من بَيِّنَات ومعجزات مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم:
النبي الأمي:
لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولقد كانت أمية الرسول صلى الله عليه وسلم بينة على أنه ما تلقى العلوم التي حيرت العلماء إلا من الله العليم الحكيم، ولقد واجه القرآن المشركين بهذه الحقيقة في حينها، وسجله الله لنا في كتابه الذي حفظه من كل تحريف، لنوقن كما أيقن الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا تفاصيل أحواله.

قال تعالى: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)" سورة العنكبوت: 48.

أي إنك يا محمد: ما قرأت ولا كتبت كتاباً قط، وقومك الذين عشت بينهم يعرفون هذا، ولو أنك قرأت أو كتبت لتشكك المبطلون بأن ما جئتهم به من هدى وعلم ونور إنما هو ثمرة علم اطلعت عليه وحدك، وغاب عن غيرك، وسمع الكفار هذه الآية فما قال أحد منهم: لقد كذب القرآن -أستغفر الله- إنه يقول: إن محمداً لم يقرأ ولم يكتب، ألم يقرأ في ذلك اليوم كتاب كذا ألم يكتب في يوم كذا؟

وكان مثل هذا القول كفيلاً بتكذيب القرآن وتفريق المسلمين من حول محمد صلى الله عليه وسلم، ونصر أعدائه عليه، ولكن سلطان الحقيقة الساطعة كان أقوى من كل معاند أو مكابر فلم يقل الكفار إن محمداً كان متعلماً، بل قالوا: إن القرآن قد كتب له وإنه يملي عليه بكرة وأصيلاً.

وسجل القرآن الكريم قول الكافرين في القرآن المحفوظ، قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَلِين اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّر َّفِي السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)" سورة الفرقان: 4 - 6.

وقال تعالى لنبيه: قُلْ لَوْ شَاءَ اللُّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُون (16)" سورة يونس: 16.

أي يا أيها الناس تعلمون جهلي بما جاء في هذا الوحي من علوم، وتعلمون أني بقيت فيكم أربعين عاماً ما سمعتم أني أهتم بشيء من هذا، أو أقول شيئاً مما تسمعون أو حتى أفكر فيه فكيف جاءني كل هذا فجأة؟ إنه الوحي من الله أفلا تعقلون؟

المعجزة والبينة القرآنية

القرآن يتحدى:

فطر العرب على حب البلاغة، والأدب والشعر والخطابة، فحسبك أنهم كانوا يقيمون في كل سنة موسماً يتبارى فيه الشعراء ويتنافس الخطباء، وكان يحكم هذه المباراة شعراء فحول، فمن فازت قصيدته ذاع صيته، وحسن ذكره، وعلت كلمته، وكتبت قصيدته بماء الذهب وعلقت على الكعبة.

وما السبع المعلقات وسوق عكاظ إلا دليلان ظاهران في تاريخ العرب على مكانة الفصاحة والبلاغة بين قوم سمعوا لغتهم الفصحى وسموا الأمم الأخرى عجماً، فكانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم من جهته أقوى ما يشتهر به قومه ويفتخرون ليظهر جلياً أمام عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن أن مراده أنه ليس من قول البشر، ولما كان من عادة العرب أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة بالكلام والتحدي بالقصيد والخطب ويعقدون لذلك الندوات ويدعون له الحكام جعل الله بينة محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الكبرى قرآناً يتلى يتكون من نفس الأحرف والكلمات التي يتكون منها كلام العرب.

لكن الإنسان والجان يعجزون عن الإتيان بمثله أو بعضه أو سورة منه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ومن المعلوم لدى العارفين أن الفصاحة والبلاغة وإن كان أساسهما استعداد صاحبهما الفطري إلا أنه لا بد لمن أراد الإجابة فيهما أن يتعلم فنونهما، وأن يهتم بمراجعة الخطب ومحاورة الفصحاء ومغالبة البلغاء لكن محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا القرآن ما قرأ ولا كتب ولا عرف عنه قول مأثور طوال أربعين عاماً.

