ونذكر هذه الأمثلة للتدليل على هذه الحقيقة:
-1 حرم القرآن الزواج من الأخوات في الرضاعة:
قال تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ (23)" سورة النساء: 23.

وها هو الدكتور إبراهيم الراوي يشرح لنا سر هذا التحريم فيقول:
إن الطب الحديث اليوم ممكن من أن يكشف النقاب عن أسرار تحريم الزواج في الإسلام بين الإخوة في الرضاعة، لقد أثبتت الدراسة الطبية الحديثة أن الطفل الذي يتغذى على ثدي امرأة ما، تنتقل إليه عوامل وراثية مكتسبة إضافة إلى الأحاسيس العاطفية والتفاعلات النفسية التي يتأثر بها عند عملية الرضاعة من ثدي المرأة، وضمه إلى صدرها، كما أن الأنسجة والخلايا الجديدة التي تتكون في جسم الطفل وأعضائه، تنمو كجزء منتقل إليه من جسم المرأة المرضع، حيث تنتقل إليه في خلاياها، وأنسجتها عن طريق تراكيب الحليب المعدة لبناء جسم جديد وتكوين أنسجة وخلايا حية مستحدثة وبهذا تكون العوامل الوراثية للأخوين في الرضاعة موحدة مما يحدث ضعفاً في النسل.

2 – أعمدة الجذب التي لا ترى:
وكشف التقدم العلمي أن لكل كوكب نجم في السماء مركز ثقل في داخله غالباً ما يكون قريباً من وسط جوفه، وبالرغم من أن هذه الكواكب والنجوم في حركة مستمرة إلا أن المسافة بين مراكز الثقل بين هذه الكواكب والنجوم ثابتة لا تزيد ولا تنقص، مما يشير إلى أن هناك عموداً للجذب لا يرى يحفظ مراكز الثقل في أجرام السماء على مسافات ثابتة من بعضها، بالرغم من الحركة التي تشمل كل هذه الأجرام.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأعمدة التي لا ترى في قوله تعالى:
"اللُّه الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُم َّاسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجِلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)" سورة الرعد: 2.

3 – النار السوداء:
قبل ثلاث سنوات أي في عام 1973م اكتشف الباحثون أن في السماء نجوماً سوداء وأنها أشد حرارة من النجوم المشتعلة بلون أبيض، وأن النجوم البيضاء أشد حرارة من النجوم الحمراء التي تشتعل بلون أحمر.

وهكذا عرف الباحثون أن النار السوداء هي أشد أنواع الحرارة التي عرفت حتى اليوم.

ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بحديث يحمل هذه الحقيقة في وقت ما كان يتصور فيه أحد من البشر أن هناك ناراً سوداء على الإطلاق.

قال عليه الصلاة والسلام: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة). أخرجه الترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم.

وصدق الله القائل عن رسوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)" سورة النجم: 3، 4.

4 – الحاجز بين البحرين:
وقد اكتشف الباحثون أن مياه البحار والأنهار لا تمتزج مع بعضها البعض، بل لقد وجدوا أن مياه البحر الأبيض المتوسط لا تمتزج بمياه المحيط الأطلنطي عند جبل طارق فتغطس مياه البحر الأبيض المتوسط تحت مياه المحيط لأن البحر الأبيض أكثر ملوحة من المحيط، ولم يعرف محمد صلى الله عليه وسلم البحر ولم يشاهد ملتقى البحار والأنهار وما كان يملك من أدوات البحث والتحليل ما يفهم به ما تقرره هذه الآية:

"مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20)" سورة الرحمن: 19، 20.

فهناك التقاء ولكن هناك حاجز وسبحان القائل:
"أَمَّنْ جَعَلَ الأرضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءِلَهٌ مَعَ اللِّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)" سورة النمل: 61.

