الإيمان بالغيب.. والمادية.
الذين يؤمنون بالغيب:
لقد امتدح الله المؤمنين، بوصفهم أنهم يؤمنون بالغيب:
قال تعالى: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) " سورة البقرة: 2، 3.

والإيمان بالغيب صفة حميدة، صفة عالية لا يليق بإنسان أن يتخلى عنها فيرتكس وينتكس إلى دنيا الحيوان الذي لا يعلم شيئاً غير ما يقع في نطاق حواسه.

والإيمان بالغيب توسيع للمعرفة البشرية، والمادية تقضي على العلم، إن المادي يزعم أنه عدو للمذهب الغيبي، ويعلن في اغترار وجهالة أنه لا يؤمن إلا بما يرى، وما لم ير الشيء أن يقع خارج نطاق حواسه فهو لن يؤمن به أو يصدق، إن هذا المادي لو نظر في ما يقول برهة لامتلكه الخجل، ولعلم أنه قد اختار أسلوب الحيوانات في العلم، ورغب عن خصائص الإنسان، ما رأيه إذا ولد يتيماً: ينكر أن له أباً لأنه لم يره ولم يحسه بحواسه الخمس لأنه مات قبل أن يولد!!

وهل يثق المادي بما يقوله الإخصائيون في كل فرع في فروع الحياة بالرغم من أن كل ما يقوله الإخصائيون لا يقع داخل نطاق حواسنا، وهل يصدق المادي كل ما تحتويه كتب الدراسة والعلوم بالرغم من أنها تحتوي على أكثر من 90 % من المعلومات التي لا تقع في نطاق حواس المطلع على هذه الكتب؟!

وما رأى المادي فيما تذيعه الإذاعات وتنشره الصحف؟ هل يكذب بكل ما يقوله الناس في هذه الأجهزة لأنه لا يشم رائحة ما أخبروه به، ولا طعم ذوق ما تحدثوا به إليه ولا لمس أو رأى أو سمع صوت ما يذكرون؟!

وما رأى المادي هذا إذا جاء له أخوه أو ابنه يقول له: إن أباك قد أرسلني إليك وهو ينتظرك في المنزل، هل يصدق المادي هذا الخبر؟ وكيف يصدق أن والده في المنزل وهو لم يشم رائحة والده، أو لا طعم ذوق والده، ولا لمس والده أو رأي والده ولم يسمع صوت والده الذي بالمنزل؟

إن عليه أن ينهال ضرباً على ابنه أو أخيه هذا الذي طلب منه الإيمان بما غاب عن حسه.

كما أن عليه أن يسعى جاهداً لإغلاق محطات الإذاعة ودور النشر والمدارس والجامعات؛ لأن كل هذه المؤسسات تطلب من الإنسان أن يكون على استعداد للتصديق بما تقول، ولو كان ما تخبر به خارج نطاق حواسه.

إن هذه المؤسسات مراكز كبرى لترويج (الغيبة) بين الناس.

وعلى هذا المادي أن يطلب من كل من يريد أن يضيف إلى معلوماته شيئاً أن يكون على استعداد لأن ينقله إلى المكان أو الشيء الذي يريد أن يحدثه عنه ليرى بعينه أو يسمع بإذنه أو يشم بأنفه أو يطعم بلسانه أو يحس بجلده.

وإلا فهي (الغيبة) التي يهرب منها هذا المادي!!

إننا لو نلتزم بهذا المبدأ المادي لحكمنا على العلم والمعرفة بالإعدام ولتحولنا إلى عالم الحيوان.

لكن العاقل -بل والمادي نفسه- لا يسلك هذا السلوك فهو يعلم أن حواسه محدودة، ويعلم أن غيره قد اطلع على معلومات لم يطلع عليها هو.

