لطائف من خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي (18)
1- { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } مريم 30-33.
ولم يتكلم عيسى ابن مريم وهو في المهد إلا بما قاله الحق في القرآن الكريم قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرّئ أمه الصدِّيقة، ذلك أنّهم اتهموها في أعز شيء لديها، ولذلك لم يكن ليجدي أي كلام منها.
وإنقاذاً لها أبلغها الحق أن تقول: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } مريم 26.
2- ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) طه 13.
مادة: سمع. منها: سمع واستمع وتسمَّع.
فكلمة سمع: أي مصادفة فأنت تسير في الطريق تسمع كل ما يصل إلى أذنك منه ما يُهمك وما لا يهمك، ليس لك خيار في ذلك، لأنه ليس على الأذن حجاب يمنع السمع كالجفْنِ للعين حين ترى منظراً لا تحبه ممكن أن تغمض.
إنما: استمع أنْ تتكلَّف السماع، والمتكلم حُر في أنْ يتكلم أو لا يتكلم.
وتسمَّع. أي: تكلّف أشدّ تكلّفاً لكي يسمع.
لذلك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حين يخبر أنه ستُعم بلوى الغِنَاء، وستنتشر الأجهزة التي ستشيع هذه البلوى، وتصبها في كل الآذان رَغْماً عنها يقول:
" مَنْ تسمَّع إلى قَيْنة صب الآنك في أذنيه " أي: تكلَّف أنْ يسمع، وتعمَّد أن يوجه جهاز الراديو أو التلفاز إلى الغناء، ولم يقُل: سمع، وإلاّ فالجميع يناله من هذا الشر رَغْماً عنه.
وهنا قال تعالى: ( فَاسْتَمِعْ ) أي: عليك أنْ تُجنِّد كل الحواسّ لكي تسمع، وتستحضر قلبك لتعي ما تسمعه، وتنفذ ما طلب منك؛ لذلك حين تخاطب صاحبك فتجده مُنْشغِلاً عنك تقول: كأنك لست معنا. لماذا؟ لأن جارحة من جوارحه شردتْ، فشغلتْه عن السماع.
3- ( وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) طه 115.
ما الذي اسقط آدم في المعصية؟
إنها الغفلة أو النسيان.
وهل النسيان معصية حتى يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } طه 121.
نعم النسيان كان معصية في الأمم السابقة.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
4- ( ...فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) طه117.
هنا لابد أن نتساءل: لماذا لم يقل فتشقيا؟
إن هذه لفتة من الحق سبحانه وتعالى إلى مهمة المرأة ومهمة الرجل في الحياة.
فمهمة المرأة أن تكون سكنا لزوجها عندما يعود إلى بيته، تذهب تعبه وشقاءه.
أما مهمة الرجل فهي العمل حتى يوفر الطعام والمسكن لزوجته وأولاده، والعمل تعب وشقاء وحركة.
وهكذا لفتنا الحق تبارك وتعالى إلى أن مهمة الرجل أن يكدح ويشقى ثم يأتي إلى أهله فتكون السكينة والراحة والاطمئنان.
فالشقاء كان لآدم فقط.
إذا كانت هذه هي الحقيقة فلماذا يأتي العالم ليغير هذا النظام؟
نقول إن العالم هو الذي يتعب نفسه ويتعب الدنيا، فعمل المرأة شقاء لها فمهمتها هي البيت وليس عندها وقت لأي شيء آخر، فإذا عملت فذلك على حساب أولادها وبيتها وزوجها..
ومن هنا ينشأ الشقاء في المجتمع فيضيع الأولاد ويهرب الزوج إلى مكان فيه امرأة تعطيه السكن الذي يحتاج إليه وينتهي المجتمع إلى فوضى..
5- ( ...وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) طه 121- 122.
إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضاً إلى قوله الحق: ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ ) إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية؛ لأن عصيانه كان أمراً طبيعيًّا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل.
إذن لا يصح لنا أن نقول: كيف يعصي آدم وهو نبي؟!
نقول: تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين: بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه.
والذين يقولون: إن آدم كان مخلوقاً للجنة، نقول لهم: لا.