ومع ذلك فهو يتحدى الإنسان والجان أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعضه أو سورة منه، لأنه يعلم أنه ليس في مقدور المخلوق أن يأتي بمثل كلام الخالق سبحانه.

قال تعالى: "قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)" سورة الإسراء: 88.

"أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)" سورة الطور: 33 - 34.

"أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللِّه إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللِّه وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)" سورة هود: 13 - 14.

"أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَن اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللِّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)" سورة يونس: 38.

"وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللِّه إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)" سورة البقرة: 23 - 24.

علامات إلهية في القرآن:
لقد جعل الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزته كتاباً أرسله معه، وأودع فيه من العلامات التي لا تكون إلا لكلام الله، حتى إذا رآها الناس ووقفوا عليها قامت حجة ربهم، وظهر صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن هذه العلامات:

1 – الجدة الدائمة:

إن كل كلام بشري يبلى إذا كرر، بقدر ترديده بقدر ما يخلق، وتسقط مكانته، ويختلف القرآن عن كلام البشر بجدته الدائمة التي لا يؤثر فيها ترديد أو تكرار، فكم كرر المسلمون ويكررون سورة الفاتحة وقصار السور كل يوم وكم أعادوا وكرروا تلاوة القرآن وكلهم يجمعون على أن القرآن لا يزال جديداً على ألسنتهم، وهذه علامة تخضع للتجربة من كل إنسان يعرف لغة العرب في أي زمان أو مكان، وهذه علامة إلهية في كل سورة من كتاب الله.

ولقد نطق أحد كبار المستشرقين بهذه الحقيقة هو المستشرق (ليون) فقال:
(حسب القرآن جلالة ومجداً أن الأربعة عشر قرناً التي مرت عليه لم تستطع أن تخفف ولو بعض الشيء من أسلوبه الذي لا يزال غضاً كأن عهده بالوجود أمس).

2 – الروح الإلهية:
إن أي كلام من كلام البشر، إنما يكون انعكاساً لشخصية قائله، وعلمه ومزاجه ونفسيته، وكل كلام يحمل روح قائله لأنه أثر من آثاره.

وقارئ القرآن المتدبر لابد أن يقع في نفسه شعور بأن هذا القرآن كلام الله وأنه
مطبوع بروح الخالق سبحانه القائل: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيماَنُ (52)" سورة الشورى: 52.

إن في هذا القرآن سراً خاصاً يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداءً قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها، إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن يشعر أن هناك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هنالك عنصراً ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن يدركه بعض الناس غامضاً ولكنه على كل حال موجود.

وإنه الإحساس بأن مصدر هذا القرآن هو الله سبحانه.

فهذه الروح الإلهية تطالعنا من بين كلمات هذا التنزيل.

3 – الكلام الفريد:
إن أي كلام على وجه الأرض يمكن إدماجه بغيره فلا يستطيع أحد أن يميز ذلك الكلام الذي أدمج بغيره، لأنه بالإمكان أن يقلد الناس كلام أي أديب أو شاعر.

غير أنا إذا أخذنا سورة من كتاب الله أو عشر آيات وحاولنا إدماجها في أي كلام لا بد أن تتميز وحدها.

إن هذا القرآن كلام فريد وحده في هذا الوجود قال الدكتور طه حسين في كتابه (مرآة الإسلام): إن القرآن ليس نثراً كما أنه ليس بشعر إنما هو قرآن ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم، ليس شعراً وهذا واضح فهو لم يقيد بقيود الشعر، وليس نثراً لأنه مقيد بقيود خاصة به لا توجد في غيره وهي هذه القيود التي يتصل بعضها بأواخر الآيات وبعضها بتلك النغمة الموسيقية الخاصة.

ولقد أدرك هذا أيضاً المستشرق الفرنسي الدكتور موريس فقال:
إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الأزلية لبني البشر، وإنه كان لا ريب فيه.

وكان مما قال المستشرق (جيمس متشنر) في مقاله:
لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم، وهو بكل تأكيد أيسرها حفظاً، وأشهدها أثراً في الحياة اليومية لمن يؤمن به فليس طويلاً كالعهد القديم، وهو مكتوب بأسلوب رفيع أقرب إلى الشعر منه إلى النثر.