فتراه يذهب إلى المدرسة أو الكلية ليسمع ما غاب عنه من المعلومات ويستمع إلى الإذاعة ليحيط ببعض ما غاب عن حواسه من أحداث، وتراه يقرأ الصحيفة أو الكتاب ليتعرف على ما غاب عنه من معلومات، وتراه يذهب إلى الأخصائي في الطب والهندسة أو الزراعة أو غيرها، ليستفيد من هذا الأخصائي الذي أحاط بما لم يحط به السائل.

إننا نؤمن بأن الحواس محدودة ونطاق عملها محدود كما نؤمن بأن الطريق الوحيد لتوسيع معارف الإنسان هو أن يكون الإنسان منفتحاً لتعلم ما غاب عنه، وبقدر ما يتعلم الإنسان من غيره بقدر ما تتسع معارفه ويزداد إدراكه لكن شرطاً واحداً يجب أن يتحقق، وهو التأكد من صدق المصدر الذي نأخذ منه علومنا.

فنحن لا نتعلم في المدرسة أو الجامعة إلا لأننا نثق في صدق معلوماتها.

وكذلك الأخصائي لا نصدقه إلا بعد أن نعرف صدقه ومعرفته، وهكذا تمكن الإنسان من توسيع معارفه، وعلى هذا تقدمت العلوم، وبهذا امتاز الإنسان على الحيوان.

لا يوجد مادي على وجه الأرض:
وإذا تأملت جيداً في الأمر فلن تجد إنساناً على وجه الأرض لا يصدق إلا بما وقع تحت الحواس، إلا أن يكون مجنوناً.

الذين أطلعهم الله على الغيب:
فإذا كان الباب الوحيد للفوز بالسعادة الدنيوية، هو أن نتعلم ما جهلناه من أمور دنيانا، فننمي معارفنا بالتعلم من الذين علموا ما لم نعلم، فإن السبيل الوحيد للفوز بالسعادة الأخروية هي أن نكون على استعداد كامل للاستفادة بعلوم الذين أحاطوا بما لم نعلم، وعرفوا ما لم نعرف من أمور المبدأ والمعاد، والحياة الأولى والآخرة.

قال تعالى: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا لمَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ (27)" سورة الجن: 26، 27.

ولكن بشرط:
إننا نقبل على رسول الله بكل حواسنا، لنتعلم منهم ، ونعرف من أمورنا الهامة ما غاب عنا، ولكنا لا نأخذ منهم هكذا، ولا نقبل منهم رأساً إننا نستوثق أولاً بأنهم حقاً رسل من عند الله، ونستعرض بينات رسالتهم، ونتفحص معجزاتهم، ثم نشهد لهم بعد ذلك بالرسالة، ونستوثق ثانياً بأن الذي نقرؤه ونتعلمه عنهم حقاً قد قالوه.

وبهذه الصفة الحميدة ينفتح المؤمن على آفاق العلوم الدينية والدنيوية، وينفتح بعلوم غيره من المتخصصين في شتى العلوم والفنون، ومن الذين اختصهم الله بالهداية والنور.

ولكن ذلك كله بعد الثقة من صدق المصدر.

وبهذا ينتفع المؤمن بأذنه التي جعلها الله للإنسان نافذة إلى علم الغيب، كما ينتفع باللغة التي جعلها الله رموزاً ليعرف بها ما غاب عن حواسه.

الخلاصة:
*الإيمان بالغيب صفة عالية وصف الله بها عباده المؤمنين.

*إن الذي لا يريد الإيمان إلا بما وقع في نطاق حواسه عليه:
أن ينكر والده إذا مات قبل أن يولد، وأن ينكر كل ما يدرسه الطلاب في المدارس والجامعات، وأن ينكر كل ما يسطره في الكتب والرسائل.
وأن ينكر كل ما يتحدث به الأخصائيون.
وأن ينكر كل ما تتحدث به الإذاعات والصحف.
وأن ينكر كل ما يحدثه به الناس وهو لم يسمع صوته، أو يشاهد صورته، أو يشم رائحته، أو يطعم ذوقه، أو يتبين ملمسه.
لأن كل ما سبق يقع 90 % منه خارج نطاق الحواس.

