شبهة:
ويزعم بعض الكافرين:

أن الإنسان عبارة عن تفاعلات كيماوية، وأن لا شيء فيه غير المادة، التي تتفاعل مع بعضها كيماوياً فينتج عنه هذا النشاط الإنساني، فالأكل، والشرب، والعمل، والكلام، والضحك، والبكاء، والحب، والكراهية، والشجاعة، والجبن وكل سلوك إنساني ليس إلا نتيجة لتفاعلات كيماوية!!

ولا يرد هذا القول بأكثر من القول:

بأن الإنسان على هذا لا إرادة له في أي عمل يقوم به؛ لأن التفاعلات الكيماوية تحدث داخله فتجعله شجاعاً أو جباناً، كريماً أو بخيلاً، متحركاً أو واقفاً، ضاحكاً أو باكياً، متكلماً أو صامتاً، محسناً أو مسيئاً.

ومعنى هذا أيضاً أنه إذا قتل شخص غيره فلا يسأل عن ذلك، لأن التفاعلات الكيماوية التي تمت في جسمه هي التي حركت جسمه للقتل!!

ولو كان هذا القول الباطل حقاً؛ لكنت تعمل وتتوقف، تسير وتتحرك، تتكلم وتصمت بطريقة آلية كيماوية، وبدون إرادة منك أو اختيار، وذلك أمر ظاهر البطلان.

إنك روح وجسد كما قال ربك: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)" سورة الحجر: 29.

روح تتصرف، وجسد يتحرك تحت تصرف تلك الروح.

الخلاصة:

*للمادة ثلاث حالات، ولك حالة حكمة:
أ) حالة الصلابة:

تجعل الأشكال ثابتة فنبني المنازل، ونصنع الآلات، ونستقر في الأرض.

ب) حالة السيولة:

تمكن المادة من تغيير شكلها فيسري الدم في عروقنا، ويجري الماء في أجزاء النبات وأعيته.

ج) الحالة الغازية:

تمكن المادة من الانتشار فنجد الهواء قريباً ميسراً في كل مكان.

*وتتحول المادة من حال إلى حال وفي كل تحول حكمة:

أ) بانصهار المادة الصلبة إلى سائل نتمكن من تشكيل المواد الصلبة كصناعة الآلات من حديد منصهر.

ب) وبذوبان مادة في أخرى تمكن النبات من الانتفاع بأملاح التربة الذائبة في الماء، ووصول الطعام إلى كل خلية في أجسامنا مع الدم الجاري في العروق والشعيرات الدموية.

ج) وبالتجمد أخذت المعادن المنصهرة أشكالها الثابتة النافعة وأقلت الأرض من عليها.

د) وبالترسيب تكونت العظام الصلبة من أملاح الكالسيوم التي كانت ذائبة في الدم.

هـ) وبالتبخر ارتفع ماء البحر فوق مستوى الجبال استعداداً لنقله إلى أعماق القارات وتخلص مما فيه من أملاح.

و) وبالتكثيف امتنع صعود بخار الماء إلى النجوم فاستقر سحباً فوق مستوى الجبال.

*لكل حالة صفات مناسبة:

أ) فلو كانت صفة الانتشار من صفات السوائل لطغى ماء البحر على كل شيء.

ب) ولو كانت صفة الانتشار من صفات المواد الصلبة لدفنت الجبال كل حي.

ج) ولو كانت صفة تغير الشكل من صفات المواد الصلبة لغصنا في الأرض ولما وجد شكل ثابت.

د) ولو كانت صفة الثبات من صفات السوائل ما جرى دم أو نهر أو ماء.

هـ) ولو كانت صفة الثبات من صفات الغازات لا نحصر وجود الهواء في مكان محدود.

*الذرة لبنة البناء في الكون وتتكون كل الذرات المادية المختلفة من أنواع واحدة من الجسيمات (إلكترونات، بروتونات، نيوترونات.. الخ) وهي مرتبطة ببعضها البعض، وسبب اختلاف العناصر المادية يرجع إلى اختلاف عدد الجسيمات في الذرة وترتيبها.

