(301) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث رجلاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل رجل ذا جدة لم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين)، وهذا قاله عمر ولم يخالفه مخالف من الصحابة، وإنما عزم على ذلك -وإن كان تارك الحج إذا كان مسلمًا لا يضرب عليه الجزية-؛ لأنه كان في أول الإسلام الغالب على أهل الأمصار الكفر إلا من أسلم، فمن لم يحج أبقاه على الكفر الأصلي فضرب عليه الجزية، ولولا أن وجوبه على الفور لم يجعل تركه شعارًا للكفر.(215)
(302) الحج تمام الإسلام؛ لأن الإسلام بني على خمس، كما في الحديث المشهور، وكانت شرائع الإسلام تنزل شيئًا فشيئًا، فصار الحج كمال الدين وتمام النعمة، فإذا لم يحج الرجل لم يكن إسلامه ودينه كاملاً؛ بل يكون ناقصًا، ولا يجوز للمسلم أن يترك دينه ناقصًا، كما لا يجوز أن يخل بالصلاة والصوم والزكاة بعد وجوبها.(216)
(303) أما ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحج فرض متقدمًا، وأخره النبي وأصحابه، فعنه أجوبة:
أحدها: أنه لا يجوز لمسلم أن يعتقد أن الله أوجب الحج وكتبه، ومكث النبي وعامة أصحابه مؤخرين له من غير عائق أصلاً خمس سنين، ولا سنةً واحدة، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
وتأخيره إن لم يكن محرمًا فإنه مكروه، أو هو خلاف الأحسن والأفضل، وتأخر عن مقامات السبق ودرجات المقربين؛ فكيف تطبق الأمة مع نبيها على ترك الأحسن والأفضل لغير عذر أصلاً؟!
وأيضًا فقد مات منهم في تلك السنوات خلق كثير لم يحجوا، أفترى أولئك لقوا الله عاصين بترك أحد مباني الإسلام، ولم ينبههم النبي على ذلك؟!
ثم إن حج البيت من فروض الكفايات، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس تركوا الحج عامًا واحدًا لا يحج أحد ما نظروه بعده)، فكيف يتركون المسلمون الحج بعد وجوبه سنة في سنة؟! فإن حج الكفار غير مسقط لهذا الإيجاب.
وأما قولهم: إنه فرض سنة خمس أو ست، فقد اختلف الناس في ذلك اختلافًا مشهورًا؛ فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر، فالله أعلم متى فرض، غير أنه يجب أن يعلم إما أنه فرض متأخرًا، أو فرض متقدمًا، وكان هناك مانع عام يمنع من فعله، وإلا لما أطبق المسلمون على تركه وتأخيره.
الجواب الثاني: أن الأشبه -والله أعلم- أنه إنما فرض متأخرًا، يدل على ذلك وجوه: أحدها: أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه قوله: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)) [آل عمران:97]، وقد قيل: إن هذه الآية إنما نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر، ويدل على ذلك: أنها في سياق مخاطبة أهل الكتاب، وتقرير ملة إبراهيم، وتنزيهه من اليهودية والنصرانية.
الوجه الثاني: أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج؛ مثل حديث وفد عبد القيس، فقد أمرهم بالإيمان بالله وحده، وفسره لهم: أنه الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وأن يعطوا من المغنم الخمس، ومعلوم أنه لو كان الحج واجبًا لم يضمن لهم الجنة إلا به.
وكذلك الأعرابي الذي جاء من أهل نجد ثائر الرأس، الذي قال: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، إنما ذكر له النبي الصلاة، والزكاة، والصوم، وكذلك الذي أوصاه النبي بعمل يدخله الجنة أمره بالتوحيد، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان.
الوجه الثالث: أن الناس قد اختلفوا في وقت وجوبه، والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه، لاسيما والذين ذكروا وجوبه إنما تأولوا عليه آية من القرآن أكثر الناس يخالفونهم في تأوليها، وليس هناك نقل صحيح عمن يوثق به أنه واجب سنة خمس أو سنة ست.
الجواب الثالث: أنه وإن كان فرض متقدمًا لكن كانت هناك عوائق تمنع من فعله؛ بل من صحته بالكلية؛ سواء كان واجبًا أو غير واجب، أظهرها منعًا: أن الحج قبل حجة الوداع كان يقع في غير حينه؛ لأن أهل الجاهلية كانوا ينسئون النسيء الذي ذكره الله في القرآن.
وقد روى أحمد بإسناده عن مجاهد في قوله: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)) [التوبة:37] قال: «حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي بسنة، ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة، فلذلك يقول النبي: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)».
وهذا مما أجمع عليه أهل العلم بالأخبار والتفسير والحديث، وفي ذلك نزل قوله: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً)) [التوبة:36] الآية والتي بعدها. وإذا كان الحج قبل حجة الوداع في تلك السنين باطلاً واقعًا في غير ميقاته؛ امتنع أن يؤدى فرض الله سبحانه قبل تلك السنة، وعلم أن حجة عتاب بن أسيد وحجة أبي بكر إنما كانتا إقامةً للموسم الذي يجتمع فيه وفود العرب والناس؛ لينبذ العهود، ويُنفى المشركون، ويمنعون من الطواف عراة، تأسيسًا وتوطئة للحجة التي أكمل الله بها الدين، وأتم بها النعمة، وأدى بها فرض الله، وأقيمت فيها مناسك إبراهيم عليه السلام. ولا يجوز أن يقال: فقد كان يمكن المسلم أن يحج في غير وقت حج المشركين؛ أما قبل الفتح فلو فعل ذلك أحد لأريق دمه، ولمنع من ذلك وصد، وكذلك بعد الفتح؛ لأن القوم حديثو عهد بجاهلية، وفي استعطافهم تأليف قلوبهم، وتبليغ الرسالة في الموسم ما فيه.
وقد ذكروا أيضًا من جملة أعذاره: اختلاط المسلمين بالمشركين، وطوافهم بالبيت عراة، واستلامهم الأوثان في حجهم، وإهلالهم بالشرك، وإفاضتهم من عرفات قبل غروب الشمس، ومن جَمْع بعد طلوعها، ووقوف الحمس عشية عرفة بمزدلفة.. إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يمكن الحج معها، ولم يمكن تغييرها بعد الفتح إلا في سنة أبي بكر؛ حج من العام المقبل لما زالت.