*أما العاقل فهو يعلم أن حواسه محدودة وأن هناك ملايين الحقائق تقع خارج نطاق حواسه، وأن عليه أن يوسع علومه، ويتخلص من جهله، والانتفاع بما علمه غيره وغاب عنه؛ ولكن بعد أن يثق في صدق المصدر الذي يتعلم منه.

*ورسل الله قد أطلعهم الله على غيوب كثيرة جهلناها وعرفوها فنحن نتعلم منهم، ولكن بعد أن نتأكد من صدق رسالتهم ونشهد لهم بأنهم حقاً رسل الله.

شبهة ماكرة:

محمد صلى الله عليه وسلم مصلح اجتماعي:

يزعم المستشرقون الذين بذلوا الجهود للكيد للإسلام والمسلمين على ترويج شبهة خادعة، وتبعهم في زعمهم الذين انخدعوا بأقوال المستشرقين، وبحثوا عن دينهم من أفواه أعداءهم.

زعموا كائدين فقالوا:
إن محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا مصلحاً اجتماعياً رأى الظلم، والجور، والفساد فثار على الظلم والجور والفساد وزعم لنفسه النبوءة حتى يتمكن من طاعة الناس له وعندها يتبعون أوامره ويتجنبون نواهيه.

محمد رسول الله:
ونحن نؤمن أن محمداً عليه الصلاة والسلام خير من أصلح أحوال الناس وهداهم إلى الصراط المستقيم في كل شئون حياتهم، ولكنه ما قدر على شيء من ذلك إلا لأنه رسول من عند الله، ولم يحفزه إلى دعوته شيء غير إرضاء الله سبحانه.

تفنيد الباطل:

لو كان الداعي لمحمد صلى الله عليه وسلم هو ما يقوله الكائدون أو الجاهلون لوجدنا في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم ما يلي:
أولاً:

أن أي داع للإصلاح لا شك أنه يتوخى دائماً أن يسلك بدعوته الطريق الذي يضمن لها النجاح.

كما أنه يبذل جهده لتعريف الذين يدعو من أجل إنصافهم وإصلاح حالهم  بالهدف من دعوته، ويسعى جهده أن يكسبهم إلى صفه، فما باله عليه الصلاة والسلام يتوجه بعدائه إلى الأوثان والأصنام يبين باطلها، وينعي على أتباعها، فيستثير بذلك كل أفراد المجتمع ضده: الظالم والمظلوم، القوي والضعيف.

ثانياً:
ما باله لم يتراجع بعد أن رأى ثمرة دعوته قد آلت إلى تعذيب كل من تبعه، أو قتله، أو تشريده إلى الحبشة غريباً عن أهله، وبعيداً عن ماله ووطنه؟ ما باله لم يتراجع وها هو ذا نفسه يؤذى، ويسب، ويرد ويطرد من كل قبيلة يتوجه بالدعوة إليها؟

ما باله لا يتراجع إن كان يريد الإصلاح وها هو ذا يرى أن دعوته ما جنت إلا تمزيق وحدة القبيلة، وتعذيب وتشريد وتغريب البعض الآخر.

ما باله لا يتراجع وقد جاء وفد من قريش يعرض عليه المال الوفير أو أن يسودوه عليهم، ولا يقطعون أمراً دونه على شرط أن يتراجع عن سب دين آبائهم وأجدادهم.

ما باله يرفض كل مساعي إصلاح شأنه مع قومه، ويرفض الرئاسة والمال، ويرضى بالعذاب والتشريد والاضطهاد من أجل شيء واحد: هو أن يعبدوا الله ويترك الناس عبادة الأوثان.

