الباب الثالث عشر: في الصمت وصون اللسان والنهي عن الغيبة والسعي بالنميمة ومدح العزلة وذم الشهرة وفيه فصول
-----------------------------------------------
الفصل الأول في الصمت وصون اللسان
قال الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، وقال تعالى: (إن ربك لبالمرصاد)، واعلم أنه ينبغي للعاقل المكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه لأنه قد يجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه بل هذا كثير وغالب في العادة والسلامة لا يعادلها شيء.

وروينا في صحيحي البخارى ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو ليصمت".

قال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الكلام إذا أراد أحدكم الكلام فعليه أن يفكر في كلامه فان ظهرت المصلحة تكلم وإن شك لم يتكلم حتى تظهر.

وروينا في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعرى رضي الله تعالى عنه قال قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: "مَنْ سلم الناس من لسانه ويده".

وروينا في كتاب الترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك" قال الترمذي حديث حسن.

وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" والاحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة وفيما أشرت كفاية لمن وفقه الله تعالى، واما الآثار عن السلف وغيرهم في هذا الباب فكثيرة لا تحصر.

لكن ننبه على شيء منها:
فمما جاء من ذلك ما بلغنا أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصر وقد وجدت خصلة إن استعملها الانسان سترت العيوب كلها، قال: وما هي؟ قال: حفظ اللسان.

وقال الامام الشافعي رضي الله عنه لصاحبه الربيع: يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها، وقال بعضهم: مثل اللسان مثل السبع إن لم توثقه عدا عليك ولحقك شره.

ومما أنشدوه في هذا الباب:
( احفظ لسانك أيها الأنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان )
( كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان )

وقال الفارسي:
( لعمرك ان في ذنبي لشغلا ... لنفسي عن ذنوب بني أمية )
( على ربي حسابهم أليه ... تناهي علم ذلك لا إليه )

وقال علي رضي الله عنه: إذا تم العقل نقص الكلام، وقال أعرابي: رب منطق صدع جمعاً وسكوت شعب صدعاً، وقال وهب بن الورد: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس.

وقال علي بن هشام رحمة الله تعالى عليه:
( لعمرك أن الحلم زين لأهله ... وما الحلم الا عادة وتحلم )
( إذا لم يكن صمت الفتى عن ندامة ... وعي فإن الصمت أولى وأسلم )

وقال ابن عيينة:
من حرم الخير فليصمت فإن حرمهما فالموت خير له وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه عليك بالصمت إلا من خير فانه مطردة للشيطان وعون على أمر دينك.

ومن كلام الحكماء:
مَنْ نطق في غير خير فقد لغا ومَنْ نظر في غير اعتبار فقد سها ومَن ْسكت في غير فكر فقد لها وقيل لو قرأت صحيفتك لأغمدت صفيحتك ولو رأيت ما في ميزانك لختمت على لسانك.

ولما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت طال صمته فقيل له ألا تتكلم؟ فقال الكلام صيرني في بطن الحوت.

وقال حكيم:
إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم.

وكان يقال من السكوت ما هو أبلغ من الكلام لأن السفيه إذا سكت عنه كان في اغتنام، وقيل لرجل بم سادكم الأحنف فو الله ما كان بأكبركم سناً ولا بأكثركم مالاً؟ فقال: بقوة سلطانه على لسانه.

وقيل:
الكلمة أسيرة في وثاق الرجل فإذا تكلم بها صار في وثاقها، وقيل: اجتمع أربعة ملوك فتكلموا، فقال ملك الفرس: ما ندمت على ما لم أقل مرة وندمت على ما قلت مراراً، وقال قيصر: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت، وقال ملك الصين: ما لم أتكلم بكلمة ملكتها فإذا تكلمت بها ملكتني، وقال ملك الهند: العجيب ممَّنْ يتكلم بكلمة إن رفعت ضرَّت وإن لم ترفع لم تنفع.

وكان بهرام جالساً ذات ليلة تحت شجرة فسمع منها صوت طائر فرماه فأصابه فقال ما أحسن حفظ اللسان بالطائر والانسان لو حفظ هذا لسانه ما هلك.

وقال على رضي الله تعالى عنه: بكثرة الصمت تكون الهيبة، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع وإن أكثرت منه قتل، وقال لقمان لولده: يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك يقول اللسان كل صباح وكل مساء للجوارح كيف أنتن فيقلن بخير إن تركتنا.

قال الشاعر:
( احفظ لسانك لا تقول فتبتلي ... إن البلاء موكل بالمنطق ).