ومن الأعذار أيضًا: اشتغاله بأمر الجهاد، وغلبة الكفار على أكثر الأرض، والحاجة، والخوف على نفسه وعلى المدينة من الكفار والمنافقين.(218)
(303) قوله تعالى: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) [البقرة:196] نزل عام الحديبية سنة ست من الهجرة، لما صد المشركون رسول الله عن إتمام عمرته التي قد كان أهلَّ بها، وفيها بايع المسلمين بيعة الرضوان، وفيها قاضى المشركين على الصلح على أن يعتمر من قابل، وهو إنما يتضمن الأمر بالإتمام، وليس ذلك مقتضٍ للأمر بالابتداء؛ فإن كل شارع في الحج والعمرة مأمور بإتمامهما، وليس مأمورًا بابتدائهما، ولا يلزم من وجوب إتمام العبادة وجوب ابتدائها، كما لا يلزم من تأكيد استحباب الإتمام تأكيد استحباب الشروع. وأما كون الحج والعمرة من دين إبراهيم عليه السلام، فهذا لا شك فيه، ولم يزل ذلك قربةً وطاعةً من أول الإسلام، وجميع آيات القرآن تدل على حسن ذلك واستحبابه، وأما وجوبه فلا يعلم أنه كان واجبًا في شريعة إبراهيم ألبتة، ولم يكن لإبراهيم عليه السلام شريعة يجب فيها على الناس [الحج والعمرة].(222)
(304) ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه في بعض طرقه، وقد اختلف الناس في زمن وفوده، والصواب أنه إنما وفد سنة تسع، فيكون الحج إنما فرض سنة تسع، وهذا يطابق نزول الآية في تلك السنة، وهذا شبيه بالحق؛ فإن سنة ثمان وما قبلها كانت مكة في أيدي الكفار، وقد غيروا شرائع الحج، وبدلوا دين إبراهيم، ولا يمكن مسلمًا أن يفعل الحج إلا على الوجه الذي يفعلونه؛ فكيف يفرض الله على عباده المسلمين ما لا يمكنهم فعله؟! وإنما كانت الشرائع تنزل شيئًا فشيئًا، كلما قدروا وتيسر عليهم أمروا به.(222)
(305) الحي لا يجوز أن يحج عنه الفرض إلا بإذنه، وكذلك لا يحج عنه النفل بدون إذنه، لكن إن حج وأهدى له ثوابه [يجزئ].(230)
(306) إنما أذن النبي أن يحج عن المعضوب والميت من يتبرع بالحج عنهم، أوجب قضاء دينهم وبراءة ذمتهم.(243)
(307) إنما كرهت الإجارة على الحج لما ذكره أحمد: من أن ذلك بدعة لم يكن على عهد النبي ولا على عهد السلف، وقد كان فيهم من يحتاج إلى الحج عنه، ولم يستأجر أحدٌ أحدًا يحج عن الميت، ولو كان جائزًا حسنًا لما أغفلوه؛ ولأن ذلك أكل للدنيا بالدين؛ لأنه يبيع عمله الصالح.. وقد قال النبي لمن استؤجر بدراهم يغزو بها: (ليس لك من دنياك وآخرتك إلا هذا)؛ وهذا لأن الإجارة معاوضة على المنفعة، يملك بها المستأجر المنفعة كما يملك المشتري الأعيان المبيعة، فالأجير للحج يبيع إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه لمن استأجره بالأجر الذي أخذه. ولأن أخذ العوض يبطل القربة المقصودة، كمن أعتق عبده على مال يأخذه منه لا يجزئه عن الكفارة.(243)
(308) النفقة أمانة بيد النائب، له أن ينفق منها بالمعروف، وإنما تقدر بأمر الميت، أو المستنيب الحي، أو بتقدير الورثة إذا كانوا كبارًا، فإن كان فيهم يتيم فليس لهم أن يقولوا: ما فضل فهو لك، إلا أن يتبرع الكبار بشيء من حصتهم، ولا يملك الفاضل إلا بعد الحج، فليس له أن يتصرف فيه قبل ذلك.(249)
(309) ما لزم النائب من الدماء بفعل محظور، مثل: الوطء، وقتل الصيد، ونحو ذلك، فهو في ماله، نص عليه؛ لأنه لم يؤذن له في ذلك، وإنما هو من جنايته.(253)
(310) أما دم التمتع والقران إذا أذن له فيهما على المستنيب، وإلا فعليه، ودم الإحصار على المستنيب؛ لأنه للتخلص من السفر، فهو كنفقة الرجوع.(253)
(311) إن أفسد النائب الحج، أو فوته بتفريطه؛ كان عليه رد ما أخذ؛ لأنه لم يجز عن المستنيب بتفريطه، والقضاء عليه في ماله.(253)
(312) حج المعتوه صحيح؛ لأن أكثر ما فيه أنه مسلوب العقل، وذلك لا يمنع صحة حجه كالصبي، وهذا قول أبي بكر خلافًا لأكثر الأصحاب.(258)
(313) إذا أحرم العبد بإذن سيده لم يملك تحليله؛ لأنها عبادة تلزم بالشروع، وقد دخل فيها بإذنه، فأشبه ما لو دخل في نذر عليه، ولأنه عقد لازم عقده بإذن سيده، فلم يكن للسيد فسخه، حتى لو باعه أو وهبه لم يملك المشتري والمتهب تحليله، لكن يكون الإحرام عيبًا بمنزلة الإجارة؛ لأنه ينقص المنفعة، فتنقص القيمة، فإن علم به لم يكن له الرد، وإن لم يعلم فله الرد، أو الأرش.(266)
(314) إن كان قد أحرم العبد بدون إذن البائع، وقلنا: له تحليله؛ لم يكن عيبًا، وإلا فهو عيب، ولو رجع السيد عن الإذن وعلم العبد فهو كما لو لم يأذن له، وإن لم يعلم حتى أحرم ففيه وجهان، بناء على الوكيل إذا لم يعلم بالعزل.(266)
(315) إن أحرم العبد بدون إذن سيده انعقد إحرامه في ظاهر المذهب.(266)
(316) تحليل العبد والزوجة يحصل بقول السيد والزوج: قد حللت زوجتي، أو عبدي، أو فسخت إحرامه، فعند ذلك يصير كالمحصر بعدو فيما ذكره أصحابنا، فأما بالفعل فقيل: قياس المذهب لا يحل له.(267)
(317) حج الصبي صحيح؛ سواء كان مميزًا أو طفلاً؛ بحيث ينعقد إحرامه، ويلزمه ما يلزم البالغ من فعل واجبات الحج، وترك محظوراته.(276)
(318) إن كان الصبي مميزًا أحرم بنفسه بإذن الولي، وفعل أفعال الحج، واجتنب محظوراته، فإن أحرم عنه الولي، أو فعل عنه شيئًا مثل الرمي وغيره لم يصح؛ لأن هذا دخول في العبادة، فلم يصح من المميز دون قصده؛ كالصوم والصلاة.(278)