*إن تلك الأحوال المحكمة للمادة، والقوانين المنظمة لها، والتحولات البديعة، وتلك التفاعلات المادية المتقنة، والأحكام النافذة، والتركيب الموحد لكل ذرات الكون يشهد أنه من خلق: حكيم، عليم، حاكم، قوي، مهيمن، واحد هو الله سبحانه.

*ليس النشاط الإنساني نتيجة لتفاعل مادي كيماوي، لأنه نشاط حر غير مقيد بحركة آلية، ولأنه يصدر عن إرادة روح حرة وجسم مادي منفذ محدود.

قدَّر فهدى:

بدء تكوين الماء:

لقد قدر الخالق سبحانه أن الحياة لا تكون بغير الماء فهدى الأرض عند انفصالها عن السماء من أجسام، أن تنفصل بالقدر المناسب من غاز (الأيدروجين، والأكسجين) لتكوين القدر المناسب من الماء لحياة ما على الأرض من حياة وأحياء، شريطة أن يبقى من الأكسجين القدر المناسب في الجو لتنفس الكائنات الحية.

فتأمل:

لو زاد مقدار (الأيدروجين) عند الانفصال لاتحد (بالأكسجين) الموجود الآن في الهواء، ولزادت كمية ماء البحر فيغطي القارات ويغمرها بالماء، ولانعدم (الأكسجين) في الهواء فنموت ويموت كل كائن حي.

قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَن َّ السَّمَاوَاتِ وَالأرضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُل َّشَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)" سورة الأنبياء: 30.

إن كل عاقل سليم يستنتج أن انفصال الأرض عما في السماء كان وفق تقدير محكم يشهد أن صانعه عليم، حكيم، رحيم.

لطف بالأسماك:

من المعروف أن الماء إذا زادت درجة حرارته زاد حجمه، وقلت كثافته، فيرتفع الماء الساخن إلى أعلى وينزل الماء البارد إلى أسفل.

وكذلك الحال في جميع السوائل:

حرارة + ماء = زيادة حجم الماء وارتفاعه إلى أعلى والعكس صحيح.

برودة + ماء = نقص في حجم الماء وهبوط إلى أسفل.

إن هذه السنة الإلهية تعمل كما تعمل باقي السنن الإلهية الأخرى:

مقدمة معينة تعطي نتيجة معينة أو مقدمة واحدة تعطي نتيجة واحدة.

وعلى هذه السنة الإلهية:

التي قضى الله بها أن يرتفع الماء الحار، وينخفض الماء البارد.

على هذه السنة كان لا بد أن ينزل الثلج الموجود في البحار المتجمدة إلى القاع، ويتراكم حتى السطح، وعندئذ يصبح البحر قطعة واحدة من الثلج وبهذا تتجمد الأسماك وكل حيوانات البحر وتموت.

ولكن شيئاً من ذلك لا يحدث فالأسماك وكافة الحيوانات البحرية في المحيط المتجمد الشمالي حية ترزق وتسير وتجيء.

ذلك لأن الخالق قد عكس هذه القاعدة عند نقطة الخطر فجعلها:


برودة + ماء = زيادة في حجم الماء وصعوده إلى أعلى.

ولا تعجب.. كيف كانت المقدمات واحدة.

برودة + ماء

فأعطت نتيجتين مختلفتين:

1- برودة + ماء = نقص في حجم الماء وهبوطه إلى أسفل.

2- برودة + ماء = زيادة في حجم الماء وصعوده إلى أعلى.

ولا عجب من ذلك أبداً أن هذا التغيير في النتيجة كان لا بد أن يحدث لصالح حياة كل حي يعيش في البحار المتجمدة.

ومع ذلك.. الذي سن السنة الأولى، هو الذي سن السنة الثانية لصالح كل حي يعيش في الماء.

وجعل لكل من السنتين السابقتين مجالاً تعمل فيه، فتعمل السنة الأولى ابتداء من درجة (4ْ م) أربع درجات مئوية وهذا مجال ليس فيه ضرر على حيوانات البحر، كما تعمل السنة الثانية ابتداء من درجة الصفر المئوي (0ْم) إلى درجة (4ْم) أربع درجات مئوية وذلك مجال له أثر كبير على أحياء الماء، لأنه يجعل الثلج من أعلى والماء الرائق الدافئ عند درجة (4ْم) من أسفل فتتحرك فيه الأحياء، وتستمر لها الحياة مهما كانت طبقات الثلج من أعلى.

