الفكر والإرهاب
========
في إحدى الحلقات العلمية التي عقدت لمناقشة الإرهاب وأثره على المجتمعات المدنية، قام أحد المشاركين بعرض أطروحته وكانت تتمحور حول الإرهاب الفكري.

حيث ذكر في معرض حديثه:
أن الفكر في وقتنا الراهن هو رأس المال وهو الأهم، فإن نحن استطعنا حماية فكر المجتمعات البشرية وعقول شبابها وخاصة المراهقين منهم، فقد حمينا أنفسنا من أخطار جسام تحدق بالمجتمع كله.

وأضاف:
ولتعرفوا أهمية الفكر وما يمثله من قوة في شتى المجالات، يكفي أن تعلموا أن واحدة من كبريات الشركات العالمية اليوم، وأغنى شركة حاسوبية في وقتنا الراهن، رأسمالها الذي يفوق مئة مليار دولار، 95% منه فكرة وبرمجيات، أما الخمسة بالمائة الباقية، أو تقل، فهي ممتلكات مادية محسوسة، وهذا دليل كاف على أهمية الفكر، وأنّه المحرك الرئيسي لكل تجمع بشري، فإن صلح نهض المجتمع بأكمله، وإن تفشت فيه الآفات والفتن والقلاقل سقط ذلك المجتمع، واستحالت نهضته، حتى يتم إصلاح فكره.

وبعد أن انتهى ذلك المفكر من إلقاء كلمته، فتح المجال للأسئلة والنقاش.
فقام أحد الحضور وسأل:
هل نحن معنيون بما يحدث من أعمال إرهابية سواء أفراداً في مجتمع أو بلداً يفصله عن البلدان المجاورة حدود، ومسافات شاسعة، ليس من السهولة تجاوزها؟.

فأجابه قائلاً:
بالتأكيد.. نعم، وإنّي آمل من الجميع بذل كل ما يستطيعون لتفهم أبعاد هذه المشكلة، لأنه يا أخي وكما تعلم أن موضوع الإرهاب الفكري لا يقتصر خطره على شخص بعينه أو فئة من الناس فقط، بل يمتد ذلك ليشمل المجتمع كله، وقد يصل ضرره إلى الدول المجاورة أيضا، فوسائل نقله سهلة، وفي متناول الجميع، وأشدّها خطراً الإنترنت، لذا وجب علينا أن نركز كل حواسنا ونبذل قصارى جهودنا في سبيل الحد بل والقضاء على ما يسمى بالإرهاب الفكري، أو العنف، ومن يسانده ويدعمه معنوياً ومادياً، وما عقدت هذه الحلقة العلمية وغيرها من الحلقات والندوات إلا لمناقشة هذا الكابوس الفكري الدخيل، ومحاولة انتشاله قبل استفحاله في عقول الشباب.

ثم سأل أحد الحضور:
عن الكيفية التي يبدأ بها الإرهاب أو المسببات الرئيسة له؟

فأجابه المحاضر بالقول:
إنه من المعلوم أن الإرهاب في الغالب يبدأ باختلاف وجهات النظر في معالجة موضوع معين، ثم يتطور الأمر إلى تطرف فكري -وهي الشرارة الأولى للإرهاب- ثم إلى محاربة الرأي الآخر، ومحاولة إظهار الجهة المخالفة بمظهر الضعيف أمام الآخرين، وعدم القدرة على إدارة وتسيير ما هو مطلوب منها، وكل ما تأمله تلك الفئة التي تعتمد الإرهاب والترويع منهجاً لها هو الحصول على تنازلات من الطرف الآخر، وتعدّ هذه الوسيلة السبيل الوحيد لتحقيق مطالبها بعيداً عن الحوار والمواجهة المباشرة؛ لأنها تعلم علم اليقين أنها لن تحصل على شيء من جراء مثل تلك المواجهات، لسبب وحيد هو أنّ مطالبها دائماً تكون صعبة التحقيق، وغير مقبولة من الطرف الأخر.