(319) إن كان الصبي غير مميز عقد الإحرام له وليه؛ سواء كان حرامًا أو حلالاً، كما يعقد له النكاح وغيره من العقود، ويلبي عنه.. ويطوف به ويسعى، ويحضره المواقف، ويرمي عنه، ويجنبه كل ما يجتنبه الحرام، وإذا لم يمكنه الرمي استحب أن يوضع الحصى في يده ثم يؤخذ فيرمى عنه، وإن وضعه في يده ورمى بها وجعلها كالآلة جاز.(279)
(320) لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون إذن الزوج في حج التطوع، وليس للزوج أن يمنعها من حج الفرض، ويستحب لها أن تستأذنه إن كان حاضرًا، وتراسله إن كان غائبًا تطييبًا لنفسه.(285)
(321) إن منع الزوج زوجته من حج الفرض فإنها تخرج بغير اختياره؛ لأنها عبادة قد وجبت عليها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، حتى لو قلنا: يجوز لها تأخير الحج؛ فإن لها أن تسارع إلى إبراء ذمتها، كما لها أن تصلي المكتوبة في أول الوقت، وتقضي شهر رمضان في أول الحول وأولى؛ لأن هذه عبادة مؤقتة، وتأخير العبادات المؤقتة أجوز من تأخير العبادات المطلقة.(285)
(322) من عليه حجة واجبة؛ سواء كانت حجة الإسلام، أو نذرًا، أو قضاءً؛ فليس له أن يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه في ظاهر المذهب، المشهور عنه وعن أصحابه.(288)
(323) الخثعمية التي أذن لها النبي أن تحج عن أبيها، الظاهر أنه قد علم أنها حجت عن نفسها؛ لأنها سألته غداة النحر حين أفاض من مزدلفة إلى منى، وهي مفيضة معه.(290)
(324) الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان، فإذا أمكنه فعله عن نفسه، لم يجز أن يفعله عن غيره؛ لأن الأول فرض والثاني نفل، كمن عليه دين هو مطالب به، ومعه دراهم بقدره، لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه، وكذلك كل ما احتاج إلى صرفه في واجب عنه فلم يكن له أن يفعله عن غيره.(292)
(325) حديث عمر: (أنه حدّ لأهل العراق ذات عرق)، توقيت ذات عرق كان متأخرًا في حجة الوداع، كما ذكره الحارث بن عمرو، وقد كان قبل هذا سبق توقيت النبي لغيرها، فخفي هذا على عمر رضي الله عنه، كما خفي عليه كثير من السنن، وإن كان علمها عند عماله وسعاته، ومن هو أصغر منه، فاجتهد، وكان مُحَّدثًا موفقًا للصواب، فوافق رأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك ببدع منه رضي الله عنه، فقد وافق ربه في مواضع معروفة؛ مثل المقام، والحجاب، والأسرى، وأدب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.(309)
(326) من مر على ميقاتين فعليه أن يحرم من أبعدهما من مكة؛ فقد بين عروة في روايته أن النبي وقت ذا الحليفة لأهل المدينة ومن مر بهم، وأن الجحفة إنما وقتها للشامي إذا سلك تلك الطريق؛ طريق الساحل. وأيضًا فإن المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مر من جوانب الحرم لزمه تعظيم حرمته، وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض، وأيضًا فإن قرب هذه المواقيت وبعدها لما يحل لأهل بعيدها من الرفاهية، وذلك يشركهم فيه كل من دخل مصرهم؛ فإن المسافر إذا دخل مصرًا وأقام فيها أيامًا انحط عنه عظمة مشقة سفره، فوجد الطعام والعلف والظل والأمن، وخفف إجماله، إلى غير ذلك من أسباب الرفق. وأيضًا فإن هذه المواقيت حدود النسك؛ فليس لأحد أن يتعدى حدود الله.(318)
(327) العمرة لمن هو بالحرم لا بد فيها من الخروج إلى الحل، والزيارة لا تكون مع الإقامة بالمزور، وإنما تكون إذا كان خارجًا منه فجاء إليه ليزوره، ولهذا -والله أعلم- لم يكن على أهل مكة عمرة؛ لأنهم مقيمون بالبيت الحرام.(329)
(328) الإحرام بالعمرة من أقصى الحل أفضل من أدناه، وكلما تباعد فيها فهو أفضل، حتى يصير إلى الميقات.(330)
(329) قال طاوس رحمه الله: «الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال، ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف كان أعظم أجرًا من أن يمشي في غير شيء».(331)
(330) يستحب لمن هو بمكة من غير أهلها أن يخرج إلى أقصى الحل، وإن خرج إلى ميقاته فهو أفضل، وإن رجع إلى مصره فأنشأ لها سفرة أخرى فهو أفضل من الجميع.(332)
(331) إن أحرم الحرمي بالعمرة من الحرم فهو بمنزلة من أحرم دون الميقات، فلا يجوز له ذلك، وإذا فعله فعليه دم لتركه بعض نسكه، ولا يسقط الدم بخروجه إلى [الحل]، كما لا يسقط الدم بعودته إلى الميقات إذا أحرم دونه؛ لكنه إن خرج إلى الحل قبل الطواف ورجع صحت عمرته.(334)
(332) إن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة؛ مثل تجارة، أو زيارة، أو سكن، أو طلب علم، أو غير ذلك من الحاجات التي لا يشق معها الإحرام؛ فإن السنة أن لا يدخلها إلا محرمًا بحجة أو بعمرة؛ سواء كان واجبًا أو تطوعًا؛ لأن النبي بين أن الحج والعمرة إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، ولأن النبي قال في المواقيت: (هن لهن ولكل من أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة)، وهذا لا يريد حجًا ولا عمرة، ولأن النبي لما رجع هو وأصحابه من حنين إلى مكة [دخل بغير إحرام]، ولأن النبي لما بعث عثمان عام الحديبية ليخبرهم بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، ولأن الصحابة الذين بعثهم لاستخراج خبيب [دخلوا بغير إحرام]، ولأن هذه قربة مشروعة لتعظيم البقعة فلم تجب؛ كتحية المسجد الحرام بالطواف، وتحية غيره بالصلاة.(339)
