الموت:
ما هو الموت:

الموت:

هو مفارقة الروح للجسد، وانتقالها إلى الحياة البرزخية [16]وعودة الجسد الترابي إلى أصله الذي جاء منه، وبخروج الروح من الجسد يتوقف عمل كل جهاز من أجهزة جسم الإنسان، وكل خلية من خلاياه، كما تنساح مكونات كل خلية وتختلط مواد الجسم بعضها ببعض، ويتحول البدن على حالة الجماد الذي لا يحس، ولا ينمو ولا يتغذى، ولا يتحرك، ولا يتنفس ولا يفكر، ولايعمل شيئاً.

وما أشبه الموت بالنوم، إلا أن الفارق هو بقاء الروح متصلة بالجسد عند النوم، وانفصالها تماماً عنه عند الموت.

قال تعالى: "اللَُّه يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِين مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي
قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (42)" سورة الزمر: 42.

ملائكة الموت:

إذا حضرت ساعة الإنسان أرسل الله إليه ملك الموت الموكل به لقبض روحه، قال تعالى: "قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُم إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)" سورة السجدة: 11، 12.

وقال تعالى: "وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائَِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَِّه غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)" سورة الأنعام: 93.

الموت سنة لا مفر منها:

لقد جاء هذا الجيل من البشر بعد أموات سبقونا، فقبل مائة عام لم يكن لهذا الجيل وجود على الأرض.

وجاء الموت فأخرج من كانوا قبلنا وما ترك منهم أحداً، وبعد مائة عام نكون جميعاً أهل هذا الجيل في الحياة البرزخية ولن يتمكن أحد من الفرار من الموت.

"قُلْ إِن َّالْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقَيكُمْ ثُم َّتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (8)" سورة الجمعة: 8.

وعند مجيء الأجل المحتوم لا يتأخر الموت عن أحد.

قال تعالى: "فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)" سورة النحل: 61.

وقد يسأل سائل حول العلاج الطبي، وهل يدفع الأجل المحتوم؟

والجواب:

إن الذي يصاب بمرض معين، ما أصيب به إلا وقد علمه الله، وقد علم الله أيضاً أنه سيجد الطبيب، وأن العلاج سيتوفر، وأنه سيتمكن من وضع العلاج الذي قدر الله فيه الشفاء على المرض الذي قدر الله فيه الانتهاء عند وضع ذلك الدواء علم الله ذلك فكتبه وقدره، وظن الجاهل أن العلاج قد جاء من وراء علم الله وذلك باطل، وأما الذين دنت ساعتهم فإنهم يتقدمون للموت مهما كان العلاج، ومهما كانت العناية الطبية، كما يحدث لمن يتوفى من الرؤساء والملوك.

بل إن الساعة قد تأتي الرجل الموفور الصحة والعافية، فتنقله إلى عالم البرزخ دون أي خلل جسماني أو أعراض مرضية كما يحدث في الذين يموتون موت الفجأة: ويسميه الناس (السكتة القلبية).

علامات الموت:

مقياس الموت الحقيقي هو خروج الروح من الجسد.

غير أن الروح لا تشاهد بالعين إلا أن خروجها يترك أمارات في جسم الميت، يستدل من هذه الأمارات على أن الشخص قد مات فمنها:

-1 أن تغمض عيناه.. ولكن النائم تغمض عيناه!!

-2 أن يتوقف النفس.. ولكن الغريق غير الميت يتوقف تنفسه لفترة.

-3 أن يتوقف القلب.. وقد يخفق القلب ويتوقف فترة ويعود للعمل مرة ثانية.

-4 أن يتوقف حركة (الستيوبلازم) داخل كل خلية، وتفقد كل (نواة) سيطرتها على محتويات الخلية فتنساح المواد في الخلية بعضها في بعض ويتغير تركيب كل خلية في جسم الإنسان.

وإذا كانت الأمارات الثلاثة الأولى لا تكفي للتأكد من خروج الروح، فإن هذه الأمارة الرابعة أمارة قوية جداً.