فسأل شخص ثالث:
ولكن ما هي المشكلة الحقيقية للتطرف؟

فأجابه المحاضر: 
على الرغم من بشاعة التطرف والإرهاب وما ينتج عنهما من مساوئ، وما يترتب عليهما من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع من جميع النواحي النفسية والفكرية والاقتصادية، إضافة إلى التعقيدات الناتجة عن الإجراءات الاحتياطية التي تتخذها الحكومات، وهي ضرورية جداً لمحاولة القضاء على من يحاولون المساس بأمن الأوطان، وتكون النظرة في مثل هذه الحالات واحدة لجميع أفراد المجتمع البريء والمذنب لأن الاحتياطات لابد أن تطبق على الجميع.

أقول على الرغم من كل ذلك إلا أن هناك ما هو أشد خطراً من الجرم نفسه وما يترتب عليه من مخاطر، ألا وهو أن من يقومون بتنفيذ جرائم الإرهاب خاصة ما كان منها انتحارياً، يؤمنون إيماناً تاماً أنهم على حق، وأن ما يقومون به هو الصحيح، وأنه لا سبيل لمعالجة ما يرونها مشكلات كبيرة إلا بهذه الطريقة؛ لأنهم يكفرون أصحابها ويحكمون عليهم بالموت، وإن أشعرتهم أنهم بقيامهم بهذه العمليات لا يقتلون خصومهم فقط، بل يقتلون أبرياءً وأطفالاً لا ذنب لهم، أجابوا أن هؤلاء كفرة ومن يخالطهم ويتعامل معهم كافر أيضاً.

فسأل أحد الحضور:
ما هو الفرق بين الإرهاب وغيره من الجرائم من الناحية الفكرية والشعور بالذنب، لا من حيث النتائج؟

فأجاب:
في كل مكان وفي أي مجتمع المجرم أو الجاني قبل وأثناء وبعد ارتكابه لجريمته يعلم في قرارة نفسه أنه مذنب، أما الإرهابي فلا... حيث يظن الجميع مذنبين إلا هو.
وجميع الإرهابيين من ذوي الفكر المتطرف يؤمنون إيماناً تاما أنهم على حق، وجميع الحالات والأزمات التي ابتلي بها المسلمون كانت في الغالب ناتجة عن أشخاص تظهر عليهم علامات الصلاح، ولهم توجهات طيبة، ولكنها مغالية ورافضة لأي حلول أو تنازلات، ابتداءً بعبد الرحمن بن ملجم الذي قتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

وأظنكم تدرون مَنْ هو علي وما هي منزلته عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلم أن من ليس لديه دراية بخلفيات مقتله سيقول إن مَنْ قتل عليّاً -رضي الله عنه- من أعداء الإسلام، ولا يمكن أن يكون أحد المنتمين لهذا الدين، لأننا نعلم ما يكنه كل مسلم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من محبة وإجلال، ولكن المفاجأة حين تعلم أن ذلك القاتل رجل مسلم تقي ورع، تعرف ذلك كله بمجرد رؤيتك لوجهه وما يظهر على جبينه من أثر السجود، والمصيبة التي لا يمكن لعقل بشر استيعابها حين تعلم أنه قتل عليّاً -رضي الله عنه-؛ كي يخلص المسلمين من شره، ويتقرب إلى الله في ذلك، أية مصيبة وأي ابتلاء هذا؟!..‍‍‍‍‍‍

أن يقتل علي -رضي الله عنه- تقرباً لله وابتغاء مرضاته، فما بالك حين يقتل ذميون في بلاد الإسلام، جاؤوا لمساعدة المسلمين والوقوف معهم والتعايش معهم، دون أي ذنب اقترفوه إلا لانتمائهم إلى دولة كافرة، يرى أولئك الفئة من المتطرفين تحريم التعامل معهم وتحليل قتلهم، لذا فهم يتفقون مع عبد الرحمن بن ملجم في الغاية من القتل وهي التقرب إلى الله بتخليص المسلمين منهم ومن شرورهم.