إن العقول لتستنتج مما مضى:

أن الذي نظم الكون بهذه السنن والقوانين لا تقيده السنن أو القوانين، إنما هو الذي يحددها كما يشاء.. يضع السنة وعكسها، وكم وقف المتأملون في المخلوقات على مثل هذا فسموه (شذوذاً) وقالوا: لكل قاعدة شواذ، ويقول المؤمن: إن القاعدة سنة، والشذوذ سنة، ولكل حكمة، والكل شاهد بإرادة الخالق الحر التي لا تقيدها تفاعلات كيماوية أو أوضاع مادية.

كما تستنج العقول أن الذي خلق الماء قد هداها ليؤدي دوره في هذه الحياة كما قدر له الخالق، ووضع له سنناً وأحكاماً تسيره فيما قدر له، سنناً تجعله سحباً طائرة، وسنناً تدفعه في أوراق الشجر وأغصانها، وسنناً تجعل الماء وسطاً كيماوياً صالحاً لصنع الطعام، وسنناً تحول الماء جزءاً من الدم الجاري في العروق، وسنناً تجعل الماء بحراً يمتلئ بالأسماك وغيرها من الكائنات الحية، وسنناً تيسر البحر لسير السفن وتسهيل النقل عليه.

الاتحاد الكيميائي:

إذا تأملت في قوانين الاتحاد الكيميائي ستشاهد:

*أن أي مادة لا تتحد إلا بمواد مخصوصة مع أن أصل المواد شيء واحد (الكترونات، وبروتونات، ونيوترونات..) فمَنْ الذي يهدي الأكسجين مثلاً ويعرفه أن هذه المادة (كربون) يمكن أن يتفاعل معها، وأن هذه المادة ذهب لا يتفاعل معها؟

*وأن أي مادة لا تتحد إلا بمقدار معلوم من المادة التي تتحد معها ويسمى ذلك المقدار (الوزن المكافئ)، فمَنْ يهدي الأوزان المكافئة للاتحاد ويمنع الاتحاد لغير تلك المقادير المحدودة؟ ولماذا هذا التحديد؟ ومَنْ صاحب هذا التحديد والتقدير والهداية؟

*إن العقل ليستنتج من مشاهدة هذه التفاعلات الكيماوية أن التقدير والتحديد لا يكونان إلا من مُريد، وأن التوجيه والهداية لا يكونان إلا من هَادٍ.

فمَنْ الذي يُقَدِّرُ هذه التفاعلات الدقيقة المحكمة في شتى أرجاء الكون، ومَنْ الذي يَهدِي كلَّ تفاعل إلى النتيجة المقدرة له؟

إن العقل ليجزم بأن خالق هذه المواد هو المريد الذي قدَّر أحكامه، وأنه الهَادي الذي سيرها.. إنه الله (الذي قدَّرَ فهَدَى).

ثعابين البحر:

يحدثنا أحد رواد العلم الحديث (أ. كريس موريسون) [21] في كتابه المترجم (العلم يدعو للإيمان) فيقول:.. وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل، وهو الخاص بثعابين الماء، فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها هاجرت من مختلف البرك والأنهار وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي (برامودا) [22] وهناك تبيض وتموت.

أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شي سوى أنها في مياه قفر فإنها تعود أدراجها، وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها، ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة.. لقد قاومت التيارات القوية، وثبتت للأمداد والعواصف وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ، وهي الآن يتاح لها النمو، حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها، فمن أين ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك؟

إن عقولنا لتستنتج من هذه الرحلة الموجهة، ومن كل عمل موجه يظهر في هذا الكون، في الأرض أو السماء، في البر أو الجو أو البحر، أن وراء ذلك التوجيه المحكم إرادةُ هَادٍ حكيم.

إن ذلك التوجيه توجيه الذي قدَّرَ لكل شيء دورهُ في هذا الكون، وهداهُ إلى القيام بما قدر له ف "سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)" سورة الأعلى: 1- 3.