إن حالته البائسة هذه هو وأتباعه قد منعت بعض الناس من الإيمان؛ خشية أن ينالهم من العذاب ما نال غيرهم ولقد حكى الله ذلك في كتابه: "وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا (57)" سورة القصص: 57.

ثالثاً:
وإذا كان يريد الإصلاح فقط لأحوال قومه ما له ولأهل الكتاب؟ ما شأنه باليهود والنصارى؟ ولماذا هذه الحملات الفكرية والمناقشات الطويلة وماذا يفيد مثل هذا في محاولة لإصلاح أوضاع العرب الاجتماعية والأخلاقية.

رابعاً:
والآن هيا لنقف على ما ينقض هذه الفرية من أساسها فها هو ذا محمد عليه الصلاة والسلام ينتصر، ويتحقق له ما يريد، فلم هذا التشديد الكبير على أداء خمس صلوات كل يوم والوضوء لكل صلاة في أرض صحراوية يعز فيها الماء؟ وما دخل هذا لأي محاولة لإصلاح الأوضاع الاجتماعية.

إن هذه الصلاة هي الفرق بين الكافر والمسلم كما أنها أحد أركان الإسلام.

والصيام.. ما دخل فرض صيام شهر كامل في كل عام؟ هل هو مجرد محاولة للإصلاح الاجتماعي؟ كيف وهو يقرر أن من أفطر رمضان متعمداً فهو كافر خارج عن دين الله؟!

ثم ما الداعي للحج وجعله ركناً من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً؟ ولماذا هذا الحث على الاغتسال كل يوم جمعة، وبعد كل جنابة، وفي كل عيد في بيئة صحراوية يعز فيها وجود الماء؟ وما دخل هذا في محاولة الإصلاح الاجتماعي؟ ألا تكون هذه القيود عائقاً للناس ومانعاً في نظر كل عاقل من الاستجابة لدعوته؟ فلماذا هذا التشديد.

وليس الأمر بزعم الكائدين أو الجاحدين إلا محاولة للإصلاح الاجتماعي فقط؟ ثم لماذا هذا التشديد والحث الدائم على قيام الليل وصيام التطوع والإكثار من القيام بشعائر العبادة؟ ما دخل هذا كله في إصلاح الأوضاع الاجتماعية؟!!

خامساً:

وأخيراً نقول للكائدين:

إن إيمان المسلم برسول ربه إليه ما قام على غير أساس، بل إيمان المسلم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم تقوم على الحجة القاطعة والبينات الساطعة والبراهين القوية، فهي أصل الإيمان، ولا خير في إيمان من لم يعلم: لماذا آمن بأن ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق من عند الله.

قال تعالى: "أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْألَْبَابِ (19)" سورة الرعد: 19.

الخلاصة:
*هناك من المستشرقين الكائدين ومن اغتر بهم من يروج أن محمداً عليه الصلاة والسلام ليس إلا مصلحاً اجتماعياً.
*والمسلم يؤمن بأن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قام بأكبر إصلاح اجتماعي لكنه لم يأت له ذلك إلا لأنه رسول الله.
*ولو أراد محمد صلى الله عليه وسلم الإصلاح الاجتماعي فقط  لما أخذ يعادي الناس جميعاً من أعز شيء لديهم: دين آبائهم وأجدادهم، فحاربه الظالم والمظلوم، والقوى والضعف.

ولكان تراجع بعد أن بلغ الإيذاء باتباعه أشده وهجروا أهلهم وأموالهم.

ومنهم من عذب ومنهم من قتل، وفي الوقت نفسه تقدمت له العروض بالرئاسة والمال الوفير فرفض كل ذلك، لأنه لا يريد من الناس إلا أن يعبدوا الله وحده.

ولو وجد همه لهدفه الوحيد، وترك أهل الكتاب وشأنهم لوفر على نفسه المشاق.

