حـــــوار مــــع إرهـــــابي
==============
التقيت به بعد فراق دام عدة سنوات، فعرفني ولم أعرفه، كان وجهه شاحباً وجسمه ناحلاً، وعيناه زائغتين كأنهما تريان الموت قريباً منهما، يداه ترتجفان، ورجلاه تحملانه بكل كلفة ومشقة.

أقبل علي ببطء وتثاقل، وكان يتلفت يمنة ويسرة، مشتت الذهن، وفي خاطره من الأفكار والهواجس ما تنوء بحمله رؤوس عصبة من الرجال ذوي حلم وسعة بال.

بادرته بالسلام والسؤال عن الحال.

ردّ علي:
بإجابات مقتضبة وسريعة، كان يريد الخلاص مني بأقصى سرعة ممكنة، ولكن كان هناك شيء يمنعه من ذلك -ويبدو أنه نفس الشيء الذي دعاه للتعرف علي والحديث معي- فكلّـما همّ بالانصراف تراجع عنه وعاد يسأل ويكرر نفس أسئلته وعباراته السابقة، كان يريد أن يقول شيئاً، وفهمت من حاله أن ذلك الشيء خاص جداً، ولم يجد إنساناً يبوح له به، ويخلصه من بعض الحمل الذي في رأسه، حاولت أن أظهر له أني ذلك الشخص، أريته مني ما يبعث الطمأنينة في نفسه، ويدخل الراحة إلى جوفه، ويزيل علامات التوتر البادية على وجهه، ويخفف التشنج المسيطر على أطرافه.

عندما رأى مني التفاعل والتجاوب والإصغاء بدت علامات الراحة والرضا ترتسم على محياه، ومع أنها كانت ما تزال ممزوجة بالكثير من القلق والتوتر إلا أني بادرته بالسؤال محاولاً القضاء علي ما تبقى من قلقٍ وتوترٍ في داخله وتخليصه منهما قبل أن يقضيا عليه.

فسألته:
عن مجموعة من الأصدقاء وزملاء الدراسة، وهل ما يزال يتواصل معهم، حاولت تذكيره بتلك الأيام، وببعض المواقف الطريفة التي كانت تحدث في تلك الفترة، وببعض التعليقات الساخرة منه، حيث كان ماهراً في إلقاء النكات والمزاح مع الجميع، وإطلاق الألقاب الساخرة عليهم، دون أن ينزعجوا منه، بل كانوا يتقبلون ذلك بصدور رحبة ويبادلونه الألقاب والتعليقات.

بالطبع قصدت من ذلك إخراجه مما هو فيه من حياة بائسة محبطة إلى حياة ملؤها الفرح والسرور كان يعيشها إلى وقت قريب، حتى إنّه وعندما كنت أذكره بذلك كان كمن يتذوق طعم تلك اللحظات بلسانه، ويستنشق عبيرها بأنفه، وهذه الطريقة مهمة في التعامل مع تلك الفئة من الناس التي تعيش الإحباط والملل ويبدو عليها القلق، فتظن أنها خلقت له، حيث يجب على من يتعامل معهم أن يذكرهم بلحظاتهم السعيدة، وذكرياتهم الجميلة؛ ليشعرهم أنهم ليسوا مخلوقين للهم والغم فقط، بل إن للفرح والسرور نصيبهما في حياتهم أيضاً،  وأنهما يشغلان الجانب الأكبر من حياتهم، ولكن الواحد منّا لا يشعر بذلك لأن أوقات الفرح تمر بسرعة فيظنها قصيرة، وأوقات الحزن تمر بطيئة فيظنها طويلة.

عندما رأيت أن مزاجه تغير تماماً، وبوادر القلق زالت من وجهه، وعلامات الرضا بدت على محياه، وأحسست أني تمكنت منه وسيطرت على نفسيته، ألقيت عليه السؤال المهم الذي أجلته طويلاً، وكنت أرغب في مبادرته به، ولكني كنت أعلم علم اليقين أنه سوف لن يجيبني عنه، بل سوف ينفر مني وينصرف ويتركني، فأكون بذلك كمن صب الزيت على النار.

فقلت مبتسماً ومتصنعاً الدهشة:
ما الذي غير حالك؟!..
وقد كنت بشوشاً مرتاح البال، والضحكة لا تفارق محياك، والآن أنتزع البسمة منك بالقوة.

قال:
أبداً لا شيء.
وحاول التهرب من سؤالي.

