواب.

قلت:
أتدري بمَ يذكرني قولك هذا؟

قال:
بماذا؟... عساه خيرٌ إن شاء الله؟

قلت:
ذكرتني بحادثة دهس راح ضحيتها قريب أحد زملائي، حيث كان قريبه ذو الثلاث سنوات، يلعب خلف سيارة أهله، حين رجع سائقها -ينتمي لإحدى الدول الآسيوية- إلى الخلف ولم يشاهد الطفل فدهسه، أتدري ما هي بعض الحلول التي طرحت من بعض أفراد تلك المجموعة التي كنت أجلس معها حين سماع تلك القصة لمنع تكرار مثل تلك الحادثة؟

قال:
لا... ولكن ما هي تلك الحلول؟

قلت:
طرحت العديد من الحلول، ولكن هناك اقتراحين ما زلت أذكرهما، ولا يمكن أن أنساهما أبداً، فهما يندرجان تحت ذلك المثل الدارج (الباب اللي يجيك منه ريح سُدّه واستريح).

فكان الاقتراح الأول:
يتمثل بمنع استقدام العمالة الأجنبية التي تمتهن قيادة السيارات، منعاً لتكرار مثل تلك الحادثة، وكأن حوادث الدهس المشابهة لن تتكرر في حال عملنا باقتراحه، وأيضاً دون تفكيرٍ بالأضرار الناجمة عن مثل ذلك الاقتراح لو تم تطبيقه.

أمّا الاقتراح الآخر:
فكان طريفاً، وزاده طرافةً الحدة، والصرامة، والجدية الزائدة التي بدت على وجه صاحبه، حين طرح اقتراحه، حيث قال: إنّه من الواجب على هيئة المواصفات والمقاييس السعودية، أن تمنع دخول السيارات التي فيها تغيير حركة السيارة إلى الخلف -منع الريوس- من جميع السيارات، والاكتفاء بتحريك السيارة للأمام؛ تلافياً لتكرار مثل تلك الحادثة.

وما سمعني قلت ذلك، إلا خرّ مغشيّاً عليه من الضحك، وبدأ يتمتم بكلام لم أفهم منه -بسبب ضحكه- سوى تندره وتعجّبه ممّن يفكر بتلك الطريقة.

قلت له:
لا تعجب يا صاحبي من ذلك الشخص، فأنت وأمثالك مِمَّنْ يطالبون بإغلاق تلك المراكز، أو إيقاف فسح الشريط الإسلامي، وغيرها، محل تندرٍ وسخريةٍ أيضاً، ويقولون: إنكم سوف تطالبون بإغلاق المدارس؛ بسبب نشوب بعض الخلافات بين الطلبة، خاصة تلك التي تتطور، فتصبح اعتداءات تسيل بسببها دماء بعض الأطفال الأبرياء، وأنهم سوف يغلقون الأسواق والمحلات التجارية؛ بسبب ما يقوم به بعض المراهقين من معاكسات، وما يبدر منهم من مضايقات للمتسوقات، ومن المحتمل أيضاً أن يمنع استيراد السيارات؛ بسبب استغلالها بعمليات تهريب المخدرات، وإساءة استخدامها من قبل المفحطين.

قال:
لا تبالغ... فالأمور لن تصل لهذا المستوى، ولن يطالب أحدٌ بما ذكرت.

فسألته:
ولماذا تفكر بطريقتك؟، ثم تتندر بمن يفكّر بطريقة لا تروق لك؟، وتُحلل وتُبيح لنفسك تعميم بعض الأخطاء الناجمةِ عن قلةٍ من المنتمين لتلك المناشط الخيرة وتطالب بإغلاقها؟

قال:
إذاً لابد من إيجاد حلولٍ لكل تلك المشكلات.

