كيف نتقي الإرهاب؟
===========
في صلاة العشاء وبينما كنا في التشهد الأخير، والإمام يهمُّ بالتَّسليم معلناً لعموم المصلين انتهاء لحظات كنا منقطعين فيها عن الدنيا مقبلين على الآخرة، كُلٌ يناجي ربه ويسأله حاجته، إذا بصوت موسيقى صاخبة ظننتها في البداية منبعثةً من إحدى السيارات المارة بجوار المسجد، مع أن هذه العادة الشائنة اندثرت ولله الحمد فلم تعد تزعجنا.

إلا أن ظني لم يكن في محله، واستمر ذلك الصوت النشاز بضع ثوان أظنها أطول من الصلاة بأكملها لما سببته من إزعاج وانتشال المُصلّي عُنْوَةً من دار إلى دار، فمن خشوع ووقوف بين يدي الرحمن إلى عالم صاخب مزعج دون مقدمات أو تمهيد، وحيث ثبت علمياً أن إنهاء الصلاة بالسلام عن طريق الالتفات يميناً وشمالاً أفضل طريقة لإخراج دماغ الإنسان وأحاسيسه من حال إلى حال -لا أود الإسهاب في هذا الموضوع- ولكني رغبت أن أبين للقارئ الكريم أهمية السلام في الصلاة ومقدار الإزعاج الذي يحدثه أي مُنَغّصٍ أثناءها.

وبعد أن سلّم الإمام والموسيقى ما زالت تعزف لأن المصلّي -كما يبدو لي- كان ينتظر مكالمة هامة بالنسبة له فلم يشأ أن يغلق الجوال ولم يتبق من الصلاة إلا لحظات قليلة جداً، لذا فقد فضَّل أن يترك الموسيقى ترن على أن يخسر المكالمة.

وبعد أن سلّم الإمام قام بسرعة ولم يرد على الاتصال فهو خشي أن يزعج المصلين في حال قيامه بالرد على المتصل، متناسياً الإزعاج الذي يحدثه جواله لهم.

وقبل أن يخرج من المسجد لحقه أحد الأخوة المصلين وبصوت عالٍ أفزعنا وأنسانا صوت الموسيقى.

قال لصاحب الجوال:
قف مكانك وسلم الجوال في الحال -كما يحدث في الأفلام الشُّرطية- وأخذ الجوال منه ورماه بقوة شديدة جداً فاصطدم بجدار المسجد الخلفي وتكسَّر عدة قطع سقطت بعضها على المصلّين في الصفوف الخلفية... ثم تركه وانصرف.

فقال أحد المصلين وبصوت منفعل جداً:
إنه ليس من حقك التصرف بهذه الطريقة.

فرد عليه وهو يهم بالخروج من المسجد:
إنه أزعجنا في صلاتنا وأفسد علينا خشوعنا.

فرد عليه ذلك المصلي بالقول:
إن النهي عن المنكر بهذا الأسلوب وعن طريق التعدي على ممتلكات الآخرين ليس من الدين في شي.

فرد عليه بكلمة أظنها أسوأ ما في الحدث حين قال:
إيه... ليبقى دينكم لكم.

ولسان حاله يقول:
وأنا أعالج الموضوع بطريقتي الخاصة.

حيث لم يعجبه رفض المصلين لما قام به لكونه مخالفاً لتعاليم الإسلام، فرد بتلك العبارات التي تنم على عدم قبوله فكرة أن فعله مخالف للدين.

والحقيقة أنّ لي وقفة عند هذه المقولة بالذات، وهي أن الغيرة على الدين قادته إلى ردة فعل أشد وأقسى من الفعل نفسه، وإن كان للفعل سلبية واحدة وهي إزعاج المصلين بالمعازف المُحرَّمة، فإن ردة الفعل لها عدة سلبيات أذكر منها:
إتلاف مال الآخرين.
والمشاحنة والمجادلة مع أحد المصلين في المسجد وبعد الصلاة مباشرة.
وأيضاً إفزاع المصلين ومضايقتهم بردة الفعل العنيفة.
وأخيراً وليس آخراً التلفظ بكلمات وإن كانت غير مقصودة إلا أنه يخشى على صاحبها من عواقبها حين يقول: دينكم لكم، وأقلها عدم الالتزام بتعاليم الدين حين توجيه النصيحة.