ومن مزاياه أن القلوب تخشع عند سماع وتزداد إيماناً وسمواً.

4 – قوة تأثيره:
جرب بنفسك واقرأ ما شئت من كلام البشر في موضوع من موضوعات الحياة، ثم اقرأ ما تيسر من كلام ربك في نفس الموضوع عندئذ تشعر أن لهذا القرآن تأثيراً لا يشبه غيره من كلام البشر، أو استمع لوعظ واعظ واستمع إلى حديث وترقب أثر ما يتلو من القرآن على نفسك وأثر ما تسمعه من كلامه، بل جرب أن تعظ الناس بكلامك وجرب أن تعظهم بكلام الله، وستحس الفرق في وجوه المستمعين وفي نفسك بشرط أن تكون قد شرحت بعض ألفاظ القرآن المجهولة المعنى لدى العامة في هذا الزمان.

ولقد أدرك هذه العلامة الإلهية المستشرق (س. ل) كما أدركها غيره فقال: (إن أسلوب القرآن جميل وفياض، ومن العجب أنه يأسر بأسلوبه أذهان المسيحيين، يجذبهم إلى تلاوته سواء من ذلك الذين آمنوا أم لم يؤمنوا به وعارضوه).

ويكفي المتأمل ما أحدثه من تأثير هائل في حياة العرب الجاهليين حتى جعل منهم خير أمة أخرجت للناس .

5 – علومه:
أ) لقد احتوى القرآن على تفصيل تاريخ الأنبياء والمرسلين السابقين، وهو التاريخ الذي لم يكن يعرف أشتاتاً منه إلا الأحبار والرهبان وكانوا على خلاف فيما بينهم، أما أمة العرب فلم تكن تعرف عن تفاصيل ذلك التاريخ شيئاً.

فجاء النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من بين قومه الجاهلين جاء بتاريخ الرسل مفصلاً واضحاً جلياً، اعترف به الكثير من الأحبار والرهبان، وصدقوه فيما روى عن ربه وخرجوا من دين كانوا علماءه وتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: "تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ ولا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِن َّالْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)" سورة هود: 49.

ب) كما كان القرآن ينزل كاشفاً لما يدور في صدور الناس وخاصة المنافقين فيواجههم القرآن بحقيقة ما أخفوا في صدورهم، ولقد جرب كثير من الأعراب صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بإخفاء أشياء كان الوحي ينزل فيكشفها فيعترفون ويتوبون، وكان القرآن كثيراً ما يذكرهم بهذا.

قال تعالى في شأن بعض المنافقين: "يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللُّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللُّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُم َّتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94)" سورة التوبة: 94.

ومن أمثلة ذلك:
1 – إن بني حارث، وبني سلمة هموا فيما بينهم أن ينسحبوا من غزوة أحد بعد أن انسحب المنافقون ولكنهم ثبتوا في المعركة وكتموا ذلك في أنفسهم، فأنزل الله وحياً كشف لهم ما دار في نفوسهم ووضح لهم ما أخفوه فاعترفوا، وقالوا: وما نحب أنها لم تنزل لأن الله أعلن لهم أنه وليهم جزاء ثباتهم وعدم انهزامهم.

قال تعالى: "إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللُّه وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللِّه فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (122)" سورة آل عمران: 122.

وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله قال: فينا نزلت "إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا" قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أو -ما يسرني- أنها لم تنزل لقوله تعالى: "وَاللُّه وَلِيُّهُمَا".

2 – كان اليهود يبشرون بظهور نبي قرب زمانه يخرج من بلاد العرب، وكانوا يتهددون العرب بأنهم سيتبعونه ويقتلونهم مثل قتل عاد وإرم فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بالمدينة كان العرب المؤمنون يلقون اليهود ويذكرونهم بما كانوا يقولون من بشارات، فيعترفون ويعلنون إيمانهم، ثم إذا خلا بعضهم ببعض أنكر بعضهم على بعض الاعتراف بما يعلمون من أمر الرسول لأن ذلك سيجعل العرب يشهدون عليهم يوم القيامة عند الله، لأنهم كانوا يظنون أن ما كانوا يقولونه سراً بينهم، فما كذبوا ما قال الله عنهم وإنما دخل جماعة منهم في دين الله وتركوا دينهم.