قلت:
الآن بدأت تفكر بطريقة صحيحة، وأنا أتفق معك على ضرورة إيجاد حلٍ لكل مشكلة، فالمنع ليس حلاً، وترك الحبل على الغارب، وعدم الرقابة، خطأ جسيمٌ يجدر بنا التنبّه إليه.

فيجب أن نعمل وفق استراتيجيةٍ واضحةٍ للجميع، فلا إفراط ولا تفريط، ولا ضرر ولا ضرار، لا أن يأتي إلينا كل مَنْ قرأ أو اطّلع ظاناً نفسه عالماً، ويطالب بالمنع والإغلاق، دون إدراك منه بمصالح المسلمين، ومن غير أن يدرس السلبيات والإيجابيات لما يطالب بإيقافه من أنشطة، بل تراه يطالب بأيسر الحلول، وأقلها تكلفة، وأسهلها منالاً.

وعندما وصلنا إلى بوابة المركز قلت له:
لمَ لا ننزل معاً، ونشاهد المركز، وما فيه من أنشطة، ونتعرف على القائمين عليه، ونرى ما لديهم وما يقومون به؟

قال:
لا بأس....فكرة ليست سيئة.

قلت له على الفور:
الله أكبر يا همّام....أنت الذي تجوب شوارع الرياض روحة وجيئة، تبحث عن مَنْ يؤويك، تقول عن زيارة أحد المراكز الصيفية: فكرة ليست سيئة... ولكن دعنا ندخل، ونقابل الأخوة العاملين فيه، ونتعرف عليهم.

وما أن دخلنا حتى رأينا المكان ممتلئاً بالشباب، وكأنة خلية نحل، بعضهم يلعب كرة القدم، وبعضهم يلعب كرة الطائرة، وآخرون يشتغلون في المسرح، قاسمهم المشترك الظاهر والبادي للعيان الهمّـةِ، والنشاطِ، والنورِ المشعِ من وجوههم، أم باطنهم، فلا أظنه سوى النـية الصّادقة والإخلاص -ولا أزكي على الله أحداً-.

التفت إليَّ صاحبي وقال:
أهذا هو المركز الصيفي؟!...
هل أنت متأكد أنك أدخلتنا أحد المراكز الصيفية؟!
وليس أحد الأندية الرياضية؟!

قلت له:
نعم ما الذي دهاك يا رجل؟
أصبحت تتلفت يمنة ويسرة دون توقفٍ وكأنك مروحة جدارية!

فأجابني قائلاً:
لم يخطر على بالي أن المراكز الصيفية بهذا الشكل، فقد كنت أظنها تجمعات شبابية، لعشرة أو عشرين شاباً، يقرأ أحدهم كتاباً دينياً، ثم يبكون معاً وينصرفون، ولم أكن أتخيل أنّ المراكز تضم هذه الأعداد الهائلة من الشباب، بمختلف الأعمار والهيئات، فما ألاحظه أنّـها ليست لصنفٍ معيّنٍ من الناس، ولا لفئةٍ بعينها كما كنت أسمع وأظن.

وأثناء تجوالنا الذي لم يتجاوز الدقيقتين، قابلنا أحدُ الأشخاص مبتسماً، ورحّب بنا، ثم عرّفنا بنفسه قائلاً إنه نائب المشرف، وأخذنا في جولةٍ سريعةٍ على المركز ومرافقه، وبعد أن انتهت تلك الجولة، قام بإهدائنا بعض الأعمال الفنية، التي عُملت بأيدي شباب المركز، وقدّم لنا معها بعض المطويّات والأشرطة الإسلامية.

فقال صاحبي هامساً في أذني:
آه... من هذه الأشرطة التي لا مفر منها!...

فرغبت هذه المرة أن أسمع من ذلك الشاب ما لديه عن تلك الأشرطة، لعله يزيل ما بقي في ذهن صاحبي من شوائب.