وإن كنت على الرغم من كلامي هذا لست ضد ذلك الشخص، بل أنا معه وأؤيده تماماً في الجانب المتعلق بغيرته وحميّـته ورفضه مثل تلك النغمات الصادرة من جوال ذلك المصلي أثناء الصلاة.

ولكني على الجانب الآخر أخالفه تماماً في ردة فعله وأسلوبه في معالجة الموقف، وكان من الأجدى لو استخدم أسلوب سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- في كثير من المواقف المشابهة ومنها طريقة معالجته للموقف حين بال الأعرابي في المسجد. ولنقارن بينها وبين ردة فعل بعض الصحابة -رضي الله عنهم- مِمَّنْ شهدوا الحدث.

كما أنه يتوجب علينا وعند معالجة أي موضوع كهذا أن نراعي عدة أمور مهمة ونتأكد من تحققها وتوافرها في نفس الوقت لا توافر بعضها فقط وهي:
أولاً: فعل ما ينبغي.
ثانيا: كما ينبغي.
ثالثاً: في الوقت الذي ينبغي.

كما أن هناك قاعدة شرعية تقول:
إن الضَّرر الأصغر لا يدفع بضرر أكبر منه.
فإن ترتب على إزالة منكر حدوث منكر أعظم منه وجب عدم إزالة ذلك المنكر.

أعود لحادثة المسجد التي لم تنتهِ داخله فقط بل امتدت لنقاشات ساخنة بين بعض المؤيدين والمعارضين.

حيث قال أحد المؤيدين:
إن تصرف ذلك الأخ الفاضل هو التصرف الأمثل الرادع لكل من تسول له نفسه المساس بحرمة بيوت الله وسوف يترتب عليه إقفال جميع مرتادي المسجد لجوالاتهم أثناء الصلاة أو تغيير نغماتها، وإني لأتمنى أن تكون ردود الأفعال بنفس القوة دائماً وأبداً وفي جميع المواقف، لأن ذلك سوف يعيد لديننا هيبته وكرامته.

فرد عليه أحد الأشخاص المعارضين لتصرف ذلك الأخ بالقول: إنه كان من الأجدى عدم التصرف بتلك الطريقة، لأنها تنم على جهل بمقاصد الكتاب والسنة وطريقتهما في إنكار المنكر، كما أن ذلك الشخص جاهل بوقائع الأمور وملابساتها؛ لأنّي أعرف صاحب الجوال وأعلم أنه مختل عقلياً فلو تثبَّت صاحبنا لما قام بذلك التصرف.

ثم إن ردة فعله تلك تنم على إتّباع هوى ورأي شخصي غير مدعم بنصوص شرعية، ثم أتبع تصرفه باستعلائه واحتقاره للآخرين حين رفض نصحهم له، أي أنه أجبر غيره على إتّباع نصحه وإرشاده، بينما رفض مناصحة الآخرين حين أتت في غير ما يهوى. كما أن الدين يرفض الأعمال المتطرفة وذاك العمل أحدها، وهو نواة لما هو أكبر إن لم يتم تثقيف المجتمع وتوعيته بما يصح وما لا يصح.

فرد عليه أحد المؤيدين قائلاً:
إن تلك الأعمال -وأقصد ترك الجوال بموسيقاه الصاخبة- تسيء لديننا الحنيف، ويجب علينا التعامل معها بحزم، لا بتودد وخنوع، وإظهارنا وديننا بموقف الضعيف الذي لا يستطيع دفع الضرر عن نفسه، وهذا بالضبط ما يريده أعداء هذا الدين.

فقال أحد المعارضين:
إن أعداء الدين كما تفضلت يريدون الضعف والهوان والإساءة لهذا الدين بشتّى الوسائل والسُّبُل، ولكن ليس بالمهادنة وضبط النفس، بل هم يريدون أن يكون المسلمون متطرفين متشددين في معالجة قضاياهم.