خلق الإنسان:

لقد كان الإنسان نطفة (حيواناً منوياً) ناقصة في خصية الرجل، وكان النصف الآخر نطفة (بويضة) ناقصة في مبيض الأم فكل خلية في جسم الإنسان رجلاً كان أو امرأة تنقسم إلى قسمين، وكل قسم من هذين القسمين يكون خليه كاملة فيها (48) حاملاً وراثياً (كروموزوم) إلا تلك الخلايا المنقسمة في خصية الرجل ومبيض المرأة والتي
ينشأ عن انقسامها تكوين (الحيوانات المنوية) في الرجل (نطفة الرجل) والبيضة في الأنثى (نطفة المرأة) فإن الانقسام فيها يكون مخالفاً لسائر الانقسامات في جميع خلايا الجسد، لأن كل خلية منوية ذكرية أو أنثوية (حيوان منوي أو بويضة) لا يتكون إلا من (24) حاملاً وراثياً (كروموزوم)، فلماذا شذت الخلية التي يتكون منها الحيوان المنوي في الرجل عن سائر خلايا الإنسان في عدد الحوامل الوراثية في كل منها؟

والجواب:

نعرفه بعد خروج نطفة الرجل من مكانها، وخروج نطفة المرأة في المبيض والتقاء النطفتين في القرار المكين (رحم المرأة) حيث تتحد النطفتان فتتكون منهما خلية واحدة عدد حواملها الوراثية (48 كروموزوم)، ومن هنا نعرف لماذا حدث ذلك الاختلاف في انقسام الخلايا المنوية عن سائر خلايا جسم الإنسان، ذلك لأن كل خلية في جسم الإنسان تعتبر وحدة مستقلة متكاملة، فيجب أن يكون عدد الحوامل الوراثية كاملاً وقدره (48)، وأما الخلايا المنوية فإنه من المعروف والمفهوم والمعلوم أنها ستتحد مع بعضها لتكوين الجنين فيجب أن يكون في كل منها نصف القدر من الحاملات الوراثية حتى إذا تم الاتحاد تكونت خلية ببشرية كاملة بالقدر الصحيح.

فماذا تستنتج أيها العاقل من هذه الآية التي تحدث في كل إنسان بالغ، بل وفي كل حيوان بالغ؟

إن العقل ليستنتج أن الذي يخلق النطفة الذكرية ناقصة في حواملها الوراثية (24) (كروموزوم) يعلم أن مصير هذه النقطة المذكرة أن تتحد بالنطفة المؤنثة التي تتكون أيضاً من (24) حاملاً وراثياً وبالاتحاد تنتج الخلية الإنسانية الكاملة المكونة من (48) حاملاً وراثياً.

فهل تعلم الخصية في الرجل وكذا باقي التفاعلات الكيماوية ما أعد من مبيض الأنثى من تكميل للنقص في عدد الحوامل الوراثية في الخلية المنوية المذكرة التي تنشأ في الخصية؟

وهل تعلم الخصية وكذا المبيض أن مصير ما ينتجانه من خلايا ناقصة هو الاتحاد وتكميل بعضها البعض؟

إن العاقل ليسخر من هذه الأوهام كما أنه لا يشك لحظة أن خالق النطف المنوية المذكرة والمؤنثة عليمٌ بما يصنع في أعماق أحشاء الرجل والمرأة على السواء، حكيمٌ في تقديره وتدبيره، كما لا يشك العاقل في أن الطبيعة ليست هي صاحبة ذلك العلم والتقدير.

قال تعالى: "نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)" سورة الواقعة: 57 - 59.

ويقول سبحانه: "قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُم َّالسَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُم َّأَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُم َّإِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)" سورة عبس: 17 - 22.

وتأمل كيف تتحول تلك النطفة المنوية بالغذاء السابح في دماء الأم إنسان كامل التصوير والتكوين والتركيب.