إن العلامات الإلهية في كتاب الله كثيرة، ذكرنا طرفاً منها آنفاً وقد جعلها الله في صلب الرسالة ذاتها، في كتاب الله الذي بين الحلال والحرام وفيه البيان لكل ما يحتاج إليه الإنسان من هدى على هذه الأرض، وهذه العلامات يجدها كل من تدبر في كتاب الله.

"أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)" سورة محمد: 24.

إن الله قد حفظ هذا الكتاب، وحفظ ما فيه من بينات مصدقة لرسوله صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الحجة على الناس، فكانت هذه العلامات الإلهية شهادة من الله بأن (محمداً رسول الله).

"لَكِنْ اللُّه يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائَكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللِّه شَهِيدًا (166)" سورة النساء: 166.

وكانت هذه العلامات الإلهية في القرآن شاهدة منه وله بأنه كتاب من عند الله.

قال تعالى: "أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأحزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِن َّأَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)" سورة هود: 17.

موقف العرب من القرآن وتحديه:
عندما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في قومه، وأمره بتبليغ الرسالة فكذبه قومه، وطالبه العقلاء ببينة رسالته، وبرهان نبوته، فأخبرهم: أن بينة رسالته هو هذا القرآن، الذي نزل بعلم الله، والذي يحمل دليل صدقه فيه، ففيه من العلامات الإلهية ما يكفي للمتدبر، والذي يعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله، أو مثل عشر سور منه، أو مثل سورة واحدة.

قال تعالى: "وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللِّه إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)" سورة البقرة: 23 ، 24.

فنظر المنصفون إلى كلام الله، وشهدوا أن هذا الكلام قول الله، وأن أي أحد من البشر لا يقدر عليه، وأن محمداً الأمي الذي عاش بينهم أربعين عاماً لم يسمعوا منه بيتاً من الشعر، أو قولاً بليغاً، لهو أكثر عجزاً من غيره من الشعراء والفصحاء على الإتيان بسورة من مثله.

وتأمل المستكبرون في كلام الله فوجدوه قد غلب برهانه على قلوبهم، فمنعوا أنفسهم وأتباعهم من مجرد الاستماع، وسجل القرآن موقفهم في حينه مبكتاً لهم.

قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)" سورة فصلت: 26.

وكانوا يقطعون من عرف عنه تساهلاً في الاستماع إلى كتاب الله الذي أعجزهم بفصاحته وبهرهم ببلاغته، وهم أهل الفصاحة وأرباب البلاغة.

وجاء موسم مجيء القبائل وقريش مختلفة على نفسها، ليس لهم قول موحد حول محمد صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة، والد خالد -سيف الله المسلول- فقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأياً، لا يكذب بعضكم بعضاً.
فقالوا: نقول كاهن.

فقال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته [29] ولا سجعه [30].
قالوا: مجنون.

قال: ما هو بمجنون، ولا بحنقة [31] ولا وسوسته [32].
قالوا: فنقول شاعر.

قال: ما هو بشاعر، قد عرفت الشعر كله، رجزه [33] وهزجه [34] وقريضه [35] ومبسوطه [36] ومقبوضه [37].
قالو: فنقول ساحر.

قالوا: ما هو بساحر، ولا نفثه [38] ولا عقده [39].
قالوا: فما نقول؟

قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وأنا أعرف أنه باطل، وأن أقرب القول أنه ساحر فإنه [40] سحر يفرق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته.

فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس من أن يستمعوا لمحمد صلى الله عليه وسلم فيسحرهم بكلامه ويستدلون بحالهم في قريش على ما يفترون، فأنزل الله قرآناً سجل هذه الحادثة ويهدد صاحب التدبير هذا.

قال تعالى: "ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَا ًالمَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُم َّيَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُم َّنَظَرَ (21) ثُم َّعَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُم َّأَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)" سورة المدثر: 11 - 24.

ومرت ثلاث وعشرون سنة، والقرآن يتحدى المكذبين، أن يأتوا بمثل سورة منه، وأن يعقدوا ندوة كتلك الندوات التي كانوا يعقدونها ليتبارى فيهم الخطباء والشعراء، أيهم أحسن قولاً.