ولحاول التسهيل على الناس في طاعته، فلا يحملهم الأمور الشاقة كالصلاة والوضوء والغسل في كل جمعة، وبعد كل جماع، والصيام والحج، وقيام الليل وغيرها من الشعائر، وبعد كل جماع، والصيام، والحج، وخاصة لمن هم في بيئة صحراوية.

*إيمان المسلم بأن محمداً رسول الله قد قام على الحجة والدليل وما أيد الله به رسوله من بينات ومعجزات.

ما خلق الإنسان عبثاً ولن يترك سدى:
قال تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَُّه الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلاَّهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)" سورة المؤمنون: 115، 116.

خلق الإنسان لحكمة:

كل إنسان يتوهم أن ربه خلقه عبثاً، ليس عليه إلا أن يجرب طمس عينيه ليرى هل خلق الله له العينين عبثاً؟ أو يحاول سد أذنيه ليعرف الحكمة من وجودهما، أو يقطع أصابعه، ليرى العبث الذي خلقت الأصابع من أجله، أو يقطع عرقاً صغيراً ليرى الآلام الشديدة تصرخ في وجهه: أيها الجاهل لقد أفسدت عمل هذا العرق، وعبثت بالحكمة التي خلق من أجلها.

وإذا تأمل الإنسان في نفسه جيداً وجد أنه بحاجة إلى أن يدرس عدة سنوات في كلية الطب ليتمكن من معرفة الحكمة من كل جزء من أجزاء جسمه، وسيعلم أن جميع كليات الطب في جميع الدول على اختلاف مبادئها وأجناسها تدرس علماً كاملاً اسمه (علم وظائف الأعضاء).

وإذا سألت ما الحكمة من وجود أي جزء في الإنسان؟ أجاب المختصون بقولهم: القيام بوظيفة لصالح الكيان الإنساني بأكمله، فالفم يأكل للجسم كله، والقلب يضخ الدماء للجسم كله وهكذا.

وإذا ما كان كل جزء في الإنسان قد خلق لحكمة.

وهذه الحكمة هي من أجل خدمة الكيان بأجمعه.

فهل يخطر على فكر عاقل بعد هذا أن الإنسان قد خلق عبثاً؟!

الجهالة الكبرى:

فما هو حكمنا على من لا يعرف الحكمة من البيت الذي يسكن فيه، أو الفراش الذي يرقد عليه، أو الملابس التي يلبسها؟ لا شك أن موقفنا من هذا الجاهل هو التعجب والسخرية من بلادته وجهله!!

لكن هناك من هو أجل منه.

إن جهالة الذي لا يعرف الحكمة من عينيه أو فمه أو أذنيه أو رأسه أكبر بكثير من الذي يجهل الحكمة من المنزل، أو الفراش أو الملابس.

ومع ذلك فهناك جاهل جهالته أكبر من كل جهالة.

ذلك هو الجاهلي الأكبر الذي يجهل الحكمة من كيانه بأجمعه، ووجوده بأكمله!!

الحكمة من خلق الإنسان:

إن الكافرين لن يتخلصوا من حياة الجهالة الكبرى، لن يعرفوا الحكمة من وجودهم، فتراهم على علم بالحكمة من أصغر جزء في الإنسان، لكن الحكمة من وجود هذه الأجزاء المحكمة المنسقة هم بها جاهلون، لأن الحكمة من أي مصنوع لا تعلم إلا بتعليم من الصانع أو رسوله، فتراهم قد تاهوا بين سؤالين.

هل نأكل لنعيش؟

أم نعيش لنأكل؟

أما المسلم فهو يعلم أن الحكمة من وجوده وخلقه هي طاعة ربه وعبادته فما من مصنوع يصنع إلا ليسير وفق إرادة صانعه ذلك هو الأصل.

قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِن َّوَالإنْسَ إَلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِن َّاللََّه هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)" سورة الذاريات: 56، 58.