قال تعالى حاكياً عن اليهود في المدينة: "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللُّه عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَولا يَعْلَمُونَ أَن َّاللَّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)" سورة البقرة: 76 - 77.

ج) كما أن القرآن الكريم أخبر بغيوب تكون في المستقبل تكون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده فجاء مرور الأيام تفسيراً لما أنبأنا الله به في كتابه..

ومن أمثلة ذلك:
1 – إخباره بأن الروم ستغلب الفرس في أقل من عشر سنوات، بعد أن فرح الوثنيون بانتصار الفرس على الروم وتأهبوا على كذب ما وعد الله في كتابه، فما مرت سبع سنوات إلا وتحقق ما وعد الله.

قال تعالى: " الم (1) غُلِبَتْ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأرضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأمْر مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللِّه لا يُخْلِفُ اللُّه وَعْدَهُ وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)" سورة الروم: 1- 6.

2 – حارب الإسلام الكثير من الناس عند ظهوره، ولكنهم عادوا فأسلموا وكانوا من خيار المسلمين أمثال عمر، وخالد، وأبي سفيان، وعمرو ابن العاص وغيرهم، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع إسلام قومه إلا أن القرآن الكريم أعلن له وللمسلمين عن بعض الأشخاص الذين لن يسلموا أبداً وسيموتون على الكفر أمثال أبي لهب وبالرغم من قرابته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمال إسلامه أقرب من احتمال إسلام عمر إلا أن الله قال في كتابه عنه: "سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ" فمات وزوجته على الكفر.

ومثل الأخنس بن شُريق الذي نزل فيه قوله تعالى: "وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ (7)" سورة الهمزة: 1- 7.

فمات على الكفر، ومثل الوليد بن المغيرة قال تعالى في شأنه: "سَأُصْلِيهِ سَقَرَ" فمات كافراً.

3 – ومنها إخبار القرآن بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله من الناس وتولى كف أيدي الناس عند محاولة قتله: قال تعالى: "وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِن َّرَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ (60)" سورة الإسراء: 60.

وإذا كان العرب لا يسكتون على من سب خيولهم وجمالهم فكيف بهذا الذي جاء فسفه أحلامهم وعاب آلهتهم وضلل آباءهم، ونهوه ولم ينته وتوعدوه بالاستئصال، فإذا بالقرآن يخبر أن ربه قد أحاط بمؤتمرات الناس ولن يفلحوا في قتله، فكان لابد من محاولة قتله عند هجرته فأحبط الله كيدهم، وتآمر عليه اليهود في المدينة ليقتلوه فأحاط الله بهم، وحاولت قريش غزوه عدة مرات ففشلت، ودس اليهود السمَّ له في خيبر فأنجاه اللهُ، ومات أحد أصحابه بالسم، وجاء رجل وقد شهر سيفه لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسقط الله السيف من يده، وذهب عمير بن وهب لاغتياله فما عاد إلا مُسلماً، وهكذا تحقق وعد الله ومات على فراشه بالرغم من أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين بعده قد قتلوا قتلاً.

وكان احتمال قتله أكثر من غيره لكن وعد الله لا يتخلف.
4 – ومنها قوله تعالى: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)" سورة القمر: 45.

نزلت هذه الآية بمكة ولم يكن أحد يعلم معناها، وكان عمر يقول: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: سيهزم الجمع ويولون الدبر، فعرفت تأويلها يومئذ، وتحقق هذا الوعد بعد الهجرة إلى المدينة وعندما جمعت قريش جيشاً لقتال المسلمين في بدر هزمهم الله وولوا الأدبار.

5 – ومنها قوله تعالى: "يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللُّه يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِن َّاللَّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)" سورة المائدة: 67.