افهموا عن الله، لأنه يقول: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ).
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض.
إنها كانت تدريباً على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وقبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة.
6- ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ) الأنبياء 100.
معلوم أن الزفير هو الخارج من عملية التنفس، فالإنسان يأخذ في الشهيق الأكسجين، ويُخرِج في الزفير ثاني أكسيد الكربون، فنلحظ أن التعبير هنا اقتصر على الزفير دون الشهيق؛ لأن الزفير هو الهواء الساخن الخارج، وليس في النار هواء للشهيق، فكأنه لا شهيقَ لهم، أعاذنا الله من العذاب.
7- ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ... ) الحج 18.
جميع الكائنات حكم عليها الحق بأنها كلها تسجد خاضعة مسخرة.
أما الإنسان فقد قال الحق عنه: ( وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ )
إذن فالانقسام جاء عند من؟ لقد جاء الانقسام عند الإنسان.
لماذا؟
لأن الله خلق الإنسان مختاراً.
ألم يكن من الممكن أن يخلق الإنسان مسخراً كبقية الكائنات؟ هذا صحيح، لكن الحق سبحانه كما أراد أن يثبت القدرة والقهر بالتسخير، أراد أن يثبت المحبوبية بالاختيار.
فلماذا - إذن - لا يفعل الإنسان كل أفعاله وهي منسجمة مع الإيمان؟ لأن للشهوة بريقاً سطحياً، وهذا البريق السطحي يجذب الإنسان كما تجذب النارُ الفَرَاش.
إن الحماية هي في منهج الله " افعل " و " لا تفعل " فمن يرد أن ينقذ نفسه من كيد الشيطان وكيد النفس فعليه أن يخضع له.
8- ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) الحج 35.
(وَجِلت): يعني خافت، واضطربت، وارتعدت لذكر الله تعظيماً له، ومهابة منه.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: { أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }الرعد 28.
فمرة يقول: { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. } ومرة: { تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } لماذا؟
لأن ذكر الله إنْ جاء بعد المخالفة لا بُدَّ للنفس أنْ تخاف وتَوْجَل وتضطرب هيبةً لله عز وجل، أما إنْ جاء ذِكْر الله بعد الشدة فإن النفس تطمئنُّ به وتأنَسُ لما فيها من رصيد إيماني تركَنُ إليه عند الضيق والبلاء، كقول موسى عليه السلام: { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }.
9- ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ... وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ ) المؤمنون 1-4.
حين قال سبحانه: والذين هم للزكاة فاعلون، ليس معناها مجرد أداء زكاة، بل تعني أن يتحركوا في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون منه الزكاة، وإلا فما الفارق بين المؤمن والكافر؟ الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله الله، أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت نفسه، ويقوت من يعول ويبقى لديه فائض يعطيه للضعيف؛ فكأن إعطاء الضعيف كان في باله ساعة الفعل.
10- ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) المؤمنون51.
كأنه سبحانه يقول: اسمعوا كلامي فيما آمركم به، فأنا عليم وخبير بكل ما يُصلحكم؛ لأنني الخالق وأعلم كيف تستقيم بنيتكم، ولن يتم ذلك إلا إذا أخذتم المطعم من الحلال.
وكما قلنا: إن صانع الآلة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها، وإلاّ تعطلتْ عن أداء مهمتها.
فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أنْ تبدأ بالمطْعَم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلال، فيحدث انسجاماً بين هذه الذرات، وتعمل معاً متعاونة فتعينك على الصالح.
فإنْ دخل الحرام إلى طعامك وتلوثتْ به ذراتُك تنافرتْ وتعاندت، كما لو وضعتَ للآلة وقوداً غير ما جُعِل لها.
وفي الحديث الشريف: " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وقال: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.. } البقرة 172.
ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟ ".
نعم، كيف يُستجاب له وهو يدعو الله بجهاز إرسال فاسد مُشوّش دَنَّسه وخالطه الحرام؟
وفي حديث سيدنا سعد رضي الله عنه لما قال لرسول الله: يا رسول الله ادْعُ الله لي أنْ أكون مُستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا سعد أطِبْ مطعمك تكُنْ مُستجاب الدعوة ".