فقلت له:
نحن أصدقاء وإن ابتعدنا عن بعضنا فترة من الزمن، فيجب أن نبقي على صداقتنا التي بُـنيت على أسسٍ من البراءة والصدق والمحبة والمودة، ويجدر بنا أن نتعاون ونتكاتف لحل كل مشكلة تواجه أياً منا، فإذا لم أبث شكواي إليك، وتبث شكواك إلي، فلمن نبثها إذاً!..

أردت أن المِّح إلى حاله ولو من بعيد، لعلي استفز مشاعره فيخبرني بما يجول في خاطره بنفسه، فأكون عوناً له، لا أن أصارحه بما أسمع عنه من بعض الأصدقاء فينفر مني وينزع الثقة التي منحني.

فاسترسلت قائلاً:
إن كل إنسان لديه مشكلاته وأسراره الخاصة التي لا يريد أن يبوح بها لأحد، ولكن هناك نوعية من المشكلات لا يمكن للإنسان أن يحلها وحده، خاصة تلك التي تجول في خاطره، وتتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، فبعض الأشخاص يحاول تعديل كل شيء يراه بيده، سواء كان بمقدوره ذلك أم لا، وينتقد من يعارضه ويجهّل من يخالفه، بل قد يصل به الأمر إلى تكفير من لا يقول بقوله، لا تعجبوا من تعمقي السريع في الخوض معه في هذا الأمر حيث شجّعتني بوادر الإصغاء والاهتمام التي كانت بادية على وجهه، حين ذكرت له مشكلات المجتمع ومسألة تغييره.

فبادرني بحماس قائلاً:
إنّ تغيير المنكر واجب على كل مسلم لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رأى منكم مُنكراً فليُغيره)... ثم سكت...

فقلت له:
ولِمَا لا تكمل الحديث؟!..

فقال:
أنا يهمني الأمر بإزالة المنكر، أما الكيفية فنحن من يحددها، ولا تنس أن الله -تعالى- يقول: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران: 110).

قلت له:
قبل أن نذهب عن هذه الآية الكريمة، هل تأملتها وفهمتها كما يجب؟

قال:
بالتأكيد.

فقلت:
وماذا فهمت منها؟

قال:
فهمت أنه يتوجب على كل مسلم ينتسب لهذه الأمة أن يغير كل ما يراه من منكرات.

فسألته:
وهل الأمر هنا يقتضي التغيير في كل الأحوال؟

قال:
بالطبع لا.

قلت:
وكيف نعرف متى نكتفي بالتغيير بالقلب أو باللسان فقط ومتى يجب علينا أن نغيّر بالبيد؟.

قال:
لا أدري بالضبط، ولكني حسبما فهمته وعرفته من بعض الأصدقاء أنه يجب علينا إزالة المنكر.

قلت:
ومَن هُم أولئك الأصدقاء الذين تتحدث عنهم؟!..
أقصد ما هي مؤهلاتهم الدينية؟.

فقال:
حقيقة لا يحملون أي مؤهلات دينية، ولكنهم درسوا على بعض المشايخ لفترات متقطعة من الزمن.

فقلت:
وهل يليق بنا نحن المسلمين الذين شرفنا الله بالأفضلية على سائر الأمم أن نأخذ ديننا عن أشخاص ليس لديهم من أمور الدين إلا القشور؟!..

ولا يتعاملون إلا بكلمات تتعلق بالتكفير، والخروج على ولي الأمر، والقتل والتخريب والتدمير.

ثم والله لو سألت أحدهم عن مسألة تتعلق بأحكام المسح على الخفين، لما وجدت لديه إجابة شافية.

ثم عدت به إلى أمر النهي عن المنكر وكيفيته وأنه بإمكاننا القطع في زمننا هذا على أنه لا يحق لأي واحد منا تغيير المنكر إلا في حدود حددها ولي الأمر، وألزم كل واحد منا بها، ويجب علينا السمع لها والطاعة، وهي داخلة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رأى منكم منكراً فليُغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).

فكل مَنْ رأى منكراً وجب عليه النَّهي عنه، فإن لم يُـنته عنه فعليه الذهاب وإبلاغ الجهات المختصة لإزالته، ويكون قد أدّى ما هو مطلوب منه، إن كان يبحث عمّـا يرضي الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

أما إن كان يبحث عن خلاف ذلك فهذا أمرٌ آخر.

أكملت كلامي محاولاً شحذ همته وإشعاره بفداحة الخطأ الذي يقع فيه.

فقلت له:
هل تحب دينك وترغب في نشره والدعوة إليه؟.

قال:
بالتأكيد نعم.

فقلت:
وهل ترضى أنْ يقوم أحد الأشخاص بسب دينك أمام مجموعة من الناس حتى لو كانت صغيرة ؟!..