إن هذه الآية قد جاءت حاثة الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة، مصرحة أكثر من صراحة الآية السابقة "إِن َّرَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ" بأن الله سيعصمه صلى الله عليه وسلم من الناس ولن يتمكنوا منه.

قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية "وَاللَُّه يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ" قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال: يا أيها الناس انصرفوا عنا فقد عصمنا الله عز وجل، وبالرغم من كثرة محاولات قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وتيسر أسبابه لأن حجرات نسائه كانت من جريد النخل، وهو بعد نزول الآية أصبح يسير بغير حرس، ومع ذلك فقد عصمه الله من كل محاولة لاغتياله، بالرغم من قتل الملوك وهم في حصونهم وقصورهم وراء الأبواب الحديد والعبيد والجنود والحارسين.

6 – ومنها قوله تعالى: "فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)" سورة الأنعام: 89.

نزلت هذه الآية تواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كذبه قومه وعشيرته، وتخبره عن أمر في الغيب بأن الله سيقيض للرسالة قوماً يحملونها ولا يكفرون بها، وجاءت الأيام فإذا بالمهاجرين والأنصار يبرزون من بين الناس لحمل هذه الرسالة كما أخبر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من قبل.

7 – ومنها قوله تعالى: "وَعَدَ اللُّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَن َّلَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا" سورة النور: 55.

فلقد كان المسلمون يعبدون الله سراً وهم خائفون، ثم هاجروا إلى المدينة فكانوا يبيتون ويصبحون في سلاحهم فقال أحد الصحابة: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه جديدة) ثم نزلت هذه الآية مباشرة بأن الله سيزيل عن المسلمين الخوف، وسيجعلهم قادة الأرض وخلفاءها، وسينصر دينهم على باقي الأديان، وتحقق وعد الله في عهد رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده.

8 – ومنها قوله تعالى: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللُّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِم َّنِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)" سورة الفتح: 1، 2.

فلقد نزلت هذه الآية عقب إبرام صلح الحديبية الذي كان رأي المسلمين فيه أنه خيب آمالهم، وأن فيه جوراً على المسلمين، بما جاء فيه من شروط قاسية غير أن القرآن نزل يذكر أن ما يراه المسلمون هزيمة وانتكاساً إن هو إلا فتح عظيم للدعوة الإسلامية، ومرت الأيام فإذا بالمسلمين يجنون من وراء صلح الحديبية فتوحاً، وانتصارات عظيمة دينية وعسكرية وسياسية، وبه تمكنوا من فتح مكة بعد عامين فقط.

فعرف المسلمون بعد ذلك ما أخبرهم القرآن به قبل عامين.
9 – ومنها قوله تعالى: "لَقَدْ رَضِيَ اللُّه عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللُّه عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمْ اللُّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (19)" سورة الفتح: 18 - 20.

في هذه الآية وعد الله المؤمنين بثلاثة أمور:
-1 فتح قريب.
-2 مغانم مع هذا الفتح.
-3 مغانم كثيرة في المستقبل.

وأخبرهم أن الله فعل هذا ليكون علامة إلهية للمؤمنين؛ تثبت إيمانهم وتقويه.

ولقد تحقق ما أخبر الله به ووعد:
-1 فبعد شهر من نزول الآية فتح المسلمون خيبر.
-2 وغنموا منها غنائم كثيرة.
-3 كما غنم المسلمون بعد ذلك في حنين، غنموا كنوز كسرى وقيصر.

10 – ومنها قوله تعالى: "لَتَدْخُلُن َّالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللُّه آمِنِين مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا (27)" سورة الفتح: 27.

وعدَ اللهُ المسلمينَ في هذه الآية أنهم سيدخلون بيت الله حاجِّين، مُحلقين ومُقصرين آمنين، لا يخافون من إيذاء قريش، التي حاربت المسلمين وعذبتهم وهاجمتهم مراراً، وغزتهم في المدينة فتحقق وعد الله وما أخبر به سبحانه وإن كان المسلمون يستبعدون ذلك فإنه قد علم ما لم يعلموا، فكان ما أخبر الله في كتابه، وطاف المسلمون بالبيت محلقين رؤوسهم، ومقصرين آمنين لا يخافون.