فجزء من ذلك الغذاء يكون يداً، وجزء مماثل يكون اليد الأخرى، وجزء يكون القدم، وجزء يكون القدم المساوية الأخرى، وجزء يكون العين، وجزء يكون العين المساوية الأخرى، وجزء يكون الرئة وجزء يكون المعدة، وجزء يكون الكبد، وجزء يكون العظام، وجزء يكون اللحم، وجزء يكون الجلد وهكذا..

فمَنْ يشرف على ذلك التكوين الدقيق، وعلى عملية البناء المنسقة المتساوية المتوازنة، المتماثلة، المتكاملة؟!

إن العقل ليستنتج مما يشاهد في خلق الإنسان وغيره من الكائنات أن خالق الإنسان والحيوان في ظلمات الأرحام أو داخل قبة البيضة لا شك خبيرٌ بما يخلق، عليمٌ بما ينشئ، بصير بما يصنع.

فمَنْ صاحب هذه الحكمة والبصيرة والخبرة والإدراك؟

هل الغذاء السابح في الدم هو صاحب تلك الحكمة والخبرة والبصيرة؟

أم أن النطفة التي تكون المبيض نصفها من غذاء الأم، وكونت الخصية نصفها من غذاء الأب هي التي نظمت، وأدركت، وأحكمت، ووازنت، ودققت؟

إن ذلك الغذاء لا يملك إرادة، أو حكمة، أو بصيرة.

إن تلك الأحشاء والأمعاء لا تعي إلا ما جبلت عليه من الأعمال، وحدد لها من الأفعال، دون زيادة أو نقصان.

إن تلك النطفة التي صنعتها الخصية في الذكر، والمبيض في الأنثى لا تدري من أمرها شيئاً، بل إن الإنسان المتكون عنها لا يزال جاهلاً، لا يملك بصيرة أو حكمة، أو صواباً لمدة عدد من السنين بعد ولادته.

ولا شك أيضاً أن الشمس أو القمر، أو الرياح، أو المطر، أو النبات أو الحيوانات، أو النجم، أو المجرة لم تدخل إلى بطن الأم لتصور، وتركب وتكون، هذه الآلاف العديدة التي تولد كل يوم من أطفال بني الإنسان وأطفال كل الكائنات الحية، ولا شك أيضاً أن هذه المظاهر الطبيعية جميعاً لا تملك عقلاً أو بصيرة أو حكمة.

فكيف ظن الجاهلون أن الطبيعة البليدة العمياء هي التي منحت الإنسان عقلاً، وبصيرة، وحكمة؟!

إن فاقد الشيء لا يعطيه.

فمَنْ الخالق الخبير؟

فمَنْ الخالق الحكيم؟

فمَنْ الخالق البصير؟

أيها العقلاء.. أيها المفكرون!

إنهُ اللهُ ربُّ العالمينَ القائل في كتابه: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُم َّجَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُم َّخَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَُّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُم َّإِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)" سورة المؤمنون: 12 - 16.

وإذا تفكرت في عملية تكوينك في بطن أمك، وجدت آيات وآيات.

ذلك الجزء الذي يصنع العين لماذا يصنع العين؟ لأنه لا حاجة لك بالعين في بطن أمك!! فهل قد أصبح ذلك الجزء من النطفة في ظلمات الرحم عالماً بما سيؤول إليه أمرك، خبيراً بنظام الضوء وسننه، وقوانينه الذي ستلاقيه بعد خروجك من بطن أمك، فنظم لك جهازاً بصرياً لترى به ما حولك مستخدماً الضوء وقوانينه وسننه؟

ومَنْ أعلم ذلك الجزء من النطفة من بطن الأم أنك ستخرج من بطن أمك؟ ومن أفهمه أنك ستحتاج إلى عينين بعد خروجك؟

ومَنْ أعطاه درساً في قوانين الضوء وأسراره، وهو لم ير ضوءاً من قبل؟!

ومَنْ منحه بعد ذلك مقدرة على تحويل الطعام السابح بين الدماء إلى أغشية بصرية رقيقة، وعدسة محكمة، وماء زجاجي مقدر، وشبكة تتكون إحدى طبقاتها من ثلاثين مليون عود بصري وثلاثة ملايين مخروط بصري؟

ومَنْ أخبر ذلك الجزء من النطفة أن ينشئ العصب البصري ويشق له فتحة بقدره في الجمجمة، ويصنع مركزاً بصرياً خاصاً في المخ ويربط به ذلك العصب البصري؟

وإذا تأملت في الرئتين اللتين تصنعان لك في بطن أمك وأنت لا زلت جنيناً.