(333) من دخل مكة لقتال مباح فإنه لا إحرام عليه. نص عليه، وإنما يجيء على أصلنا إذا كان هناك بغاة، أو كفار، أو مرتدة قد بدءوا بالقتال فيها، فأما إذا لم يبدءوا بقتال لم يحل قتالهم.(349)
(334) إذا تجاوز الميقات بغير إحرام ثم رجع فأحرم منه، فلا دم عليه؛ لأنه قد أتى بالواجب، وتلك المجاوزة ليست نسكًا، فإذا لم يترك نسكًا، ولم يفعل نسكًا في غير وقته، ولم يفعل في الإحرام محظورًا؛ فلا وجه لإيجاب الدم.(359)
(335) إن ضاق الوقت بحيث يخاف من الرجوع فوْت الحج، أو لم يمكن الرجوع لتعذر الرفقة، ومخافة الطريق، ونحو ذلك؛ فإنه لا يجب عليه الرجوع، فيحرم من موضعه وعليه دم، وكذلك لو أحرم من دونه مع إمكان العودة فعليه دم.(360)
(336) سئل مالك عمن أحرم قبل الميقات، فقال: أخاف عليه الفتنة، قيل له: وأي فتنة في ذلك وإنما هي زيادة أميال فقط؟ قال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خُصصت بأمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم لو كان الفضل في غير ذلك لبينه للمؤمنين، ولدلهم عليه؛ إذ هو أنصح الخلق للخلق، وأرحم الخلق بالخلق، كما دلهم على الأعمال الفاضلة، وإن كان فيها مشقة كالجهاد وغيره.
وأما من أحرم من الصحابة قبل المواقيت؛ فأكثر منهم عددًا، وأعظم منهم قدرًا لم يحرموا إلا من المواقيت، وقد أنكروه بالقول، فروى الحسن: أن عمران بن حصين أحرم من البصرة، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال: (يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله أحرم من مصره!)، وعن الحسن أن عبد الله بن عامر أحرم من خرسان، فلما قدم على عثمان رضي الله عنه لامه فيما صنع، وكرهه له. وقال البخاري: (وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خرسان أو كرمان). وعن مسلم أبي سلمان: (أن رجلاً أحرم من الكوفة، فرآه عمر سيء الهيئة، فأخذ بيده وجعل يديره في الخلق ويقول: انظروا إلى هذا ما صنع بنفسه وقد وسع الله عليه)، وعن أبي ذر قال: (استمتعوا بثيابكم؛ فإن ركابكم لا تغني عنكم من الله شيئًا).(364)
(337) متى أحرم بالحج فعليه أن يحج تلك السنة، وليس له أن يؤخر الحج إلى العام المقبل، حتى لو بقي محرمًا حتى فاته الحج لم يجز له أن يستديم الإحرام إلى العام المقبل، وإن جوزنا الإحرام قبل [أشهر الحج]؛ لأن الإحرام يوجب فعل الحج ذلك العام، فإذا فاته لم يجز أن يؤدي بهذا الإحرام حجة أخرى.(398)
(338) العمرة يحرم بها متى شاء، لا تختص بوقت؛ لأن أفعالها لا تختص بوقت، فأولى أن لا يختص إحرامها بوقت، وهذا فيمن لم يبق عليه شيء من أعمال الحج.(399)
(339) ثبت نهي عمر وعثمان ومعاوية وابن الزبير وغيرهم من الصحابة عن المتعة، وكراهتهم لها، ومعلوم أن التمتع بالعمرة إلى الحج لا يكره بالاتفاق، فيجب أن يحمل نهيهم على متعة الفسخ، والرخصة على المتعة المبتدأة؛ توفيقًا بين أقاويلهم.(495)
(340) أثر عن السلف أنهم كانوا يلبون إذا هبطوا واديًا، أو أشرفوا على أكمة، أو لقوا ركبانًا، وبالأسحار، ودبر الصلوات.(599)
(341) يستحب أن يبدأ قبل التلبية بذكر الركوب، سئل عطاء: «أيبدأ الرجل بالتلبية أو يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين؟ قال: يبدأ بسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين».(601)
(342) لا يجوز أن يلبي بغير العربية وهو يقدر على التلبية بالعربية، أو على تعلمها؛ لأنه ذكر مشروع، فلم يجز إلا بالعربية؛ كالأذان والتكبير وغير ذلك من الأذكار المشروعة، لاسيما والتلبية ذكر مؤقت، فهي بالأذان أشبه منها بالخطبة ونحوها، ثم الخطبة لا تكون إلا بالعربية؛ فالتلبية أولى.(607)
(343) يكره إظهار التلبية في الأمصار والحلل.(612)
(344) لا بأس بتلبية الحلال، ولا يصير محرمًا بذلك إلا أن ينوي الإحرام.(616)
الجزء الثاني
(345) لو قطع شعره في أوقات متفرقة وكفّر عن الأول فلا كلام -أي: تجب عليه كفارة أخرى- وإن لم يكفر ضم بعضها إلى بعض، ووجب فيها ما يجب فيها لو قطعها في وقت واحد؛ فيجب الدم في الثلاث، أو الأربع، أو الخمس.(11)
(346) لا بأس أن يحلق المحرم رأس الحلال، ويقلم أظفاره، ولا فدية عليه، وليس لحلال ولا حرام أن يحلق رأس محرم، أو يقلم أظفاره؛ فإن فعل ذلك فأذن المحلوق فالفدية عليه دون الحالق، وإن فعل ذلك الحلال بالمحرم وهو نائم، أو أكرهه عليه؛ فقرار الفدية على الحالق.(14)
(347) يحرم على المحرم أن يلبس على بدنه المخيط المصنوع على قدر العضو، وكذلك لو وضع على مقدار العضو بغير خياطة؛ مثل أن ينسج نسجًا، أو يلصق بلصوق، أو يربط بخيوط، أو يخلل بخلال، أو يزر، ونحو ذلك مما يوصل به الثوب المقطع حتى يصير كالمخيط؛ فإن حكمه حكم المخيط، وإنما يقول الفقهاء: المخيط، بناء على الغالب.