ومن حكمة غسل الميت أن الغسل بالماء قد ينبه الجسم لو كان ما زال حياً.

شبهة:

يروج بعض الجهلة:

بأنه قد أصبح في مقدور الأطباء إحياء الموتى، وذلك لأنهم يبنون مقدمتهم على باطل فيأتي الباطل في النتيجة.

يقولون؛ إن من توقف قلبه فقد مات، وليس توقف القلب إلا أمارة تحدث عند الموت وعند أي مرض آخر، كما تغمض العينان عند الموت، وعند النوم على سواء، فهل يليق بعاقل أن يقول: إنه قد أحيا ميتاً، لأنه رأى شخصاً قد أغمض عينيه فأيقظه ففتح الرجل عينيه مرة ثانية!!


الخلاصة:

*الموت هو مفارقة الروح للجسد، وانتقالها من الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية، والنوم قريب الشبه من الموت.

*يرسل الله ملائكته المكلفة بقبض أرواح العباد عند حلول الأجل.

*العلاج منا لمرض يكون باستخدام الدواء الذي قدر الله فيه الشفاء من ذلك المرض، وعلم الله قد أحاط بكل شيء، وعلم أن فلاناً سيمرض وسيجد الطبيب والعلاج فيشفى، وأن فلاناً سيمرض وسيجد الطبيب والعلاج ويموت، وأن فلاناً سيمرض ولا يجد العلاج فيموت، ولا يكون إلا ما قد كتب لله في سابق علمه.


*للموت علامات:

إغماض العينين، توقف النفس، توقف دقات القلب، توقف حركة (السيتوبلازم) في كل خلية من خلايا الجسم، وانسياح مكونات الخلايا بعضها ببعض، واختلال تكوين الجسم، وهذه هي العلامة الأقوى الدالة على الموت.

*توقف القلب وإعادته للعمل بالعلاج، أو التدليك ليس دليلاً على إحياء الأموات إلا إذا كان فتح العينين بالإيقاظ بعد غمضها بالنوم يعتبر إحياء لمن كان قد نام وغمضت عيناه!!

"سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلام عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ رَبِّ الْعَالَمِين (182)" سورة الصافات: 180 - 182.


الهوامش:
1- السيد هنا هو صاحب النفوذ على غيره بدون ولاية حكومية.

2- لأنه السائل الوحيد على وجه الأرض الصالح لإتمام العمليات الحيوية وحدوث التفاعلات الكيماوية والحيوية.
3- الجنان: القلب.
4- (أخرج هذه القصة: الترمذي) 4/ 296 والجزري والبزار.
5- (أخرج هذه القصة: ابن إسحاق في المغازي 11 و 12 من ابن هشام وأحمد
(رقم 1740) وأورد القصة القرطبي في تفسيره.
6- أخبرهما: امتحنهما.
7- الطبري، وابن حبان والحاكم، والبيهقي.
8- (في كتابه: محمد رسول الله، هكذا بشرت الأناجيل).
9- الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الاستثناء 11.
10 في كتابه: (محمد رسول الله..).
11- سفر التكوين 11: 13.
12- إنجيل متى: 21 ، 42 ، 43.
13- صحيح مسلم.
14- إنجيل متى وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا المعتمدة الآن عند المسيحيين وأما إنجيل عيسى فمفقود وهي بمثابة سير محرفة لعيسى عليه السلام.
15- إنجيل برنابا الباب: 220.
16- حياة البرزخ: هي الحياة التي تفصل بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى وهي حياة الانتظار ليوم القيامة.


منزلة علم التوحيد والأدوار التي مر بها:

منزلة علم التوحيد:

إن منزلة علم التوحيد من سائر العلوم بمنزلة الرأس من الجسد.

لأنه أصل الدين وأساسه المتين، ولأنه يبحث في أهم القضايا الأساسية التي تتعلق
بالوجود الإنساني، وهو أفضل العلوم وأشرفها: لأن شرف العلم بشرف المعلوم.