قال:
بالتأكيد لا.

قلت:
إذاً ما رأيك حين يقوم شخصٌ فيقتل شخصاً أخر بدون أي ذنب أقترفه سوى أنّه كان في ذلك المكان مصادفةً، ويقول إنّي أقتله من أجل الإسلام هل تؤيده؟

قال:
بالتأكيد لا.

قلت:
إذاً ما تقول في مَنْ يُفجر المباني ويهدم المنازل فتنهار على أهلها، فتقتل الطفل والمرآة والشيخ الكبير، المخطئ والمصيب، المذنب وغير المذنب، ثم يعلن أمام العالم أجمع أنه فعل ذلك من أجل الإسلام، فهل تؤيده؟

قال:
هاه هاه... بالتأكيد لا...

قلت:
يجب إذاً أن نتفق أنا وأنت قبل كل شيء، ثم نعلن ذلك لكل صديق أو رفيق، قريب أو بعيد، أنّ مَنْ يقتل باسم الإسلام، دون وجه حق، فهو ليس من الإسلام في شيء، وأنّه أبعد ما يكون عن الإسلام، بل على العكس تماماً فهو بفعله هذا يعطي صورة غير حقيقية عن ديننا الحنيف، ويصرف الجميع عن رؤية الوجه الحقيقي للإسلام، ويعين أعداء الإسلام على النيل منه، ويدعمهم في سعيهم الحثيث لإطفاء نوره، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

وتعلم أن الله -تعالى- يقول: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (الصف: 8)، وأظنك تحفظ هذه الآية عن ظهر قلب؟!..

وما أن سمعني أقول ذلك حتى خارت قواه، وبدأ يلهج بالذكر والاستغفار ثم عانقني.

وقال:
أحمد الله الذي سيَّرك في طريقي، فقد كنت قادماً مع مجموعة من الأخوة -بل اسميهم المفسدين الآن- لتفجير أحد المجمعات السكنية القريبة من هنا، والتي يقطنها أعدادٌ من رعايا الدول الغربية.

وكنت أنا أحد المنفذين ممن غـُسلت أدمغتهم من قِبَلِ بعض المدبرين والمستنفعين من تلك العمليات.

ثم بادر بسؤالي على الفور:
ولكن ما العمل الآن وكيف نمنع هذه الجريمة؟

قلت:
أذهب إليهم وحاول تأخيرهم وتعطيلهم عن تنفيذ عملهم التخريبي، بينما أقوم أنا بإبلاغ الجهات المختصة لتقوم بمنعهم من القيام بجريمتهم.

وما أن ذهب مسرعاً باتجاههم وذهبت بالاتجاه المعاكس له، حتى سمعت ذلك الدّوي الهائل والدخان يتصاعد من أحد المجمعات السكنية القريبة، فعرفت أنهم قد نفذوا مخططهم قبل أن يصل إليهم.

فعاد إليّ مسرعاً باكياً لم أفهم ما كان يقوله سِوى أنّ فيهم أعز صديق له وبعد أنْ هدأ.

قال:
يا ليتني قابلتك قبل ذلك وتداركنا الأمر قبل حدوثه.

فقلت:
إنا لله وإنا إليه راجعون...

ثم همست في أذنه معزياً ومذكراً في نفس الوقت:
أنّ هناك العديد من أصدقائنا وأحبائنا ما زالوا تحت وطأة تلك الفئة الضالة، وأنّ من واجبنا تداركهم قبل فوات الأوان.

وقبل أن نفترق تعاهدنا على أن نعمل معاً على إنقاذ كل شخص ينزلق في مثل تلك المستنقعات، ويروج لأفكار أشخاصٍ يبحثون عن مصالح شخصية، ومكاسب ذاتية، لا يردعهم دينٌ ولا مبدأ، همهم الأوحد تحقيق مبتغاهم، بغض النظر عن أي شيء آخر.

كذلك أنت أخي الحبيب يجدر بك أن تضع يدك بأيدينا، فنكون يداً واحدة، ننافح عن ديننا ونذود عن حياضه، ونحمي وطننا من كل الأخطار المحدقة به، ونقف معاً في وجه كل من تسول له نفسه المساس بأمننا، أو الإضرار بمجتمعنا، أو الإساءة لديننا.

وليرى العالم أجمع أننا قومٌ محترفون في تحويل المحن إلى منح، وقلب الأحزان إلى أفراح، وتطويع الأوقات العصيبة، ولحظات الأزمات، لتصبح عصور نماءٍ ورخاءٍ وازدهار، والخروج من كل معركةٍ بقلوبٍ أقوى وبأسٍ أشد.