لماذا صنعت هاتان الرئتان؟ بل لماذا تصنع ملايين الرئات مع كل المواليد الجدد في كل يوم من أجنة بني الإنسان والحيوان.

إنه لا حاجة للجنين إلى الرئتين بل لو دخل إلى الجنين قليل من الهواء إلى القرار المكين لأحدث فيه أضراراً بالغة.

فلماذا يصنع إذن هذا الجهاز التنفسي لاستقبال الهواء؟

لا شك أن الذي يصنع هذا الجهاز على علم بمصير الجنين في كل إنسان وحيوان.

إن الذي صنع لك الرئتين والجهاز التنفسي لا شك أنه عالم بمصيرك وأنك ستخرج من بطن أمك وأن الهواء سيحيط بك من كل مكان، وأنك ستكون في أمس الحاجة إليه، فهو يصنع له طريقاً إلى كل نقطة في جسمك وأنت لا تزال جنيناً في بطن أمك لا تعلم شيئاً.

"هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأرْْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ" النجم: 32.

وهو أيضاً يصنع للهواء جهازاً كاملاً هو الجهاز التنفسي.

وما قيل في تكوين العين والجهاز التنفسي يقال في تكوين الجهاز الإخراجي، والجهاز الدوري الدموي، والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، فكل هذه الأجهزة لست بحاجة لها وأنت في بطن أمك، ولن تكون لك بها حاجة إلا بعد خروجك من بطن أمك عندئذ تكون ألزم الأشياء وأهمها لبقاء حياتك.

ألا يستنتج كل عقل سليم من هذه الأفعال والأحداث التي تجري في بطن الأم أنها تسير وفق خطة مرسومة مقدرة، وتبعاً لتدبير حكيم خبير عليم بما يصنع ويفعل.

وكم يسخر العلماء الذين يطلقون الصواريخ ورواد الفضاء إذا قال جاهل بليد: بأن الترتيبات اللازمة التي يعد بها رائد الفضاء أثناء انطلاقه إلى الفضاء قد جاءت بالطبيعة أو صدفة أو بدون علم علماء وخبرة خبراء!!

إن المسلم لا يكفر بالحق الواضح، والكافر يغطي الحق البين، إن المسلم يشهد كما تشهد أحداث خلقه وتكوينه أن ربه الخالق، العليم، الحكيم، الخبير، القوي، القادر، المهيمن، الذي.. "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)" سورة الشورى: 11.

وصدق الله العظيم القائل: "يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)" سورة الانفطار: 6 - 8.

وهكذا تجد العقول المفكرة أن لكل مخلوق خطة وعملاً قد قدره له خالقه، ثم هداه إلى القيام بعمله كما هدى الخصية والمبيض وهدى النطفة وأجزاءها إلى ما قدر لها، وهدى العينين والرئتين، وهدى كل جزء إلى ما قدر له ربه.

الخلاصة:

*لقد هدى الله الأرض عند انفصالها أن تنفصل بمقادير حكيمة فلو زاد مقدار الأيدروجين المنفصل لطغى البحر على الأرض وانعدم الأكسجين وماتت الأحياء.

*الماء الساخن يرتفع إلى أعلى، والبارد ينخفض إلى أسفل، ولكن هذه القاعدة تتغير عند الدرجة الخطرة بالنسبة لحيوانات البحار ابتداء من درجة الصفر إلى درجة أربعة مئوية فتعكس القاعدة فيرتفع الثلج (الماء البارد) إلى أعلى ويبقى تحته الماء الدافئ لتسهيل حياة كائنات البحر الحية، ويشهد هذا الاختلاف الحكيم في نظام الماء أن خالقه رحيم، وأن إرادته مطلقة تفعل ما تشاء وليس ما يقال: لكل قاعدة شواذ إلا دليلاً على الإرادة الحرة لمن يضع القاعدة ويضع شذوذها، والذي قدر للماء دوره في الحياة هداه إلى ما قدر له.