ولأن التوحيد هو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع.

وإذاً فلا يكون الإنسان مسلماً، ولا مؤمناً إلا بمعرفة علم التوحيد معرفة تظهر آثارها في الأقوال، والأفعال، وفي جميع الأحوال وحاجة العباد إلى علم التوحيد أشد من حاجتهم إلى غيث السماء، ونور الشمس الذي يذهب عنهم حنادس [17] الظلماء.

فضرورتهم إليه أعظم الضرورات.

وحاجتهم إليه مقدمة على جميع الحاجات، لأنه لا حياة للقلوب إلا به، ولا سعادة للإنسان إلا إذا عرف ربه، ومعبوده وفاطره، بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، معرفة يقينية، وعرف رسول ربه إليه وتأكد من بينات ومعجزات رسالته، وعرف الحكمة من وجوده على الأرض، وعلم بالحلال والحرام وعرف أثر كل فعل في المستقبل الذي يسير بالموت إليه.

ومن رحمة الله بعباده، ومن حكمته جل وعلا أن بعث الرسل ليكونوا معرفين به وداعين إليه، ومبشرين من آمن، ومنذرين من خالف وكفر، وجعل الله مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه.

قال تعالى: "إِذْ جَاءَتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللََّه (14)" سورة فصلت: 14.

وعلى هذه المعرفة تبنى قواعد الرسالة وكل ما يتعلق بها.

الإنسان يتكون من روح وجسم:

إن الإنسان يتكون من عنصرين: مادي ينمو ويتحرك وهو الجسم.

ثم جوهري بريء من المادة، له تلك المظاهر الخاصة من تفكير، وعلم، وإرادة
وحب، وبغض، وخلق كريم، أو ذميم، وهو الروح. ،

ولكل من هذين العنصرين رغائب، يتوق صاحبها إلى تحصيلها في أقصى حدودها، فللجسم رغائب من الطعام والشراب، إلى غيرهما من سائر الشهوات، واللذائذ الجسدية، وللروح مدارج في الترقي، يمكن أن تنال منها حظوظاً متفاوتة حسب سعيها، ومجاهدتها.

ولقد اتصلت الروح بالبدن، وفي هذا الاتصال أنواع من البلاء، فصار كثير من الناس عبيداً لشهواتهم، وانحطت بشريتهم، وإنسانيتهم، إلى درجة الحيوانية المحضة، لا يرغبون من الحياة إلا في ألوان الطعام والشراب، وسائر أنواع الشهوات، بل بعضهم ينحدر إلى ما وراء الحيوانية المعتادة بما وهبوا من التفكير، فيكشفون أنواعاً من الشهوات لا يصل إليها إلهام الحيوان لهذا جاء القرآن بتشريع روحي، قوامه الإيمان بالله، والتحقق بمعرفته معرفة يقينية، لا يشوبها شك، ولا يخالطها ريب، معرفة تسمو بالإنسان إلى ذروة الكمال، وتجعله فرداً صالحاً في المجتمع الإنساني، وتنقذه من الأزمات النفسية التي تجتاحه اليوم من جراء جهله بربه الذي خلقه، وخلق ما حوله، وسخره له.

ثم دعا القرآن الإنسان أن يجاهد نفسه، ويروضها على فعل الخير، وأن يصفي قلبه وينقيه من أدران الشهوة والهوى، والبغض، والحسد، وسائر أمراض القلب من الأخلاق الذميمة لتجتمع النفوس على المحبة والإخاء والسلام.

لا هداية للإنسان بدون علم التوحيد:

ولا يمكن للإنسان أن يهتدي إلى الحق في تصرفاته بدون علم التوحيد ولكي تتضح هذه الحقيقة هيا لندرس هذه الظاهرة العجيبة.