فأما إن خيط، أو وصل لا ليحيط بالعضو ويكون على قدره، مثل الإزار والرداء الموصل والمرقع ونحو ذلك؛ فلا بأس به؛ فإن مناط الحكم هو اللباس المصنوع على قدر الأعضاء، وهو اللباس [المحيط] بالأعضاء، واللباس المعاد.(15)
(348) نهى رسول الله عن خمسة أنواع من اللباس تشمل جميع ما يحرم، فإنه قد أوتي جوامع الكلم؛ وذلك أن اللباس إما أن يصنع للبدن فقط، فهو القميص وما في معناه من الجبة والفروج ونحوهما، أو للرأس فقط، وهو العمامة وما في معناه، أو لهما وهو البرنس وما في معناه، أو للفخذين والساق، وهو السراويل وما في معناه من تبان ونحوه، أو للرجلين وهو الخف ونحوه، وهذا مما أجمع عليه المسلمون.(21)
(349) إذا لم يجد إزارًا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه؛ بل يلبسه على حاله، وإذا لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين، وليس عليه أن يقطعهما، ولا فدية عليه.(21)
(350) النبي إنما جوز لبس الخف والسراويل عند عدم الأصل -أي: النعال والإزار- فلو افتقر ذلك إلى تغيير أو وجبت فدية؛ لاستوى حكم وجود الأصل وعدمه في عامة المواضع، وبيان ذلك أنهما إذا غُيرا إن صارا بمنزلة الإزار والنعل؛ فيجوز لبسهما مغيرين مع وجود الإزار والنعل؛ إذ لا فرق بين نعل ونعل، وإزار وإزار.(25)
(351) ما رخص فيه للحاجة العامة -وهو ما يحتاج إليه في كل وقت غالبًا- فإنه لا فدية معه، ولهذا رخص للرعاة والسقاة في ترك المبيت بمنى من غير كفارة؛ لأنهم يحتاجون إلى ذلك كل عام، ورخص للحائض أن تنفر قبل الوداع من غير كفارة؛ لأن الحيض أمر معتاد غالب، فكيف بما يحتاج إليه الناس وهو الاحتذاء والاستتار؟! (41)
(352) معنى كونه لا يجد النعل والإزار: أن لا يباع، أو يجده يباع وليس معه ثمن فاضل عن حوائجه الأصلية؛ فإن بذل له عارية، فينبغي أن لا يلزمه قبوله، فإن غلب على ظنه أنه يجده بالثمن عند الإحرام؛ لم يلزمه حمله، فإن وجده وإلا انتقل إلى البدل.(41)
(353) لا فرق بين أن يكون اللباس الممنوع من قطن، أو جلود، أو ورق، ولا فرق في توصيله على قدر البدن بين أن يكون بخيوط، أو أخلة، أو إبر، أو لصوق، أو عقد، أو غير ذلك؛ فإن كل ما عمل على هيئة المخيط فله حكمه، فلو شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز؛ لأنه كالسراويل وما على الساقين [كالتبابين].(49)
(354) إن تطيب قبل الإحرام بما له جرم يبقى؛ كالمسك، والذريرة، والعنبر ونحوه، أو مما لا يبقى؛ كالورد، والبخور، ثم استدامه؛ لم يحرم ذلك عليه، ولم يكره له.(79)
(355) الطيب إنما يراد به الاستدامة كالنكاح، فإذا منع من ابتدائه لم يمنع من استدامته، وعكسه اللباس؛ فإنه لا يراد للاستدامة، ولأن الطيب من جنس النظافة من حيث يقصد به قطع الرائحة الكريهة، كما يقصد بالنظافة إزالة ما يجمع الشعر والظفر من الوسخ، ثم استحب قبل الإحرام أن يأخذ من شعره وأظفاره؛ لكونه ممنوعًا منه بعد الإحرام، وإن بقي أثره، فكذلك استحب له التطيب قبلهن وإن بقي أثره بعده.(80)
(356) أما اشتمام الطيب من غير أن يتصل ببدنه ولا بثوبه؛ إما بأن يقرب إليه حتى يجد ريحه، أو يتقرب هو إلى موضعه حتى يجد ريحه؛ فلا يجوز في ظاهر المذهب، وفيه الفدية؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في شم المحرم الريحان؛ فمن جعله طيبًا منعه، ومن لم يجعله طيبًا لم يمنعه، ولولا أن الشم المجرد يحرم امتنعت هذه المسألة؛ لأن الرياحين لا يتطيب بها، فعلى هذا إن تعمد شم المسك والعنبر ونحوها من غير مس فعليه الكفارة، وإن جلس عند العطارين قصدًا لشم طيبهم، أو دخل الكعبة وقت تخليقها ليشم طيبها؛ لزمته الكفارة، وإن ذهب لغير اشتمام فوجد الريح من غير قصد؛ لم يمنع من ذلك، كما لو سمع الباطل من غير أن يقصد سماعه، أو رأى المحرم من غير أن يقصد الرؤية، أو مس حكيم امرأة من غير أن يقصد مسها، وغير ذلك من إدراكات الحواس بدون العمد والقصد؛ فإنه لا يحرم.(88)
(357) الثياب المصبوغة بغير طيب لا يكره منها في الإحرام إلا ما يكره في الحل، لكن المستحب في الإحرام لبس البياض.(94)
(358) الرجل يكره له المعصفر في الإحرام والإحلال، وقد زعم بعض أصحابنا أنه لا يكره للرجال ولا للنساء، وهو غلط على المذهب.(95)
(359) الكحل إذا كان فيه طيب فإنه لا يجوز إلا لضرورة، فيكتحل به ويفتدي، وإن لم يكن فيه طيب ولم يكن فيه زينه فلا بأس به، وإن كان فيه زينة مثل الكحل الأسود ونحوه؛ كره له ذلك إذا قصد به الاكتحال للزينة لا للمنفعة والتداوي، ولا فدية فيه عند أصحابنا.(104)
(360) وإن قصد به المنفعة، وكانت به ضرورة إليه؛ مثل أن يخاف الرمد، أو يكون أرمد ونحو ذلك، ولم يقم غيره مقامه جاز.(104)
(361) الخضاب بغير الحناء؛ مثل الوشم والسواد والنيل، ونحو ذلك مما ليس بطيب؛ فهو زينة محضة، وإن كان من الطيب مثل الزعفران والورس ونحو ذلك لم يجز.(107)
(362) للمحرم أن يغسل رأسه وبدنه وثيابه، وأن يبدل ثياب الإحرام ويبيعها، وإن كان في ذلك إزالة وسخه وإزالة القمل الذي كان بثيابه، وإن أفضى اغتساله إلى قتل القمل الذي برأسه، حتى له أن يدخل الحمام ما لم يفضِ ذلك إلى قطع شعر.(110)
(363) لا بأس بالحجامة للمحرم ما لم يقطع شعرًا، ولا بأس بالكساء إذا أصابه البرد، ولا يتفلى المحرم، ولا يقتل القمل، ويحك رأسه وجسده حكًا رفيقًا، ولا يقتل قملة، ولا يقطع شعره ولا يدهنه.(110)
(364) إن احتاج إلى الأدهان؛ مثل أن يكون برجله شقوق، أو بيديه ونحو ذلك؛ جاز بغير كراهة ولا فدية؛ لأنه يجوز أن يأكله.(120)
(365) للصيد الذي يضمن بالجزاء ثلاث صفات:
أحدها: أن يكون أصله متوحشًا؛ سواء استأنس أو لم يستأنس، وسواء كان مباحًا أو مملوكًا.