*لا يتم تفاعل كيميائي إلا بين مواد معلومة أو وزن محدود فالذي قدر التفاعل بين المواد بتلك المقادير هو الذي يهدي كل تفاعل إلى ما قدر له.

*إن الذي قدر حياة ثعابين البحر في برك وأنهار أوروبا وقدر سفرها إلى (برمودا) لتتناسل وتتزاوج وتموت في برمودا هو الذي هدى صغارها إلى العودة إلى مواطن عيش الآباء وعودتها إلى برمودا ثانية لتموت دون أن تضل الطريق.

*إن الذي قدر خلق الإنسان من نطفة رجل وامرأة قد هدى خصية الرجل إلى صنع النصف، وهدى مبيض المرأة إلى صنع النصف الباقي المطابق وليس للدماء أو الأحشاء هداية أو علم، لكن ذلك هداية الله جل وعلا، وهو الذي هدى كل جزء في النطفة إلى القيام بدوره المحدود فكانت النتيجة ذلك الإنسان المخلوق في أحسن تقويم، وأن تلك الخطة المحكمة، المتتابعة المراحل في خلق الإنسان تشهد بأن الله هو الذي هدى سيرها وليس الطعام أو الأحشاء هو صاحب تلك الحكمة والهداية والبصيرة.

*إن الذي قدر لك أن تخرج من بطن أمك لتسعى في الأرض، وترى ما حولك هو الذي يخلق لك العينين وأنت ما زلت جنيناً وفق سنن الضوء وأحكامه، وإن الذي قدر لك أن تستنشق الهواء هو الذي هدى ذلك الجزء من النطفة أن يصنع جهازاً تنفسياً بالغ الدقة.

إن الذي قدر للإنسان أن يحيا على هذه الأرض هو الذي هدى كل جزء من النطفة إلى صنع جهاز أو عضو ليتم من الجميع ذلك الخلق القويم المهيأ للحياة على هذه الأرض.

قال تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)" سورة الشورى: 11.

هل صفات الإنسان كصفات الجماد؟ وهل إذا رأينا إنساناً ينتقل من مكان إلى آخر سألناه من الذي ينقله؟

وما حجة من يسأل: إلى أن الجماد يحتاج ويفتقر إلى من ينقله، فيقر أن الإنسان كذلك يحتاج ويفتقر إلى ما ينقله؟

أليس الجواب على من يسأل هذا السؤال هو: أن الإنسان يختلف عن الجماد، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الجماد، وعلى ذلك فهو لا يفتقر إلى من يحركه من مكانه فصفات الجماد غير صفات الإنسان.

وما هو موقفنا من شخص ينكر أن للإنسان عقلاً وإدراكاً، وحجته في ذلك أن مصنوعات الإنسان لا تملك عقلاً [23] ولا إدراكاً؟

لا شك أن أي عاقل سيقول له:

يا هذا! إن صفات الإنسان وخصائصه غير صفات مصنوعاته وأدواته، فإن كانت لا تتصف بالعقل فليس معنى ذلك أن الإنسان لا يتصف بالعقل أيضاً! وليس كل ما ينطبق على مصنوعات الإنسان يجب أن ينطبق على الإنسان.

إنك إذا أنكرت وجود عقل الإنسان فقد أنكرت وجود مصنوعاته التي لم تصنع إلا بتدبير عقل مفكر وهندسة عقل واع.

إن كل مخلوق في الأرض والسماء يختلف عن بقية المخلوقات في الخصائص والصفات، ولولا ذلك الاختلاف لكانت المخلوقات جميعاً شيئاً واحداً، ولكان الحجر، والشجر، والحيوان، والإنسان، والماء، والتراب، والهواء، والنجم شيئاً واحداً وإذا كانت المخلوقات تختلف عن بعضها في صفاتها وخصائصها، فمِمَّا لا شك فيه أن الخالق سبحانه وتعالى يخالف مخلوقاته التي أوجدها وسيرها فلابد إذاً أن يخالفها في صفاته الإلهية وخصائصه الربانية.

قال تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)" سورة الشورى: 11.