-11 ومنها قوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" سورة الحجر: 9.

وقد تحقق هذا الوعد:
فخذ مصحفاً من أي بلاد الأرض، طبع في أي زمان وقارن بمصحفك ستجدها شيئاً واحداً تماماً، في عدد السور، وأسمائها، والأجزاء والآيات، وأرقامها، وعددها، وحروفها وستجد أن أي مصحف في الأرض هو نفس المصحف الذي تقرأ فيه وتسمعه من الإذاعات المختلفة، بينما ضاع كل من توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام.

12 – ومنها قوله تعالى: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللِّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّين وَكَانَ اللُّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)" سورة الأحزاب: 40.

تعلن هذه الآية أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فلا نبي بعده وجاءت الأيام، وها نحن اليوم في القرن الرابع عشر، نجد صدق هذا الخبر الإلهي في كتاب الله، مع أن الأنبياء كانوا يتتابعون في الأرض حتى أنه كان يوجد في وقت واحد أكثر من نبي.

13 – ومنها قوله تعالى: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ (65)" سورة الأنعام: 65.

سأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ستقع هذه الآية؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إنها كائنة لم يأت تأويلها بعد) ففسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون، ولكن في المستقبل أي عندما يعصي المسلمون ربهم، يرسل عليهم هذه الأنواع من العذاب.

وكان المسلمون يسألون عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وهو من أكابر المفسرين عن حقيقة العذاب الذي يأتي من أعلى والذي يكون من أسفل فكان يقول رضي الله
عنه: هذه الآية سيفسرها الزمان.

ونحن اليوم نشاهد طرفاً من معاصي الناس، وهكذا جاء في القرآن الكثير من الأنباء التي ستكون في المستقبل، ومرت الأيام وإذا بالأنباء الغائبة تظهر للعيان وصدق الله العظيم القائل: "وَلَتَعْلَمُن َّنَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)" سورة ص: 88.

ولقد جاء القرآن بالشريعة التي أصلحت أمر الإنسان، فأخرجت خير أمة للناس، وسعد في ظلها الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم وأوطانهم، وأوجدت الحلول لكل مشكلة في مختلف البلدان والأزمان، فكانت الشريعة بخصائصها الإلهية قوية في تأثيرها، عادلة في حكمها، ثابتة في قيمها، مرنة تستجيب لكل ألوان الحياة المتجددة ولقد شهدت لها المجامع القانونية الدولية في عصرنا هذا، رغم مخالفة هذه المجامع لنا في العقيدة.