الثاني: أن يكون بريًا.
الثالث: أن يكون مباحًا أكله، فإذا كان مباحًا فإنه يضمن بغير خلاف؛ كالظباء، والأوعال، والنعام، ونحو ذلك، وكذلك ما تولد من مأكول وغير مأكول؛ كالعيسار، وهو ولد الذيبة من الضبعان، والسمع، وهو ولد الضبع من الذيب، وما تولد بين وحشي وأهلي.(127)
(366) ما آذى الناس، أو آذى أموالهم؛ فإن قتله مباح؛ سواء كان قد وجد منه الأذى؛ كالسبع الذي قد عدا على المحرم، أو لا يؤمن أذاه؛ مثل الحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور؛ فإن هذه الدواب ونحوها تدخل بين الناس من حيث لا يشعرون، ويعم بلواهم بها، فأذاهم بها غير مأمون.(136)
(367) ذكر النبي ما يؤذي الناس في أنفسهم وأموالهم، وسماهن: فواسق؛ لخروجهن على الناس، ولم يكن قوله: (خمس) على سبيل الحصر؛ لأن في أحد الحديثين ذكر الحية، وفي الآخر ذكر العقرب، وفي آخر ذكرها وذكر السبع العادي، فعلم أنه قصد بيان ما تمس الحاجة إليه كثيرًا، وهو هذه الدواب، وعلل ذلك بفسوقها؛ لأن تعليق الحكم بالاسم المشتق المناسب يقتضي أن ما منه الاشتقاق علة للحكم، فحيثما وجدت دابة فاسقة، وهي التي تضر الناس وتؤذيهم؛ جاز قتلها.(139)
(368) إذا عضته النحلة أو النملة، أو تعلق القراد ببعيره، ونحو ذلك؛ فإنه يقتله، وإن أمكن دفع أذاه بدون ذلك، بحيث له أن يقتل النملة بعد أن تقرصه.(149)
(369) ما حرم قتله فإنه يحرم قصد قتله بمباشرة أو تسبب، ويحرم عليه تملكه باصطياد، أو ابتياع، أو اتهاب، وسائر أنواع التملكات؛ مثل كونه عوضًا في صداق، أو خلع، أو صلح عن قصاص، أو غير ذلك؛ لأن الله قال: ((لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ)) [المائدة:94]، فإن قبضه بعقد البيع، فتلف في يده؛ ضمنه بالجزاء، وضمن القيمة لمالكه، بخلاف ما قبضه بعقد الهبة، ومتى رده على البائع والواهب زال الضمان.(149)
(370) إذا اصطاد المحرم ولم يرسله حتى حل فعليه إرساله؛ لأنه لم يملكه بذلك الاصطياد، فإن لم يفعل حتى تلف في يده فعليه ضمانه، وإن ذبحه بعد التحلل فهو ميتة.(149)
(371) إذا ذبح المحرم صيدًا فهو حرام، كما لو ذبحه كافر غير الكتابي، وهو بمنزلة الميتة، وتسمية الفقهاء المتأخرين: ميتة؛ بمعنى أن حكمه حكم الميتة.(153)
(372) إذا صاد الحلال صيدًا فلا بأس أن يأكله المحرم إذا لم يصد من أجله، ولا يأكله إذا صيد من أجله، وعلي وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم كانوا يكرهون أن يأكل المحرم لهم الصيد، وكأنهم ذهبوا إلى الآية: ((وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً)) [المائدة:96].(163)
(373) لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعان على صيد الصعب بن جثامة بوجه من الوجوه، ولا أمر به، ولا علم أنه يصاد له، وإنما يشبه -والله أعلم- أن يكون قد رأى لما أهداه أنه صاده لأجله؛ لأن الناس كانوا قد تسامعوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلٌّ يحب أن يقترب إليه، ويهدي إليه، فلعل الصعب إنما صاده لأجل النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا يكون تركه واجبًا، أو يكون خشي أن يكون الصيد لأجله، فيكون قد تركه تنزهًا، وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه، كما كان يدع التمرة خشية أن تكون من تمر الصدقة.(165)
(374) ما نقل عن عثمان رضي الله عنه من الرخصة مطلقًا في أكل المحرم من الصيد فقد رجع عنه، بدليل ما روى سعيد عن بشر بن سعيد: أن عثمان رضي الله عنه كان يصاد له الوحش على المنازل، ثم يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته أو ثلاثًا، ثم إن الزبير كلمه، فقال: (ما أدري ما هذا يصاد لنا أو من أجلنا أن لو تركناه، فتركه)، فاتفق رأي عثمان والزبير على أن معنى سنة رسول الله: أن ما صيد للمحرم لا يأكله، وكان ذلك بعد أن حدثه علي والأشجعيون بالحديث؛ فعلم أنهم فهموا ذاك من الحديث.(169)
(375) كما يحرم قتل الصيد؛ تحرم الإعانة عليه بدلالة، أو إشارة، أو إعارة آلة لصيده، أو لذبحه، وإذا أعان على قتله بدلالة أو إشارة، أو إعارة آلة ونحو ذلك؛ فهو كما لو شرك في قتله.(182)