ثم سأل أحد المهتمين بالموضوع وقال: 
إذا كان الإرهاب نتاجاً للتطرف الفكري فما هو سبب التطرف؟.

فأجابه:
إن هذا السؤال من أهم الأسئلة التي طُرحت عليّ، والمشكلة أنه نادراً ما نسأل أنفسنا هذا السؤال، لأن الإجابة عنه هي المفتاح الرئيس للقضاء على الإرهاب من جذوره.
حيث تبدأ علامات التطرف الفكري في سن المراهقة عن طريق العناد وعصيان الأوامر التي تصدر من البيت والمدرسة، وذلك بسبب طريقة تعامل الوالدين مع الطفل منذ سنواته الأولى، وسلبه حقه في التفكير واتخاذ بعض القرارات الخاصة، وإملاء الأوامر عليه، وطلب تنفيذها دون أي نقاش، وفي حال وجود احتجاج أو وجهة نظر، فإنّه لا يتم سماعها مطلقاً، بل تقابل بالتوبيخ والتأنيب، وقد يصل الأمر إلى الضرب لمجرد محاولة الطفل إبداء وجهة نظره في أمرٍ يخصه شخصياً.

وهنا تبدأ المشكلة فيتعلم الطفل أن لغة الحوار معدومة، وأن النقاش لا يقابل بالنقاش، وأنه في حال ضعف الحجة فبالإمكان استخدام الطريقة التسلطية لمحاولة فرض الرأي، والحصول على ما تريد، فيكبر وتكبر معه هذه الخصلة، حتى يأتي لمرحلة سنية لا يؤمن فيها بغير القوة كوسيلة مُـثلى للإقناع والتغيير، خاصة وهو يعلم علم اليقين أنها كانت مجدية معه في صغره حين كانت وسيلة الأهل الوحيدة لجعله يرضخ لما يريدون، والأهل هم القدوة، والتعليم في الصغر كالنقش على الحجر.

استأذن أحد الحضور في طرح سؤال حيث قال:
يدَّعي كثير من الناس أن البطالة سبب رئيسي للانحراف الفكري الذي ينتج عنه أعمال إرهابية، فهل تؤيد هذا القول؟.

فأجاب المحاضر:
هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق، وإلا لو كان صحيحاً لرأينا أعمالاً إرهابية في كل بقعة من العالم، فكما تعلم لا يوجد بلد في هذا الكون يخلو من البطالة، ثم إن كان في هذه البلاد بطالة لفئة معينة ولفترة مؤقتة، فهناك مَنْ يكفلهم، ويعيلهم، ويعينهم على مواجهة متطلبات الحياة إلا ما ندر، ولكن هذا التكافل غير موجود في أغلب بلدان العالم، ولا أنسى هنا أن أشير إلى أنّ بعض البلدان تعطي العاطلين عن العمل مرتبات لحين حصولهم على وظائف، إلا أنّ معظمها لا تعطيهم أية مساعدات، ولم يحدث فيها أي أفعال إرهابية، مما يتضح معه أن إرجاع الأعمال الإرهابية إلى البطالة ما هي إلا إشاعة مغرضة يرددها من يقفون خلف تلك الأعمال، ويهدفون من ورائها زعزعة الأمن ونزع ثقة الشعب بولاة أمره، والتستر على أهدافهم ومقاصدهم الحقيقية التي ليس من بينها البطالة.

ثم سأل أحد المشاركين قائلاً:
هل هناك جوانب إيجابية لما يحدث من أعمال تخريبية؟.
أقصد أن العمل التخريبي مرفوض من الجميع ولا يقبله أحد ولكن كيف يمكن أن نخلق جوانب مضيئة من أعمال كهذه؟