ينقسم العلم البشري في المدارس والجامعات إلى نوعين من الدراسة:

أ- دراسات حول علوم المادة (القسم العلمي) وتعتني هذه الدراسات بدراسة المادة ومعرفة أحوالها ثم استخدام هذه المادة لمصلحة الإنسان.

ب- دراسات حول العلوم الإنسانية (القسم الأدبي) وتعتني هذه الدراسة بالإنسان ودراسة أحواله.

وإذا كنا بدون شك نحرص على أن يوفق الإنسان في الدراسات الإنسانية، ولكي يتمكن من إصلاح نفسه، وإصلاح أمر الإنسان مقدم على إصلاح أحوال المادة.

ولكن للأسف الشديد لقد أخفق الإنسان في تحقيق هذا الهدف.

لأن ذلك ليس من حقه كما سنرى.

مقارنة بين الدراسات المادية والإنسانية والدراسات المادية (العلمية):

الدراسات الإنسانية (الأدبية):

1 – اختلفت البشرية حول قواعدها وأصولها وما يدرس في بلد يختلف عما يدرس في البلاد الأخرى وما يراه أستاذ غير ما يراه الأستاذ الآخر.

والأستاذ الواحد قد يرى نظرية في أول العام ويرى عكسها في آخر العام.

الدراسات المادية (العلمية):

1 – اتفقت البشرية حول قوانينها وقواعدها فالحقيقة العلمية التي تدرس في أنحاء الأرض واحدة مثل 5×5 = 25 هذه الحقيقة واحدة تتفق عليها البشرية.

س: ولماذا اتفقت البشرية على حقائق علوم المادة واختلفت في العلوم الإنسانية؟
الدراسات المادية (العلمية) الدراسات الإنسانية (الأدبية):

2 – إن ظهور الحق في هذه العلوم جعل البشرية تتحد في هذه العلوم.

فإذا سمعنا الآن شخصاً يقرع الباب فسنتفق جميعاً على أن شخصاً يقرع الباب وهكذا لما ظهرت حقائق العلوم المادي اتفقت البشرية عليه.

2 – إن عدم ظهور الحقائق في هذه العلوم جعل البشرية تختلف في هذه العلوم، فإذا اختفى الذي يقرع الباب، فمنا من سيقول هذا طالب، وآخر يقول فراش، وثالث يقول بل هو المدير، ومنا من يقول هو طويل وآخر يقول بل هو قصير وهكذا عندما اختفت حقائق هذه العلوم اختلف الناس فيها.

س: ولماذا ظهرت هذه الحقائق في علوم المادة ولم تظهر حقائق العلوم الإنسانية؟
الدراسات المادية (العلمية) الدراسات الإنسانية (الأدبية):

3 – وظهرت للإنسان حقائق هذه العلوم لأن الله الذي خلق الإنسان أعطاه قدرة على معرفة الحق في العلوم المادية.

3 – واختفت حقائق العلوم الإنسانية عن الإنسان لأن الله لم يعط الإنسان قدرة على معرفة الحقائق في هذه العلوم.

س: ولماذا أعطى الله الإنسان قدرة على معرفة الحقائق في علوم المادة ولم يعطها له في علوم الإنسان؟

الدراسات المادية (العلمية) الدراسات الإنسانية (الأدبية):

4 – لأن الله خلق الإنسان خليفة في الأرض وسخر له ما في السموات والأرض فأعطاه علوم الاستخلاف، التي يتمكن بها من تسخير ما سخر الله له من النعم.

4 – لأن الله خلق الإنسان خليفة في الأرض فسخر له كل شيء، بشرط واحد هو أن يكون هذا الإنسان مسخراً لأمر الله، ألا ترى أن الوزير أو المحافظ تخضع له الوزارة والمحافظة ولكنه يخضع للذي استخلفه وعينه.

وكذلك المستخلف في حانوت أو مصنع، كل ما في المصنع أو الحانوت يخضع له، لكنه يجب أن يتلقى توجيهاته من صاحب الحانوت أو المصنع.