فعجزوا عن ذلك وكابر بعضهم قائلاً: (لو شئنا لقلنا مثل هذا..) ولكنه لم يجرؤ على أن يتقدم بشيء من ذلك، فلجأوا إلى القتال وبذل الأموال، وكان يكفيهم أن يأتوا بسورة من مثله، بدلاً عن المعارك، وما تجلبه عليهم من خسائر في الأموال والأنفس، خاصة والفرصة متسعة، والوقت طويل، لكنهم اعترفوا بعجزهم وقالوا: هذا كلام سحري، من سمعه سحر قلبه.

ولكن عنادهم كان إلى حد معلوم، فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ورايات الإسلام ترفرف على أرجاء الجزيرة العربية، شاهدة لمحمد صلى الله عليه وسلم شهادة صدق بالنبوة.

وقد يعجب الإنسان من تأثير القرآن على العرب هذا التأثير القوي!! ويرجع السبب في ذلك إلى أن القرآن نزل بلغتهم، فما كان شيء من ألفاظه مجهولاً عليهم، ثم هم أهل الفصاحة والبلاغة، فلا شك أنهم أكثر الناس تقديراً ومعرفة ببلاغة القرآن وفصاحته المعجزة.. ولا يزال هذا التأثير في القرآن مدركاً اليوم، للناس على قدر فهمهم للغة العرب وأساليبها البلاغية.

بينات أخرى

خوارق العادات:

أجرى الله الكون على سنن معلومة، وقوانين محددة، وهذه السنن والقوانين هي ما عودنا الله أن يسير ما في الكون طبقاً لها، ولا يستطيع تغييرها إلا الله فإذا أحدث تغيير لهذه السنن على يد رسول، كان ذلك التغيير بمثابة قول الله: صدق عبدي.

تسمى هذه الأحداث: خوارق العادات.
وقد أجرى الله على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خوارق متعددة، شاهدها الجيل الذي عاصر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتمتاز على خوارق العادات الأخرى التي أيد بها الرسل السابقين، في أنها سجلت في كتاب الله الذي لم يتبدل منه حرف، والذي سمعه المسلم والكافر فما كذب به أحد، وفي الحديث الشريف الذي بذل المسلمون الجهود الجبارة التي لم يعرف لها مثيل في التاريخ: لحفظه وضبطه وتحقيقه، وفي السيرة النبوية التي استقصت تفاصيل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبحت سيرته عليه الصلاة والسلام أوضح من سيرة حياة أشهر زعيم على وجه الأرض اليوم كما امتازت هذه المصادر العلمية الإسلامية، بأنها كانت شغل المسلمين الشاغل فأقاموا لها المدارس، وأوقفوا لها الأوقاف الواسعة، وكرموا كل من اتسع علمه في هذه الميادين، فكان القرآن والحديث والسيرة سجلات تاريخية لا يوجد لها نظير في التاريخ.

وفي هذه السجلات التاريخية نجد:
1 – في القرآن :
أيد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإنزال النعاس أمنة على جنوده، في غزوة بدر، وأنزل عليهم المطر لتطهيرهم وتثبيت أقدامهم، حتى لا تغوص في الأرض، وقلل عدد الكافرين في أعينهم وكثرهم في أعين الكافرين عند اشتداد المعركة، وأنزل الله جنوداً من الملائكة للقتال في صف المؤمنين، كما أنزل جنوداً لحمايته أثناء هجرته من مكة إلى المدينة، كما غشاهم النعاس في غزوة أحد، كما سخر له الرياح في قتاله ضد الأحزاب، وأسرى الله برسوله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، وكذبه قومه وقدم لهم أدلة صدقه فألزمهم الحجة.

قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (1)" سورة الإسراء: 1.