فأجابه المفكر:
فهمت ما تقصد، وسؤالك في غاية الأهمية، ويجب أن يفكر الجميع بنفس الطريقة التي تفكر بها، فلابد أن نبقى متفائلين ولا نستكين ونتوقف عن العمل لمجرد حدوث أعمال تخريبية من أعداء الإنسانية، ولأجعل كلامي أكثر وضوحاً دعني أضرب لك مثالاً بما حدث من تفجيرات في مدينة الرياض مؤخراً، حيث لاحظ الجميع بعد التفجيرات التفاف الشعب والحكومة واتفاقهم على محاربة الإرهاب، والوقوف في وجه كل من تسول له نفسه المساس بأمن هذا الوطن، وحقيقة لا أخفي إعجابي هنا بالطريقة التي اتبعها القائمون على أمن هذا البلد في التعامل مع الحدث وطريقة معالجته، والشفافية الواضحة، وإطلاع الجميع على كل ما يدور، دون أي تحفظات، وفي هذا منع لمن يستغلون مثل هذه الأحداث لإثارة البلبلة وترويج الإشاعات ومحاولة الاصطياد في الماء العكر، كما أن هناك جانباً إيجابياً في غاية الأهمية ويجدر بنا أن لا نغفل عنه، ويتعلق بالتجاوب والتفاعل اللافت للنظر، من قبل أفراد المجتمع منذ اللحظة الأولى لوقوع التفجيرات، بدءاً برفض ما حدث وتجريم الفعل، والوقوف إلى جانب ولي الأمر في محاربة الإرهاب والتصدي له، وهناك إيجابيات أخرى كثيرة يصعب حصرها، ومن أهمها التجاوب مع جميع الإجراءات الاحتياطية التي تم اتخاذها بعد تلك الأحداث وقبولها بصدرٍ رحب، بل وتشجيع ومؤازرة رجال الأمن أثناء قيامهم بأعمالهم، ليقين كل فرد من هذا المجتمع أن جميع تلك الإجراءات إنما وضعت ليتم التضييق على المشبوهين ومحاصرتهم ومن ثم القضاء عليهم بإذن الله، وأن هذه الإجراءات وإن استمرت لبعض الوقت، فإن نتائجها سوف تكون إيجابية ومثمرة لهذا الوطن ومواطنيه.

فسأل أحد الأشخاص:
ما هي الطريقة المثلى لمكافحة الانحراف الفكري؟.

فأجاب:
كما أسلفنا أن الانحراف الفكري ليس وليد يوم وليلة، بل ناتج عن ترسب عدة أمور، منها ما هو تكفيري يعود لفساد عقدي، ومنها ما هو منحرف ناتج عن مذهب هدام باطل، وإصلاح ذلك لا يتم بين عشية وضحاها، وحيث أدرك أعداء الأمة ما للفكر من أهمية بالغة، خاصة في المجتمعات الإسلامية، لذا قاموا بتوجيه سهامهم إليه على مدى قرن من الزمن وعقدت العديد من المؤتمرات التي تبحث بخاصة في كيفية إفساد معتقدات المسلمين وإدخال الشكوك والشبه فيها، فينتج عن ذلك فرقة وتناحر يستغلها أعداء الأمة ليسيطروا من خلالها على المجتمعات الإسلامية ويستولوا على خيراتها، بعد أن عجزوا عن ذلك بواسطة السلاح.

ومن خلال معرفة ذلك وجب علينا أن نقف صفاً واحداً أمام أولئك المغرضين، وأن لا نلتفت إلى ما يحاولون بثه من شبه في مسائل أقل من أن توصف بالفروع من هذا الدين العظيم؛ لأن الأركان والواجبات واضحة، ولم ولن يستطيعوا تغييرها، فالجميع متمسك بها، كما أن كل فرد من أفراد المجتمع مسؤول عن تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة لدى من يراهم من أفراد عائلته أو أقاربه أو أصدقائه، ومحاولة إرشادهم إلى الطريق المستقيم، وبالإمكان الاستعانة بمن هو أقدر منه على التوجيه والإرشاد في حال عدم قدرته عليه، ولا ننس أنّ تربية النشء على الحوار هي الوسيلة الأهم لخلق مجتمع متفاهم متجانس قادر على التعايش مع بعضه دون أية مشكلات.