فسألته:
لماذا تحرصون على تقديم تلك الأشرطة، والمطويّات في كل مكان؟ وما هي الفائدة منها؟

فأجابني:
وبكل أريحية، وقد غطت ابتسامةٌ عريضةٌ كامل محياة، وبدا لي أنّ لدية كلاماً مقنعاً أكسبه تلك الثقة الكبيرة التي أظهرتها ابتسامته.

فقال:
كما تعلم يا أخي إنّ هذه الحياة قائمة على الدعوة إلى شيءٍ، أو التحذيرِ منه، بأشكالٍ مختلفة، فمن أشكال الدعوة إلى الشيء، الإعلان عنه، وبيان محاسنه، ومحاولة ترغيب الناس وتحبيبهم فيه، ومن أشكال التنفير منه، والصدّ عنه، التهجّم عليه، وترهيب الناس وتحذيرهم منه.

وجميع الأشرطة الإسلامية المتوافقة مع شريعة هذا الدين، ومبادئ هذا البلد، تدعو إلى عبادة الله، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومحبة دينه، والأخوّة والتسامح بين المسلمين، ومعاملة الآخرين بطريقة طيبة.

وتنهى عن طاعة الشيطان، وتحذّر من أصدقاء السوء، ومن المنكرات، والفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وليس الشريط الإسلامي خطباً ومواعظ فقط، بل هناك تسلية وترفيه، وفرح ومرح، أي مائدة شهية، فيها ما لذ وطاب من الأصناف الطيبة الخفيفة والدسمة.

ولكن لو نظرت إلى الأشرطة الغنائية، لوجدتها تدعو أصحابها ومستمعيها إلى التيه، والضيق، والكلام الفارغ الذي لا فائدة منه، فبعضهم يدعو إلى السهر، رغم معاناته منه، وبعضهم يعاني من الوحدة والفراق، ويتغنّى بهما، وآخرون محرمون من العيشة السوية، ويدعون إلى العلاقات المحرمة، والزنا ويزينونها وغيرها من الأفعال المنكرة.

فلو سألتك أنت، أيها تود لابنك؟...
أن يسمع ما يفيده، وينير طريقه، ويجعل نفسه طيبة مرتاحة في الدنيا والآخرة -بإذن الله-؟
أم مَنْ يدعوه إلى الفسق، والفجور، والضلال، والخسران بتزيين المعاصي، وتسهيل ارتكابها؟

فقال همّام بلا تردد:
بالتأكيد إنّ الواحد منّا يفرح ويسرّ حين يرى ابنه طيباً مستقيماً، يخالط أناساً طيبين، يدلّونه على الخير ويعينونه عليه، ولا يريد أن يرى ابنه في المقاهي أو الاستراحات التي لا يعلم أحدٌ ما بداخلها إلا الله تعالى.

التفت إلى همّام وسألته:
هل تنوي تسجيل ابنك في المركز؟

قال:
بإذن الله، وسوف يكون ذلك بعد قليلٍ -إن شاء الله- وسوف لن أتكاسل عن إحضاره بنفسي، وأظن أنّني حققت مكسبين من هذا القرار:

أولهما:
بأنّي صرت أعرف مكان ابني، وإلى أين يذهب كل يوم.

وثانيهما:
أنّي تيقّنت أن ابني يجالس أناساً صالحين، ويتعلم ويتسلى في الوقت نفسه، فلا يضيع وقته في نوم أو سهر، بل في فائدة ومنفعة.

وأعتقد أن القائمين على شؤون هذه البلاد لا يخفى عليهم أنّ من المصلحة تجمّع الشباب في مكان واحد، فيسهّل ذلك معرفة ما يتعلمونه وما يتلقونه من علوم موثوق بها -بإذن الله- وحماية لهم من مخالطة ذوي الأفكار الفاسدة؛ كي لا يستغلونهم في حشو رؤوسهم بأفكار باطلة، تؤدي إلى ضلال الشاب وانحرافه، فتخسره أسرته ومجتمعه.