ولو كان شيئاً يماثله لكان إلهاً وخالقاً.

قال تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَُّهُ لَفَسَدَتَا (22)" سورة الأنبياء: 22.

ومع ذلك فالشيطان لا يزال يوسوس بجهالة كبرى، كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعتمد هذه الجهالة على أساس باطل: هو التسوية والمشابهة والمماثلة بين الخالق ومخلوقاته في الصفات والخصائص -استغفر الله- يوسوس الشيطان قائلاً: هذا خلق الله فمن خلق الله؟

ومعنى السؤال:

إذا كنا نشاهد هذه المخلوقات أول ما تتصف به أنها مفتقرة إلى خالقها، ومحتاجة إلى بارئها فلن يكون لها وجود إذا لم يوجد خالقها فكذلك يجب أن يتصف بنفس ما اتصفت به مخلوقاته فهو محتاج مفتقر مثلها.

وللجواب على هذه الجهالة الشيطانية نقول:

ومَنْ الذي قد قرر أن ما تتصف به المخلوقات لا بد أن يتصف بها الخالق -أستغفر الله-؟

مَنْ الذي صدق أن كل ما يحتاج ويفتقر إليه المخلوق لا بد أن يكون الخالق مفتقراً ومحتاجاً إليه حتى أصبح الخالق ومخلوقاته شيئاً واحداً؟ -أستغفر الله- إن الخالق غير مخلوقاته التي أوجدها وسيرها، كما أن الإنسان غير مصنوعاته التي صنعها واخترعها، وما يتصف به الخالق سبحانه من عظيم الصفات يجب أن يخالف ما تتصف به مخلوقاته وإلا لكان الجميع شيئاً واحداً.

فإذا كانت المخلوقات فقيرة إلى ربها محتاجة في وجودها إلى خالقها، فإن الله سبحانه هو الصمد الغني الذي لا يفتقر إلى غيره، ويفتقر إليه كل مخلوق.

تلك الصفات من صفات ربنا، تخالف صفات مخلوقاته، ويشهد هذا الكون الزاخر بالمخلوقات التي لا تحصى ولا تعد بأن رب هذا الكون غني لا يحتاج إلى غيره ولا يفتقر إلى سواه.

أما مَنْ عاند أو أصر على وصف الخالق بما يتصف به المخلوق فعقله يلزمه على هذه الجهالة الكبرى أن ينكر وجوده، ووجود كل ما في هذا الكون الفسيح المشاهد، ذلك لأنه لا يبقى غير الخالق ومخلوقاته إلا العدم المطلق.

فإذا كنا نشاهد من حال المخلوقات حاجتها وافتقارها إلى خالقها الذي أوجدها وأنشأها، فإن عقولنا تقرر أنه لن يكون لها وجود بغير وجود خالقها، كما أنه لن يكون وجود للسيارة إذا انعدم وجود صانعها فإذا صدقنا بالباطل الذي يصف خالقنا بوصف مخلوقاته -استغفر الله- وقلنا إن الخالق محتاج مفتقر في وجوده إلى غيره.

ولا يوجد غير الخالق ومخلوقاته إلا العدم فعندئذ يكون افتقار الخالق واحتياجه إلى العدم الذي لا يعمل شيئاً، وإذاً فالخالق غير موجود، لأن العدم لا يعمل شيئاً، وإذاً فأنا وأنت وهذه الأسطر وكل ما في هذا الكون لا وجود له.

لأن الكفر يريد أن يصف خالقنا باطلاً بما تتصف به المخلوقات، فيزعم أنه محتاج مفتقر لمن؟ للعدم: لأنه ما بقي غير الخالق ومخلوقاته إلا العدم.

لكنا نحن المؤمنين نؤمن أن لله المثل الأعلى، والصفات العليا وأن أي شيء من مخلوقاته لا يشابهه ولا يكافئه فإذا كانت أول صفات المخلوقات المشاهدة حاجتها وافتقارها إلى خالقها فإن خالقها هو الصمد الغني الذي لا يفتقر إلى غيره، ولا يحتاج إلى سواه، وإن الله هو الذي أوجد هذا الكون وخلقه.
يتبع إن شاء الله.