(376) إن كان المعان حلالاً فالجزاء جميعه على المحرم، وإن كان حرامًا اشتركا فيه.(182)
(377) المحرم إن كان رجلاً لا يصح أن يتزوج بنفسه، ولا وكيله، ولا وليه؛ بحيث لو وكل وهو حلال رجلاً؛ لم يجز أن يزوجه بعدما يحرم الموكل، فأما إذا وكل وهو حرام من زوجه بعد الحل، فقال القاضي وابن عقيل يجوز ذلك، فعلى هذا لو وكل وهو حلال، ثم أحرم ثم حل؛ جاز أن يزوج الوكيل بذلك التوكيل المتقدم وأولى؛ لأن العبرة بحال العقد، ولأن التصرف بالوكالة الفاسدة جائز، لكن هل يجوز الإقدام على التوكيل؟ وإن كان امرأة لم يجز أن تزوج وهي محرمة بإذن متقدم على الإحرام، أو في حال الإحرام، لكن إذا أذنت حال الإحرام لم يصح هذا الاستئذان.(185)
(378) الخلفاء الراشدون وغيرهم من أكابر الصحابة على إبطال نكاح المحرم؛ فعن غطفان بن طريف المري: (أن أباه طريفًا تزوج وهو محرم، فرد عمر بن الخطاب نكاحه).(188)
(379) أكابر الصحابة قد عملوا بموجب حديث عثمان، وإذا اختلفت الآثار عن رسول الله نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون، ولم يخالفهم أحد من الصحابة -فيما بلغنا- إلا ابن عباس، وقد علم مستند فتواه، وعلم أن من حرم نكاح المحرم من الصحابة يجب القطع بأنه إنما فعل ذلك عن علم عنده خفي على من لم يحرمه، فإن إثبات مثل هذه الشريعة لا مطمع في دركه بتأويل أو قياس، وأصحاب رسول الله أعلم بالله وأخشى من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، بخلاف من أباحه؛ فإنه قد يكون مستنده الاكتفاء بالبراءة الأصلية، وإن كان قد ظهر له في هذه المسألة مستند آخر مضطرب.(205)
(380) أهل المدينة متفقون على تحريم نكاح المحرم، علمًا ورثوه من زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن أحمد ونظرائه، وإذا اعتضد أحد الخبرين بعمل أهل المدينة كان أولى من غيره في أصح الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد في مواضع، وقد تقدم أنه اعتضد في هذه المسألة [بعمل] أهل المدينة، لاسيما إذا كانوا قد رووا هم الحديث، فإن نقلهم أصح من نقل غيرهم من الأمصار، وهم أعلم بالسنة من سائر الأمصار، وكان عندهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين أمرنا باتباعهم بإحسان ما لم يكن عند غيرهم، وإنما كان الناس تبعًا لهم في الرأي والرواية إلى انصرام خلافة عثمان، وبعد ذلك فإن لم يكونوا أعلم من غيرهم فلم يكونوا بدون من سواهم، ونحن إن لم نطلق القول بأن إجماعهم حجة فإنا نضعهم مواضعهم، ونؤتي كل ذي حق حقه، ونعرف مراتب المحدثين والمفتين والعاملين؛ ليترجح عند الحاجة من يستحق الترجيح.(206)
(381) الإحرام يُحرم جميع دواعي النكاح تحريمًا يوجب الكفارة؛ مثل القبلة والطيب، ويمنع التكلم بالنكاح والزينة، وهذه مبالغة في حسم مواد النكاح عنه.(207)
(382) عقد النكاح من أسباب ودواعي النكاح؛ فوجب أن يمنع منه، وعكسه الصيام والاعتكاف؛ فإنه يحرم القبلة، ولا يمنع الطيب والتكلم بالنكاح، والاعتكاف وإن قيل بكراهة الطيب فيه فإنه لا يحرم ذلك، ثم لا كفارة في شيء من مقدمات النكاح إذا فعله في الصيام والاعتكاف، وقد بالغ الشرع في قطع أسبابه؛ حتى إنه يفرق بين الزوجين في قضاء الحجة الفاسدة.(207)
(383) من الأدلة العقلية على تحريم نكاح المحرم: أن المقصود بالنكاح حل الاستمتاع، فمن حقه أن لا يصح إلا في حل يقبل الاستمتاع، وأن لا يتأخر حل الاستمتاع عن العقد؛ لأن السبب إذا لم يفد حكمه ومقصوده وقع باطلاً؛ كالبيع في محل لا يملكه، والإجارة على منافع لا تستوفى، ولهذا لم يصح في المعتدة من نكاح، أو في شبهة، أو زنا، ولا في المستبرأة في ظاهر المذهب، وإنما صح نكاح الحائض والنفساء والصائمة؛ لأن بعض أنواع الاستمتاع هناك ممكن، أو وقت الاستمتاع قريب؛ فإن الصائم يستمتع بالليل، والحائض يستمتع منها بما دون الفرج، والإحرام يمنع الاستمتاع بكل حال منعًا مؤكدًا، تطول مدته على وجه يفضي الاستمتاع إلى مشاق شديدة؛ من المضي في الفاسد، ووجوب القضاء والهدي، والتعرض لسخط الله وعقابه، والإحرام لا ينال إلا بكلف ومشاق، وليس في العبادات أشد لزومًا وأبلغ نفوذًا منه، فإيقاع النكاح فيه إيقاع له.
(384) لا كفارة في النكاح؛ لأنه يقع باطلاً، فلم يوجب الكفارة، كشراء الصيد واتهابه؛ لأنه لا أثر لوقوعه؛ فإن مقصوده لم يحصل، بخلاف الوطء واللباس ونحو ذلك، وكل ما وقع على مخالفة الشرع وأمكن إبطاله؛ اكتفي بإبطاله عن كفارة أو فدية، بخلاف الأمور التي لا يمكن إبطالها، ولأنه من باب الأقوال والأحكام، وهذا الباب لا يوجب كفارة في الإحرام تختص به، كما لو تكلم بكلام محرم.(210)
(385) المحرم ممنوع أن يتكلم بالنكاح، وذلك منه رفث، وعقده له تكلم به، وتزويجه لغيره يفضي إلى تذكره واشتهائه، والمحرم ممنوع من جميع مقدماته؛ ولأنه إعانة على استحلال ما هو محرم عليه، فلم يجز؛ كإعانة الحلال على الوطء أو اللباس أو التطيب؛ فإنه إعانة على الاستمتاع بما هو مباح له، لا على استحلال ما هو محرم عليه؛ وهذا لأن فرج الزوجة لا يباح بالعقد، كما أن الصيد المباح لا يباح إلا بتملك، ولحمه لا يباح إلا بالتذكية، بخلاف اللباس والطيب والوطء للحلال؛ فإنه حلال في نفسه، وهذا شبه وتمثيل حسن، وهذا في التزويج بالولاية الخاصة، وهي السبب.(211)
(386) المحرم لا يجوز له أن يباشر لشهوة؛ سواء في ذلك القبلة، والغمز، والوطء دون الفرج، وغير ذلك، وسواء باشر امرأة أو صبيًا أو بهيمة.. ولا يحل له الاستمتاع ولا النظر لشهوة، ومن باشر لشهوة ولم ينزل لم يفسد حجه، وقد ذكر غير واحد أن ذلك إجماع، لكن عليه كفارة.(218)
(387) المباشرة دون الفرج دون الجماع في أكثر الأحكام، فلم يجز أن يلحق به في الإحرام بمجرد القياس؛ لجواز أن يكون الإفساد معلقًا بما في الجماع من الخصائص.(221)
(388) لا فرق بين الوطء قبل الوقوف بعرفة أو بعده إذا وقع قبل التحلل الأول في أنه يفسد الحج، وعليه القضاء، وهدي بدنة.(232)
(389) أصحاب رسول الله أوجبوا على من جامع قبل التحلل الأول القضاء والبدنة جميعًا، والهدي الذي فسروه هنا يبين الهدي المطلق الذي جاء في كلامهم، وفي المرفوع المرسل: أن المراد به البدنة؛ وهذا لأن الجماع فيه معنيان: أنه محظور في الإحرام، وهو أكبر المحظورات، وأنه يفسد [الإحرام]، فمن حيث هو محظور يوجب الفدية، وهو أكبر مما يوجب شاة، فأوجب بدنة، ومن حيث فسد الإحرام وجب قضاؤه، فحجة القضاء هي الحجة التي التزمها أولاً، وهذا كالوطء في رمضان: يوجب الكفارة العظمى، ويوجب القضاء.
وإنما لم يُفرق بين ما قبل الوقوف وما بعده؛ لأن أصحاب رسول الله سئلوا عن المحرم إذا جامع امرأته فأفتوا بما ذكرناه من غير استفصال ولا تفصيل، وذلك يوجب عموم الحكم، وفي أكثر مسائلهم لم يبين السائل أن الجماع كان قبل الوقوف؛ ولأن ما بعد الوقوف وقبل الرمي إحرام تام، ففسد الحج بالوطء فيه كما قبل الوقوف؛ وهذا لأن الوقوف يوجب إدراك الحج ويؤمن من فواته، وإدراك العبادة في وقتها لا يمنع ورود الفساد عليها، كما لو أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها، أو أدرك ركعة من الجمعة أو الجماعة مع الإمام؛ فإنه قد أدرك، ومع هذا فلو ورد عليها الفساد لفسدت، قال:...ولأن كل ما أفسد العبادة إذا ورد قبل الخروج منها أفسدها، وإن كان قد مضى معظمها، كما لو أكل قبيل غروب الشمس، أو أحدث قبل السلام، أو قبل القعدة الأخيرة.(233)
(390) إذا وطئ بعد التحلل الأول لم يبطل حجه؛ لأنه قد حل من جميع المحظورات إلا النساء، أو جاز له التحلل منها، وقد قضى تفثه كما أمره الله، وما خرج منه وقضاه لا يمكن إبطاله؛ نعم يبطل ما بقي منه.(234)
(391) إذا طاف قبل الرمي والحلق والذبح ثم وطئ لم يفسد نسكه؛ لأنه لم يبق عليه ركن، وقد تحلل، وقد طاف في إحرام صحيح، وعليه دم فقط، ويحتمل أنه لا دم عليه، ويتوجه أن يلزمه الإحرام من التنعيم ليرمي في إحرام صحيح.(236)
(392) لو أخر الرمي وسائر أفعال التحلل عن أيام منى؛ لم يتحلل، فلو وطئ فسد حجه أيضًا، نص عليه؛ وهذا لأن فوات وقت الرمي لا يوجب حصول التحلل بمجرد مضي الوقت، كما أن فوات وقت الوقوف لا يوجب حصول التحلل من الحج بمضيه؛ بل يتحلل بغير الرمي من الحلق والطواف، كما يتحلل من فاته الحج بالطواف والسعي.(236)
(393) الحلق نسك واجب، ولا ريب أنه تحلل من الإحرام، وليس هو مما يفعل في الإحرام؛ بل هو برزخ بين كمال الحرم وكمال الحل، فإذا وطئ -أي: قبل الحلق- فإنما أساء لكونه تحلل بغير الحلق، ومثل هذا لا يفسد الإحرام؛ فعلى هذا لا يحلق بعد الوطء ولا يقصّر.(248)
(394) لا يفسد النسك بغير الجماع؛ وذلك لأن الله سبحانه ذكر حلق الرأس قبل الإحلال للمعذور، وأوجب به الفدية، ولم يوجب القضاء كما أوجبه فيمن أفطر في رمضان لمرض أو سفر، وحرم قتل الصيد حال الإحرام، وذكر فيه العقوبة والجزاء، ولم يفسد به الإحرام، ولم يوجب قضاء ذلك الإحرام، وقد أمر النبي من أحرم في جبته أن ينزعها، ولم يأمره بكفارة ولا قضاء.(248)
(395) الفرق بين المباشرة وبين غيرها من المحظورات من وجوه: أحدها: أن سائر محظورات الإ