ولقد شاء الله أن تكون الصورة التي نعبده عليها، وتتحقق بها طاعاتنا له أن نكون خلفاء له في أرضه نستخلفها وفق مشيئته ونعمرها وفق إرادته، ونعمل فيها ما يدعونا إلى عمله، ونترك كل ما ينهانا عن فعله.

قال تعالى: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً (30)" من سورة البقرة: 30.

وبهذا الاستخلاف، اختبار لطاعتنا له فيما استخلفنا عليه، ويتميز المؤمنون الطائعون من العصاة الكافرين، وتنتهي المدة المحددة للاستخلاف وقد كسب الإنسان لنفسه الخير ورضا خالقه، أو الشر وغضب سيده ومالكه.

قال الله تعالى: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَملاً" (7) سورة الكهف: 7.

وبعد انتهاء المدة المحددة للإنسان في دار العمل، والاستخلاف يسترد الله منه كل ما استخلفه عليه، ويسترجع منه كل ما خوله له.

قال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ (94)" سورة الأنعام: 94.

والذي خلق بني الإنسان واستخلفهم في أرضه، يخرجهم منها بعد انتهاء المدة المحددة، فيموت الناس، لينتقلوا إلى دار الجزاء، ويعقبهم قوم آخرون وهكذا حتى تنتهي الأجيال البشرية ويأذن الخالق ببدء الحساب.

قال تعالى: "قُلْ اللَُّه يُحْيِيكُمْ ثُم َّيُمِيتُكُمْ ثُم َّيَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِن َّأَكْثَرَ النَّاسِ َلا يَعْلَمُونَ) 26 (وَله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)" الجاثية: 26، 27.

لن يترك الإنسان سدى:

وإذا كان كل جزء منا يشهد أنه لم يخلق عبثاً وأن الله قد خلق الإنسان لحكمة، وإذا كانت الحكمة من خلق الإنسان لم تظهر جلية في هذه الحياة الدنيا.

فإن العقول لتستنتج أن الحكمة لابد ظاهرة في حياة أخرى هي تلك الحياة التي تسير إليها أجيال البشر جيلاً بعد جيل.

وما أشبه هذه الحياة الدنيا بحياة الجنين في بطن أمه.

فلو أن ذلك الجنين تفكر في نفسه:

لماذا تصنع لي العينان اللتان لا انتفاع بهما الآن (في رحم الأم)؟ لماذا تصنع لي الرئتان اللتان لا قيمة لهما الآن (في رحم الأم)؟ بل لماذا تصنع لي اليدان والقدمان والمعدة والأمعاء والكبد والكلى والأذنان والأنف والفم ولا فائدة لي الآن (في رحم الأم) من كل هذا التكوين؟!

لكنه لو انتظر حتى يخرج من عالم الرحم إلى عالم الأرض لعرف أنه ما من شيء إلا وله حكمة، غير أنها غابت عنه في عالم الرحم، ولو أنه كان للرحم وعي أو إدراك لأخذ يتساءل: أين ذهب الجنين عند ولادته؟ وسيجد الجواب على حسب علمه المحدود أنه قد ذهب سدى، لكنه لو قدر له أن يرى ذلك الجنين وهو يسير في الأرض ويعمرها لعرف أن ذلك الجنين ما ذهب سدى.

ألا ما أشبه طورنا في هذه الحياة الدنيا، بطور حياتنا في رحم الأم وما أشبه الموت بالولادة، وما أشبه الخروج من الدنيا بالخروج من الرحم!!

قال تعالى: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُم َّمِنْ نُطْفَةٍ ثُم َّمِنْ عَلَقَةٍ ثُم َّمِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُم َّنُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُم َّلِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا (5)" سورة الحج: 5.

وإذا كان العاقل يتنزه عن أن يعمل شيئاً عبثاً، كما يتنزه أن يصنع الشيء ويحسن تكوينه ثم يعود ليهدم ما بنى، وينقض ويحطم ما أعد ورتب، إن ذلك العمل يتنزه عنه كل عاقل ومن باب أولى؛ فخالق العقل والعقلاء لا شك منزه عن كل العبث، وترك الأمور تذهب سدى.

"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَُّه الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)" سورة المؤمنون: 115، 116.

ولو كان الخالق ينوي أن يذهب الإنسان سدى.

فلماذا ينشئه من لا شيء؟

لقد جاء حين على الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً، ولو كان مصير الإنسان هو الذهاب سدى لما كان هناك داع لتنشئة الإنسان من تراب، وتصويره من نطفة، وتسويته في أحسن تقويم.

فلقد كان في الأصل سدى.

قال تعالى: "أيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثمََّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)" سورة القيامة: 36 - 40.

الثواب والعقاب:

وإذا كان الله يتنزه عن فعل العبث، كما يتنزه عن ترك الأمور تذهب سدى فإنه سبحانه قد أعد للإنسان حياة بعد هذه الحياة، كما أعد له حياة على الأرض بعد حياته في بطن أمه، وحياته على الأرض هي مقدمة لحياته الأخرى، كما أن حياة الرحم مقدمة لحياة الأرض، فما يزرعه الإنسان في الدنيا يحصده في الآخرة.

قال تعالى: "وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرةًَ وَلا كَبِيرَةً إلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)" سورة الكهف: 47 :49.

وقال تعالى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَه (8)" سورة الزلزلة: 7، 8.

مسخ الفطرة البشرية:

والآن ما رأيك في الذي يحول السيارة إلى حانوت؟!
وما هو رأي العقلاء في الذي يحول عينه إلى أصبع؟!
وما رأي الناس في الذي يحول البندقية إلى حطب؟!
وما هو رأي العاقل في الذي يحاول تحويل الأذن إلى فم ليأكل منها؟!

الجواب:

لا شك أن كل عاقل يسخر من أي إنسان يحاول أن يستخدم أي شيء في غير ما صنع من أجله أو في غير ما خلق من أجله.

لأن تلك المحاولة ليست إلا مسخاً وإفساداً وخسراناً لذلك الشيء الذي أسيء استخدامه.

وهل تعلم الآن أيها الأخ القارئ أن الكافر لا يحاول تغيير الحكمة من أنفه أو فمه أو أذنه أو سيارته أو بندقيته، بل يقوم بتحويل الحكمة من وجوده بأجمعه، وحياته بأكملها.

لقد خلق الله الناس لعبادته، لكن الكافرين يغيرون الحكمة التي خلقهم الله من أجلها؛ فيتكبرون عن عبادته فيخسرون أنفسهم ويمسخون فطرتهم غير أن نتيجة هذا التغيير تكون هناك في دار الجزاء، حيث يمسخ الكفار أنفسهم في نار جهنم.

قال تعالى: "الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذْ الأغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسلا سَل يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)" سورة غافر: 70 - 72.

"وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)" سورة الأعراف: 9.

العبادة الاستخلاف:

فأنت ترى أيها القارئ أن الصورة التي أراد الله منا أن نعبده بها هي أن نكون خلفاء له في أرضه، نعمرها، ونزرعها، ونستثمر خيراتها، ونسير عليها وفقاً لمشيئته وتبعاً لهداه.

فليست العبادة صلاة وصوماً فحسب، ولكن العبادة أيضاً عمل، وبناء، وجد، وجهاد، واستخلاف لا في الأرض.

وإن أي توجيه للإنسان إلى غير ما خلقه الله من أجله ليس إلا مسخاً للبشرية.

العبادة أنواع مختلفة:

والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويشمل كل ما يقصد به العبد وجه الله سبحانه من فعل واجب أو مندوب أو مباح أو ترك محرم أو مكروه.

-1 فمن العبادة أداء الشهادتين.

-2 ومن العبادة أداء أركان الإسلام كما بين الله ورسوله.

-3 ومن العبادة الدعاء والاستعانة والمقصود من هذا دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه أحد غير الله، أما من استغاث بمن يملك سبباً من الأسباب التي قضى الله إجراء الخير أو دفع الشر بها فلا يكون عابداً لغير الله كاستغاثة الغريق بالسباح.

-4 الاستعاذة فلا تكون إلا بالله.

-5 الإنابة والتوكل على الله.

قال تعالى: "ذَلِكُمْ اللَُّه رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ".

-6 الخوف والرهبة.

قال تعالى: "فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ".

الخوف الفطري كالخوف من الحية والجوع وغيرها فليس عبادة.

-7 النذر لا يكون إلا لله.

-8 الذبح لا يكون إلا لله.

-9 الحكم لا يكون إلا لله.

ولقد خلقنا الله لعبادته فيجب علينا أن نعبده سبحانه: "وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا".

الخلاصة:
*كل جزء في جسم الإنسان قد خلق لحكمة تشهد بأن الله ما خلق الإنسان عبثاً.
*ليس الجاهل الأكبر من لا يعرف الحكمة من ملبسه، أو مسكنه، أو فراشه، أو فمه، أو أنفه، أو عينه، بل الجاهل الأكبر من يجهل الحكمة من كيانه بأجمعه، ووجوده بأكمله.
*جهل الكفار بالحكمة من خلقهم فتاهوا في حيرة بين سؤالين: هل نأكل لنعيش؟ أم نعيش لنأكل؟ ولكن المسلم يقول: إن ربه خلقه ليعمل وفق إرادته وإن إرادة الله قد شاءت أن يكون الإنسان خليفة لربه على أرضه، يستخلفها وفق هدى ربه، فالمؤمن يأكل ليعيش، ليعمل في الأرض وفق هدى ربه، ليرضى عنه فيفوز بالجنة وينجو من هذا النار.
*ظهور أن الإنسان قد خلق لحكمة، وغياب هذه الحكمة في الدنيا شاهد بأن هناك حياة أخرى تظهر فيها الحكمة من خلق الإنسان كاملة جلية، كما تظهر الحكمة من خلق العينين والرئتين والفم والمعدة والقدمين بالنسبة للجنين، بعد خروجه من عالم بطن أمه إلى عالم الأرض.
*إذا كان العاقل يتنزه عن إهدار ما أعده، وكونه، وتضييع ما صنع سدى، فإن خالق العقل والعقلاء يتنزه عن هذا من باب أولى، وذلك يشهد بأن خالقنا لن يتركنا بعد موتنا نذهب سدى.
*لو كان لله إرادة في تضييع الإنسان سدى، فلقد كان قبل وجوده ضائعاً لا قيمة له، ولما كان هناك مبرر لخلق الإنسان وتصويره في أحسن تقويم وأعدل صورة.
*لقد شاء الخالق أن تكون الدنيا مقدمة لحياة الآخرة، كما أن الحياة في الرحم مقدمة للحياة الدنيا فكل ما يزرعه الإنسان في الدنيا يحصده في الآخرة.
*إذا عرفنا أن تحويل أي شيء عما صنع له وخلق لأجله ليس إلا إهداراً له، ومسخاً وتضييعاً، فكذلك كل محاولة كافرة تسعى لجر الإنسان بعيداً عن عبادة ربه، واستخلاف أرضه وفق مشيئته ليس إلا إهداراً وتضييعاً ومسخاً للإنسان، ويظهر ذلك جلياً عندما يمسخ الكافرون أنفسهم في نار جنهم.
*ليست العبادة صلاة وصياماً فحسب، بل هي أيضاً جد وجهاد وسعي وعمل وبناء وعمران وسير في الأرض بما يرضي الله.
وهي أنواع كثيرة، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
يتبع إن شاء الله.