ومن أمثلة هذه الشهادات:
1 – قال القانوني (سانتيلانا) في كتابه: إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل: إن فيه ما يكفي الإنسانية كلها.
2 – وهذا أحد كبار رجال القانون الأجانب يقول للمسلمين: إن فقهكم الإسلامي واسع وجداً إلى درجة أني أعجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظمة والأحكام الموافقة لزمانكم وبلادكم.
-3 ويقول (سليم باز) القانوني المسيحي اللبناني: أعتقد بكل اطمئنان أن في الفقه الإسلامي كل حاجة البشر في عقود، ومعاملات، وأقضية والتزامات.
4 – ويقول القانوني الألماني الشهير (كهلر): إن الألمان كانوا يتيهون عجباً على غيرهم في ابتكار نظرية الاعتساف والتشريع لها في القانون المدني الألماني الذي وضع 1787م: أما وقد ظهر كتاب الدكتور محمود فتحي وأفاض في شرح هذا المبدأ [26] عن رجال الشريعة الإسلامية، وأبان أن رجال الفقه الإسلامي تكلموا عنه طويلاً ابتداء من القرن الثامن للميلاد فإنه يجدر بالعلم القانوني الألماني أن يترك مجد العمل بهذا المبدأ لأهله الذين عرفوه قبل أن يعرفه الألمان بعشرة قرون؛ وأهله حملة الشريعة الإسلامية.
5 – ويقول (هوكتنج) أستاذ القانون بجامعة هارفارد في كتابه (روح السياسة العالمية) عام 1932م: إن سبيل تقدم الممالك الإسلامية ليس في اتخاذ الأساليب الغربية، التي تدعي أن الدين ليس له أن يقول شيئاً في حياة الفرد اليومية، وعن القانون والنظم السماوية، وإنما يجب أن يجد المرء في الدين مصدراً للنمو والتقدم، وأحياناً يتساءل البعض: عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أحكام جديدة، وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تطلبه الحياة العصرية؟ فالجواب عن هذه المسألة: هو أن في نظامه كل استعداد داخلي للنمو، لا بل إنه من حيث قابليته للتطور يفضل كثيراً من النظم المماثلة، والصعوبة لم تكن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي وإنما في انعدام الميل إلى استخدمها [27] وإني أشعر بكوني على حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللازمة
للنهوض.
6 – أما الأستاذ (شيرا) عميد كلية الحقوق في جامعة فينا فقد أعلن في مؤتمر الحقوقيين 1927م قوله: إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد لها، إذ إنه رغم أميَّته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي [28] بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة.
7 – ولقد وقف الأستاذ (لامبير) في مؤتمر القانون الدولي المقارن المنعقد في لاهاي في أغسطس 1932م: فأعلن تقديره للشريعة من الناحية الفقهية.
8 – وأما المؤتمر الدولي الذي انعقد في لاهاي أيضاً (أغسطس 1937م) فقد
أعلن ما يلي:
أ) اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام، أي أن الشريعة الإسلامية قد أصبحت مصدراً للمحاكم الدولية، والقوانين الدولية لا لقوة أهلها، ولكن لصلاحيتها هي، وقوتها الذاتية التي فرضت نفسها.
ب) وأصدر المؤتمر إعلاناً بأن الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها، مستقلة عن غيرها، ليست مأخوذة من غيرها.
9 – أما مؤتمر المحامين الدوليين الذي انعقد في (لاهاي عام 1948م) فقد أصدر توصياته بدراسة الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة.
10 – وأما جمعية القانون الدولي العام فقد اعتبرت محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة الرائد الأول للقانون الدولي العام.
11 – أما أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس، فقد وقف فيه نقيب المحامين الفرنسيين، فقال: (لا أدري كيف أوفق بين ما كان يصور لنا من جمود الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي وعدم صلاحيتهما كأساس لتشريعات متطورة، وبين ما سمعته مما يثبت من غير شك فاعلية الشريعة الإسلامية من عمق وأصالة ودقة، وكثرة تفريع وصلاحية لمقابلة جميع الأحداث).

وقد قرر المؤتمر ما يلي:
1- اعتبار مبادئ الفقه الإسلامي ذات قيمة تشريعية لا يمارى فيها.
2- اختلاف المذاهب الفقهية يحوي ثروة تشريعية هي مناط الإعجاب ومنها يستجيب الفقه الإسلامي لجميع مطالب الحياة.

فليست هذه الشريعة الثابتة المرنة، التي لم تنل منها الأيام، والتي تحقق العدل والسعادة للإنسان في كل زمان ومكان إلا علامة، وبينة إلهية تشهد بأن ربها الله الذي أحاط علماً بأمر الإنسان، وأن النبي الأمي ليس إلا رسولاً يبلغ ما يوحى إليه من ربه.

ولا يزال القرآن كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقضي عجائبه.. ولا تشبع منه العلماء) فكلما مر الزمن، كلما كشف عن وجه جديد من إعجازه، فما إن دخل الناس في عصر العلوم الكونية حتى وجدوا في كتاب الله نبأ بأن الله سيريهم آياته في الآفاق.

قال تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53)" سورة فصلت: 53.

وإذا بالوعد متحقق، فهناك آيات كثيرة ظهرت لعلماء الكون في الآفاق وكان الله قد أخبر بها رسوله أو بنى عليها حكماً أو أشار إليها.
يتبع إن شاء الله...