وطلب منه كفار قريش أن يصف لهم المسجد الأقصى، فوصفه لهم وصفاً دقيقاً فقالوا: أما هذا فقد صدق فيه، وطلب منه آخرون أن يخبرهم عن قافلتهم فأعطاهم خبرها وأوصافها وميعاد وصولها ووصلت في الوقت الذي حدد، وكانت كما وصف، وفلق له القمر نصفين، فقال أكثر الكفار: سحرنا محمد، وقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فقالوا ذلك.

وسجل الله هذا الحادث في كتابه فقال سبحانه: "اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَق َّالْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)" سورة القمر: 1- 3.

وسمع الكفار هذه الآيات فما قالوا: إن هذا القرآن كذب [41] وكان يكفيهم أي خطأ في القرآن، حتى يثبتوا أنهم على حق في تكذيبهم، ولكنهم قد أخرستهم الحقائق الساطعة.

وأنزل جنوداً لقتال الكفار في حنين عندما فر أكثر المسلمين أمام ضربات هوازن وثقيف وغيرها من الخوارق والتي نجدها مفصلة في كتاب الله.

2 – في الحديث والسيرة:
كل الخوارق السابقة [42] التي سجلها القرآن قد جاءت مفصلة في كتب الحديث والسيرة، وجاء في كتب الحديث والسيرة من خوارق العادات هذه الكثير، التي كانت تقع في محافل المسلمين، وفي اجتماعاتهم، ورواها بعضهم في وقته وأقرها الباقي بسكوتهم لأنهم يعرفون أنها الحق، ولو عرفوا باطلاً ما سكتوا عليه، وهم الذين لا يخافون في الله لومة لائم.

ومن هذه الخوارق:
تكلم الشجر، والحجر، والحصى، والشهادة له بالنبوة، وتسبيح الطعام، ونطق الحيوان، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى ما يحتاج المسلمون إلى الماء في أسفارهم أو حربهم وتكثير الطعام القليل الذي لا يكفي إلا فرداً أو فردين حتى يكفي العشرات والمئات من المسلمين، وإبراء ذوي العاهات، وظهور الآثار العجيبة فيما لمسه صلى الله عليه وسلم، هذا وغيره كان يحدث تثبيتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتدعيماً له، وشهادة للناس بصدق نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الاعتماد على هذه الخوارق في الإقرار بالنبوة، وإنما كانت هذه الخوارق مساندة للبينات والآيات التي كان الوحي ينزل بها، وتدل بنفسها على أنها من عند الله، وكانت هذه الخوارق تنفع بعض الناس في التعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة له بالرسالة.

شاهد الحال:
إن بينات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، وإن أحواله عليه الصلاة والسلام التي هي أوضح من حياة أي زعيم على وجه الأرض لهي شاهد وبينة شاهد يشهد: بأن من كانت هذه أحواله فلا يكون إلا نبياً مرسلاً.

ذلك لأن حقيقة الإنسان لا بد أن تظهر من مراقبة أحواله، وإن اختفت بعض الوقت، فلا بد أن تظهر، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت سيرته ظاهرة، وزاد في ظهورها تتبع المؤمنين للاقتداء، ومراقبة الكافرين الأقوياء للنقد والتجريح.

فكيف كانت أحواله صلى الله عليه وسلم؟

1 – ليس زعيماً سياسياً:

الزعيم السياسي هو الذي يتملق مشاعر القوم وخاصة عقائدهم، أو هو الذي إذا عادى طائفة من الناس حرص أن يجامل الطوائف الأخرى الأقوياء لتكون عوناً له على الباقي، وهو الذي يحرص كل الحرص على إرضاء الناس، أو التوفيق بين المنازعات المختلفة بين أتباعه، وكان محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره يجد مجالاً خصباً في دعوته لمحاربة الدخيل المتحكم بالعرب من فرس وروم، حتى ينتظم العرب أو أهل الحمية إلى صفة، أو كان بإمكانه أن يثيرها طبقية فيجد الأغلبية المستقلة، أو الكثير منها إلى صفه، أو يعلنها حرباً خلقية ليكسب إلى صفة ذوي الأخلاق الرفيعة، ولكنه صلى الله عليه وسلم خرج يدعو الناس جميعاً إلى دعوة جعلت العرب جميعاً كبيرهم وصغيرهم وفقيرهم وغنيهم جميعاً ضده، وأخذ يهاجمهم في أعز ما يحرصون عليه في دينهم وتجارتهم، إذ أن تهديم الأصنام كان يعني ترك العرب لزيارة مكة، وحرمان أهلها من منافع اقتصادية كبيرة، وإذا به يحارب هو وأتباعه صلى الله عليه وسلم، ويطردون من مكة.