بل ويتبنون أعمالاً تهدف إلى نشر الفرقة والتناحر بين أبناء المسلمين، لا يريدونهم أن يكونوا كما قال الله تعالى: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً" (الفتح: 29).

فأعداء المسلمين لا يريدونهم كذلك بل يريدون أن يجعلوهم متناحرين ضعفاء أذلة أمام أعدائهم، ولا يتحقق ذلك إلا بفرقتهم وتناحرهم، لذا فهم يسعون جاهدين لإشغالهم بالمسائل الجزئية وتشتيت أفكارهم عن الأهداف والمقاصد الرئيسة كنشر الدين، والقضاء على البدع والخرافات، والاهتمام بالجوانب التنموية والاقتصادية والصناعية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير.

فقال أحد الأشخاص:
وقد رغب أن يكون الحديث أكثر فاعلية وشمولية بدلاً من التقوقع على تلك الحادثة وتحميلها ما لا تحتمل: ولكن كيف يمكن لنا أن نحمي أنفسنا وديننا من كل ما يمكن أن يسيء له، وأن نوقف مخططات الأعداء الهادفة إلى الإساءة إلى هذا الدين، وتشويه سمعته وتنفير الناس منه؟.

فرد عليه أحدهم قائلاً:
يجب أن تعلم أولاً أننا لو تكاتفنا وأخلصنا في عملنا وأدى كل منا ما هو مطلوب منه فلن تستطيع أي قوة في هذه الدنيا التغلب علينا؛ لأنه ما شادّ أحدٌ هذا الدين إلا غلبه، وهذه مقولة مَنْ لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-.

أما كيف يتحقق ذلك فبكل بساطة أقول:
إن ذلك يَكْمُنْ بالأخذ بالوسطية:
فلا إفراط ولا تفريط، لا غلو وتطرف ولا انحلال وتفسخ، بل الوسطية كما أرادها لنا ربنا عز وجل، وأثنى علينا بسببها حيث يقول تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..." إلى آخر الآية (البقرة: 143).

ثم التيسير على الناس وترغيبهم في الدين لا التشديد عليهم وتنفيرهم منه، كما يأمر بذلك -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: (يسّروا ولا تُعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا)، ثم لا ننسَ أمراً في غاية الأهمية وهو الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر.

ولا يقتصر ذلك على الأمر بالصلاة والزكاة والصوم والنهي عن شرب الخمر والربا والكذب فقط، بل يجب أن يتعداه إلى ما لا يقل عنه أهمية وهو أمر الناس وخاصة المغالين والمتطرفين أو المنحلين بوجوب لزوم جماعة المسلمين والأخذ بالوسطية في جميع أمورهم وردهم عن تطرفهم بالتي هي أحسن وعدم تركهم ومجاملتهم أو الخوف منهم.

وأخيراً لا ننسَ أن أهم تلك العناصر السالفة الذكر رابعها وهو: الالتفاف حول إمام المسلمين، وطاعته والدعاء له ومناصحته، وعدم الخروج عليه مهما بدر منه، كما يقول محمد -صلى الله عليه وسلم-: حتى لو ضرب ظهوركم بالسّياط إلا أن يبدر منه كُفْرٌ بَوَاحٌ. والحمد لله أننا لم نر هذا ولن نراه بإذن الله في إمامنا، بل على العكس تماماً فما نراه هو الدعوة إلى التمسك بالدين، ودعم الأعمال الخيرية وتشجيعها، وهذا بحد ذاته كافٍ.

أما الانسياق خلف أصحاب المصالح الخاصَّة فلا أراه إلا سبباً رئيسياً لفُرقة المسلمين وهوانهم، وإن كان مَنْ ينادون بالإصلاح ينشدونه فعلاً، فأقول لهم: إن الإصلاح لا يأتي عن طريق الفُرقة والتَّناحر، والخُروج على ولي الأمر، بل بمؤازرته ومناصحته والوقوف معه.

واللهَ أسأل أن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين لما يحبه ويرضاه وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تدلّهم على الحق وتُعينُهُم عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه.