مناسباتنا الدينية
وسياسة التفريغ من المضمون
د/ خالد سعد النجار
-------------------
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تهل علينا في كل عام من شهر ربيع الأول مناسبة مولد الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حيث تُعطل المصالح الحكومية في يوم أجازة رسمية، وينتشر باعة «حلوى مولد النبي» في كل الأماكن، ويقبل الناس علي شرائها وتناولها بشغف منقطع النظير، والكثيرون يخصون يوم 12 ربيع الأول بالتوسعة على الأهل وطبخ اللحم وما لذ وطاب من المأكولات، والمتدينون منهم يحرصون على المشاركة في الأمسيات الدينية التي تقام في هذا اليوم حيث تُتلى في المساجد آيات من الذكر الحكيم وتُنشد التواشيح ويتبارى البلغاء في إلقاء فصيح الكلمات حول حياة النبي العدنان.

ذكرياتي في الطفولة كانت لا تخرج عن هذا الإطار العام لتلك المناسبة، أما في مدرستي الابتدائية فكانت الاستعدادات لهذه المناسبة تنطلق قبلها بأيام عديدة لتجهيز يوم احتفالي يتشارك فيه التلاميذ بين مجموعات الأناشيد، وإلقاء الخطب المعدة سلفاً، وبعض التمثيليات وتعليق الزينات، وغيرها من الأنشطة الاحتفالية، وأذكر أن معلمي -لعذوبة صوتي- كان يخصني بتلاوة الآيات الشهيرة من سورة الأحزاب في بداية الحفل المدرسي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}، ثم يقوم كبير معلمي اللغة العربية بإلقاء خطبة بليغة عن حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكانت خطبة طويلة، وكنا نتململ منها نحن الصغار، ولا نفهم من مفرداتها الكثير، فلقد كانت بمثابة استعراض للفصاحة والبلاغة أمام هيئة التدريس وضيوف الحفل من قيادات الإدارة التعليمية، وينتهي هذا اليوم بذكريات التخمة والحلوى والراحة من معاناة الاستذكار إلى أجواء الاحتفال والسمر.

فلما كبرنا وعقلنا وقرأنا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وطالعنا السنن، وقفنا على روائع ومواقف خالدة في حياة سيد البشر، وتعرفنا على رسول الله النبي والقائد والمحارب والزوج والأب والصديق والمعلم والناصح والعابد والبليغ... في منظومة بشرية رائعة لا تجد لها مثيلاً بين عظماء الإنسانية.

وبالتالي أحسسنا بمدى الاستهتار الذي يخيم على الأجواء التعليمية والتربوية في حياتنا، واستشعرنا مرارة الفقد لهذه المُثُل والنماذج الرائعة التي نحن في أمس الحاجة إليها، بل تبين لنا أن الاهتمام بالقشور الاحتفالية وإهمال المضامين السلوكية كانت خدعة أو فخ وقعنا فيه.

وهذا جر علينا ويلات وكوارث من قبيل تنظيم احتفالات بدعية أبعد ما تكون عن نهج الدين، وبالغنا خلالها في المأكل والمشرب والمديح، بل تجاوزت بعض المدائح النبوية حد الاعتدال إلى الشرك، فألصق البعض صفات ربوبية للنبي، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

كنا نخرج من مناسبة المولد النبوي خالي الوفاض من نور النبوة، وكان حظنا اللهو والفرح بذكرى ميلاد رجل لا نعرف عنه إلا النذر اليسير، وانقلبت المناسبة من محطة تربوية نتعرف خلالها على شخصية الرسول وقيمهُ وتعاليمهُ المباركة إلى ساحة للملذات والتجاوزات.

أنا لا أمهد بهذه الأسطر إلى تغيير نمط الاحتفال بمناسبة مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فجمهور العلماء يقولون ببدعيته هذه الاحتفالات، وعلى مر التاريخ الإسلامي الأغر لم نجد أحداً من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من الثقات احتفل بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما انتشرت هذه البدع مع انتشار الجهل، وسيطرة الدولة العبيدية (الفاطمية) الشيعية على أنحاء من العالم العربي، فرسخوا هذه المظاهر الاحتفالية تملقاً للشعوب السُّنية، ودعوى شكلية منهم لمحبة النبي وآل بيته.

لكن أعود وأنبه أن ذكرى المولد النبوي لابد وأن تتجاوز حدود الشكليات والملذات، وأن تكون مناسبة دعوية راقية تقترب فيها الأجيال أكثر من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلابد أن ننجح إعلامياً وسلوكياً في التعريف برسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المستوى المحلي والعالمي، وأن يكون حظ البشر في هذه المناسبة زيادة معرفة بالسنة المحمدية وصاحبها.

إن أمامنا العديد من القضايا الهامة التي تمس واقع علاقتنا بالنبي العدنان -صلى الله عليه وسلم- وهديه المبارك للأنام، فبداية لابد أن نكون على قناعة تامة بأن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تنبثق من المعرفة الجيدة بشخصه وهديه، وامتثالها في حياتنا واقعاً عملياً، وإلا تحولت إلى محبة فارغة من مضمونها، وصار حظنا منها المظهر وليس الجوهر، ومن هذا المنطلق لابد أن تكون ذكرى المولد النبوي فرصة سانحة لتسليط الأضواء أكثر على السيرة النبوية والسنن المصطفوية، وأن تكون فرصة لزيادة المعرفة بين الأجيال والتي تفرز زيادة المحبة الباعثة على الامتثال العملي لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر.

وهذا الجهد المعرفي يقع بلا شك على عاتق وسائل الإعلام والدعاة لمحو الأمية الدينية عن السيرة النبوية والسنن القولية والفعلية، فلا يُنكر مُنصف أن إهمال القضية الإعلامية والمعرفية أفرز أجيالاً تُعاني من أميَّة دينية مزمنة لا يعرف فيها شبابنا إلا النذر اليسير عن روعة هذا الدين، بل أنشأت أجيالاً لا تعرف الفرق بين مسند أحمد ومعجم الطبراني وسنن الترمذي، فكيف بالله عليكم ستستقي العلم النافع من هذه الكنوز والموسوعات الحديثية.

ومن القضايا الملحة أيضاً توظيف السنة النبوية في حل القضايا المعاصرة، انطلاقاً من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- « تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض» [صحيح الجامع: 2937]، وهذا فقه دقيق في غاية الأهمية، والمسئولية تقع فيه على علمائنا الأجلاء من أهل الخير والصلاح والنباهة، وإن كان علماء السلف ما قصروا في هذا الجانب خدمة لأهل عصرهم، واستنبطوا الحلول للمسائل المستجدة في زمانهم، فأولى بعلمائنا أن لا يدخروا وسعاً في هذا الجانب المعاصر والهام، فمعين السنة متدفق لا ينضب، وعندنا من القضايا المعاصرة ما تحتاج لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، خاصة وأننا في عصر لا نعيش فيه بمفردنا، وتشابكت أحداثه، وتعقدت ظروفه، وهناك من التيارات الخارجية المعادية التي لا تريد أن تقوم لنا قائمة، فالاعتبار بفقه الأولويات صار ضرورياً، ومن الكياسة أن نحدد ما هو مهم وما هو أهم، وسُنَّة التدرج لابد ألا تغيب عن اعتباراتنا وتقديرنا للمواقف.

أما الطنطنة حول التنازلات وهدم ثوابت الدين، وغيرها من الشعارات الحماسية، فهذا محض تحجر لن يخدم قضايانا في شيء، فما من شك أن لكل عصر ظروفه ولكل مرحلة أحكامها.. وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخفَّى وأصحابه في دار الأرقم إبان مولد الدعوة الإسلامية بمكة، وسياسته في عهد الاستضعاف المكي غير عهد التمكين المدني، بل في غزوة الأحزاب أراد أن يُصالح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدي قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراودة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال: (إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة).

والكثير والكثير من المواقف التي تتبنى فقه المرحلة، وتحدد الأولويات ضمن الأُطُر العامة للشريعة الإسلامية التي جاءت لحفظ مصالح الناس لا لتعطيلها.

ومن القضايا الملحة في هذه المناسبة حوادث التهجم على شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء في الدانمرك برسوم كاريكاتورية مُسيئة أو أمريكا أو غيرها من دول الغرب..
إنها نقطة إنذار هامة يجب أن نستفيق من خلالها، وألا يكون حظنا منها مجرد الاستهجان والاستنكار والشجب والإدانة..

لابد أن نكون صُرَحَاء مع أنفسنا وأحوالنا، ونتلمس مكمن الجرح ولا نخاف من مواجهة واقعنا، فما تجرأ علينا الأعداء إلا لضعفنا على كافة المستويات الدينية والتعليمية والاقتصادية والحربية... فهان قدرنا لما ضعفت شوكتنا، ولو كنا نستطيع الرد العملي الفوري لما حدَّثت أحدٌ نفسهُ الشريرة بالخوض في رموزنا وثوابتنا.

وهذا يدعونا لأن نفكر في مراجعة أوراقنا جيداً، ونعلم أن جُرم الاعتداء على شخص الرسول الكريم لنا فيه حظاُ وعلينا فيه بعض التبعة، بضعفنا وتخاذلنا حتى صرنا لا في العير ولا في النفير.

تلك كانت بعض الهموم والشجون حول مناسبة مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذه المناسبة التي تحتاج منا لحسن التوظيف، والاستفادة من نبعها المُتدفق، لا أن يصير حظنا منها ماراثونيات احتفالية فارغة، دون فائدة تُذكر ولا مواقف تعدل، ولا محاسبة ومراجعة لأحوالنا التي باتت لا تُرضي اللهَ تعالى ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
-----------------------
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com