ويفرون بدينهم بعيداً عن المال والولد.

فهل هذا هو سلوك سياسي؟! لا يدعو الناس إلا إلى عبادة الله وحده، ولا يمني أتباعه إلا برضا ربهم عنهم يوم القيامة!!

ثم ها هي ذي قريش تعرض عليه صلى الله عليه وسلم الرئاسة، والمال والجاه، على أن يترك دعوته فلا تجد منه قريش إلا صداً شديداً وعزماً على المضي في دعوته وقت لا يزال أصحابه تحت العذاب، أو غرباء في الأرض، وبعد أن تحقق له النصر، لم يفترش الحرير، ولم يلبس الديباج، ولم يتزين بالذهب، كان بيته صلى الله عليه وسلم كأبسط بيوت الناس، وكان يمر عليه الشهران ولا توقد في بيته نار.

قال عروة -وهو يسمع خالته عائشة تتحدث بهذا إليه-: يا خالتي ما كان يعيشكم؟ قالت: إنما هما الأسودان التمر والماء.

وذات مرة رأى عمر بن الخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم على حصير بالية، وقد أثر في جسمه صلى الله عليه وسلم فبكى، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: ما بال كسرى وقيصر ينامان على الديباج والحرير، وأنت رسول الله يؤثر في جبنك؟ فقال: صلى الله عليه وسلم: (يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟).

ولقد جاءت غنائم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتصار المسلمين فرأت نساؤه أن يستفدن بشيء من هذه الغنائم، وطلبن منه أن يكون لهن نصيب منها، فإذا بالآية الكريمة تنزل بالجواب على سؤالهن: "يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّه وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِن َّاللَّه أَعَد َّلِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُن َّأَجْرًا عَظِيمًا (29)" سورة الأحزاب: 28 - 29.

هل هذه سيرة زعيم سياسي؟!
إن الشعوب في ذلك الزمان كانت ترى أن من حق قادتها وزعمائها أن يتمتعوا بخيرات الأرض، وبقدر ما يكون بذخ القادة واستعلاؤهم بقدر ما يكون شرف الشعوب وقوتها، حسب مفهوم ذلك الزمان، غير أن الرسول وحده عليه الصلاة والسلام هو الزعيم الوحيد على وجه الأرض آنذاك الذي عكس القاعدة السابقة فما مصلحته في الحياة الخشنة ولِمَ يزهد عنها؟ وهو بعد نصره قادر عليها، ولن يجد من أحد اعتراضاً؟ وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يتميز على أصحابه، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويكره أن يقوم الناس له، ولقد أراد بعض الصحابة أن يمتدحوا ويثنوا عليه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم) وتترك سيرته أثرها على خلفائه الراشدين وأصحابه.

وها هو إذ يقرأ على الناس قرآناً فيه تقريع شديد له من ربه لبعض مواقف وقفها، والسياسي يخشى كل نقيصة من نقائصه، وكل زلة من زلاته بأي ثمن وبأي طريقة، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فما عليه إلا البلاغ ولو كان في ذلك تقريع له، وهذه بعض الآيات التي جاءت بالتقريع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاها على الناس كما بلغه ربه: "عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)" عبس: 10-1.

"اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللُّه لَهُمْ" التوبة: 80.

"مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللُّه يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللُّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللِّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" الأنفال: 67 - 68.

"وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللُّه مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللُّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (37)" الأحزاب: 37