النتيجة:

لقد سخر الله للإنسان ما في الأرض، وأعطاه العلم اللازم لاستخلاف هذه الأرض، ومكنه من معرفة الحقائق في علوم الاستخلاف (العلوم المادية).

ولكنه جعل هذا الاستخلاف تحت توجيهه وهدايته، فجعل هداية الإنسان بيده سبحانه يتلقى الأوامر من الذي خلقه واستخلفه، ولا تعرف هذه الحقائق إلا بتعليم من الخالق سبحانه.

ولذلك أرسل الله الرسل فتوحدت البشرية على هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأدوار التي مر بها علم التوحيد:

أولاً:

منذ أن قامت دولة التوحيد، على يد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بقيت عقيدة التوحيد، تستمد قدسيتها من وحي الله وتعاليم السماء، وتعتمد أول ما تعتمد عليه على كتاب الله العزيز، وكان منهج القرآن في غرس هذه العقيدة في القلوب، هو أن يعرضها على الناس عرضاً كله السهولة والبساطة، والمنطق السليم، فيلفت أنظارهم على ملكوت السموات والأرض، ويوقظ عقولهم إلى التفكير في آيات الله، وينبه فطرهم إلى ما غرس فيها من شعور بالتدين، وإحساس بعالم وراء هذا العالم المادي، وعلى هذه السنن مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس عقيدة التوحيد في نفوس أمته، لافتاً للأنظار، موجهاً للأفكار وموقظاً للعقول، ومنبهاً للفطر، ومتعهداً هذه الغراس بالتربية والتنمية، حتى بلغ الغاية من النجاح، واستطاع أن ينقل الأمة من الوثنية، والشرك، إلى عقيدة التوحيد، ويملأ قلوبها بالإيمان واليقين كما استطاع أن يجعل من أصحابه قادرة للإصلاح، وأئمة للهدى والخير، وأن ينشئ جيلاً يعتز بالإيمان، ويعتصم بالحق، فكان هذا الجيل كالشمس للدنيا، والعافية للناس حتى وصفهم الله بقوله:

"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللِّه (110)" سورة آل عمران: 110.

ثانياً:

ثم كانت الخلافات السياسية، والاتصال بالمذاهب الفكرية الأخرى، وإقحام العقل فيما ليس له فيه مجال، سبباً في العدول عن منهج القرآن الحكيم، كما كانت سبباً في تحول الإيمان من بساطته، وإيجابيته، وسموه، إلى قضايا فلسفية، وأقيسة منطقية، ومناقشات كلامية تافهة، أو ينهض به الفرد أو تحيا به الأمة، وكان من أثر العدول عن نهج الفطرة، والتأثر بالمذاهب الفكرية الطارئة، وإقحام العقل في مجال الوحي [18] أن انقسمت الأمة على مذاهب مختلفة مزقتها شيعاً وأحزاباً.

ولقد كان هذا الاختلاف، والتنازع سبباً في ضعف العقيدة الضعف العام في الفرد، والأسرة، وفي المجتمع، وفي الدولة، حتى أصبحت الأمة عاجزة عن النهوض بمسؤولياتها داخلياً وخارجياً، ولم تبق الأمة كما أرادها الله أن تكون صالحة لقيادة الأمم، وهداية الشعوب.

ثالثاً:

ثم خلف من بعدهم خلف فترت هممهم، وضعفت عزائمهم، فعكفوا على ما ألفه لهم من قبلهم من كتب العقيدة المبنية على الفلسفة، وجمدوا على ما فيها، فلا يفكرون إلا بعقول غيرهم، وهذا التقليد منعهم من إطلاق عقولهم، وعوقهم عن التفكير، فبنى كثير منهم إيمانه على التقليد، كان ذلك رغم أن الدين الإسلامي يمنع التقليد من غير وقوف على الدليل واقتناع به؛ ويندد بالمقلدين الذين يجمدون على القديم المألوف.

ولو كان غيره أهدى وأجدى.

ولقد كان مما أخذه القرآن على الكافرين جمودهم على التقليد.

قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَُّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170)" سورة البقرة: 170.

ولما كان هذا الدور هو دول التقليد، فقد قلد المتأخرون السابقين، حتى في الخرافات والأباطيل.

رابعاً:

ثم شاء الله أن تعود هذه الأمة إلى المنهج القويم، في أخذ عقيدة التوحيد من الكتاب المجيد، فنهض منها أفراد من العلماء الأعلام، يدعون إلى العمل بكتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما كان عليه السلف الصالح، ويبينون للناس أن الخير كله في الاتباع، والشر كله في الجمود والابتداع، وبذلك تنبهت العقول من غفلتها، واستيقظت من سباتها فوجدت القرآن يدعوها إلى النظر في هذه الكائنات، والتفكر في عجائب هذه المخلوقات، فنظر أولو العقول، وفكروا، فإذا بالعلوم الحديثة تكشف حقائق كانت من قبل مجهولة غير معلومة، بيد أن القرآن قد نبه عليها، وأشار إليها إشارات صريحة، من قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.

فكان ذلك تفسيراً عملياً لقوله تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)" سورة فصلت: 53.

وقوله تعالى: "وَقُلْ الْحَمْدُ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا (93)" سورة النمل: 93.

كما وجد أصحاب العقول، أن العلوم الحديثة، في مختلف اتجاهاتها، تكشف عن آيات الله التي بثها في مخلوقاته.

فإذا كان الأولون يرون أن في خلقهم حكمة تشهد بأن خالقها هو الحكيم، فإن هذه العلوم الحديثة قد جاءت لتكشف عن دقائق الحكمة الباهرة، وتقف بالإنسان أمام أسرار عظيمة من الحكمة، والإتقان.

وإذا كان الأولون يرون من السماء ونجومها قوة وإبداعاً، فلقد جاءت العلوم الحديثة لتعمق إيماننا بالقوي المبدع بما تظهر من ضخامة النجوم، وسعة السماء، وقوة النظام، وبديع الإحكام والإتقان.

وهكذا يقول الله: "إِن َّفِي السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَُّه مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَِّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَِّه وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)" سورة الجاثية: 3، 6.

الخلاصة:

*علم التوحيد رأس العلوم، فهو أصل الدين، ومواضيعه تدور حول أهم قضايا الإنسان، ولا يمكن الاستغناء عنه، وبه يتم الإسلام، ويتحقق الإيمان.

*بعلم التوحيد يتحقق الإنسان من معرفته بربه، ويغذي روحه، وقلبه وعقله، بالإيمان القائم على العلم كما يتغذى الجسد على الطعام والشراب.

*ولقد مر علم التوحيد بعدة أدوار في أمة الإسلام.

1 – الدور القرآني:

الذي يعتمد على أخذ الدليل من آيات الله المبثوثة في الكون، وعلى إيقاف الأحاسيس الفطرية والمشاعر الوجدانية، وبه أخرجت للناس خير أمة.

2 – دور الفلسفة والجدل:

وفيه حجبت الأقيسة المنطقية، والمقدمات الفلسفية والتعقيدات الجدلية بساطة الإيمان ووضوح العقيدة فيمن اشتغل بها، وقسمت المفكرين أولاً، ثم الأمة ثانية، إلى شيع وفرق وأحزاب.

3 – دور التقليد:

وذلك بعد أن فترت الهمم، وخفت ضوء العلم، وتمزقت الأمة فأخذت العقائد بالتقليد، رغم أن الإسلام يكره لأهله التقليد، ولقد أدى التقليد إلى تقليد الحق والباطل، الصالح والطالح دون تفكير.

4 – الدور القرآني مع موجبات العلوم الحديثة:

وهو الدور الذي نعيش فيه، وقد جاء هذا الدور عندما شاهد المسلمون أن معطيات العلوم الحديثة ليست إلا تدعيماً للتوحيد وكشفاً لنوع جديد من الإعجاز القرآني.
يتبع إن شاء الله.