اسم الله " الرزّاق "
اسم الله " الرزّاق "  34099_11
لفضيلة الأستاذ الدكتور: محمد راتب النابلسي
تدقيق لغوي: السيد ياسين رزق

تنقيح نهائي: المهندس غسان السراقبي

بسم الله الرحمن الرحيم
مع الدرس الثاني عشر من دروس أسماء الله الحسنى والاسم اليوم هو الرزاق.

ورد هذا الاسم في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58}" (سورة الذاريات: 58)

والرزَّاق كما تعلمون صيغة مبالغة، وإذا جاء اسم الله عزَّ وجل بصيغة المبالغة فمعنى أنه يرزق العباد جميعاً مهما كثر عددهم ويرزق الواحد منهم رزقاً وفيراً لا حدود له، إما على مستوى مجموع المرزوقين، وإما على مستوى كمية الرزق، لذلك لم تأت الرازق بل أتت الرزَّاق، لأنه يرزق كل العباد ويرزق العبد الواحد كل شيء، إذا أعطى أدهش.

وورد هذا الاسم في قوله تعالى على شكل فعل مضارع: "وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {60}" (سورة العنكبوت الآية 60)

ومن دعاء سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، اللهم يا رازق البُغاث، (للبغاث قصة)، والبغاث فراخ الغراب، أضعف أنواع الطير، والمثل العربي الشهير: "إن البغاث بأرضنا يستنسر"، لشدة ضعفنا صار البغاث وهو أضعف الطيور صار أمامنا كالنسر.

هذا البغاث فرخ من فراخ الغراب فإذا انفقأت البيضة عنه خرج البغاث أبيض كالشحمة، يعني قطعاً من الشحم، فإذا رآه الغراب أنكره لبياضه، لأن الغراب أسود اللون، فيسوق الله تعالى له بعض الحشرات يتغذى عليها إلى أن ينبت ريشه ويسود لونه عندئذ يتعرف عليه الغراب.

فمن أغرب هذه القصص أن فراخ الغراب وهي البغاث عبارة عن شحمة بيضاء لا تقوى على شيء والله سبحانه وتعالى يسوق لها الرزق، إذاً ورد في بعض الأدعية يا رازق البغاث في عشه.

الحقيقة الرزق من الخطأ والسذاجة أن تحصره في الطعام والشراب قال: "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {37}" (سورة آل عمران: 37)

فقال العلماء: "رزق الأبدان بالأطعمة ورزق الأرواح بالمعرفة"، والمعرفة أشرف الرِزقَين فإذا خصك الله بدخل وفير أكلت به أطيب الطعام وخص عبداً آخر برزق المعرفة فاعلم علم اليقين أن العبد الآخر أكثر حظوةً عند الله منك لأنه منحه رزق النفوس رزق الأرواح وهي المعارف، قال الله عز وجل: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {14}" (سورة القصص: 14)

هذا هو الرزق.. وقد ورد في بعض الأحاديث: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وكأن النبي عليه الصلاة والسلام استعمل كلمة الطعام والشراب للرزق الروحي وهو أشرف أنواع الأرزاق.

يا أيها الإخوة الأكارم.. بشارة:
من أسباب سَعة الرزق الصلاة.. ما الدليل.. قال الله عز وجل: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى {132} وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى {133}" (سورة طه: 132)

استنباط من الآية لطيف جداً، فإذا أردت أن يزداد رزقك لن أقول لك صل فأنت مصلٍ إنما أقول لك أتقن صلواتك، فالخشوع من فرائض الصلاة لا من فضائلها، وربنا عز وجل حينما أثنى على المؤمنين، قال الله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2}" (سورة المؤمنون: 1-2)

ومن آداب العبودية أن يرجع العبد إلى ربه في كل ما يريد، في الأشياء النفيسة وفي الأشياء الخسيسة، هذا من آداب العبد مع الله عز وجل، أن يرجع إليه في كل شيء خسيساً كان أو نفيساً، أي إن الله يحب من العبد أن يسأله شسع نعله إذا انقطع.. ضيعتَ مفاتيح البيت  قل اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، اجمع بيني وبينهم، اِسأله الأشياء الخسيسة كما تسأله الأشياء النفيسة.. إذا أضعت مكان موعد اللقاء مثلاً..

ذكر لي أحد الأخوة توجه إلى المدينة المنورة ونسي العنوان الذي سوف يتوجه إليه فدعا الله في الطريق فساقه إلى البيت بشكل يسير بينما إنسان آخر بقي عشر ساعات ضائعاً عن مكان البيت.

إذاً اسأله الأشياء الخسيسة كما تسأله الأشياء النفيسة، وهذا من تمام العبودية لله عز وجل.

الدليل .. سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ماذا سأل الله، قال رب أرني أنظر إليك، فهذا من الأسئلة النفيسة من أرقى الأسئلة، ولما جاع قال: " إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ "، وهذا دليل على أن العبد يجب أن يسأل ربه كل شيء.

سيدنا علي رضي الله عنه يقول: "لستَ مطالباً بطلب الرزق ولكنك أمرت بطلب الجنة" فما الذي فعلته، تركت ما أمرت بطلبه وطلبت ما أُمرت بتركه، هذه مشكلة الناس، والله سبحانه وتعالى ضمن لهم الرزق بأدلةٍ كثيرة، قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58}" (سورة الذاريات: 58)

وقال الله تعالى: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {40}" (سورة الروم: 40)

وقال الله تعالى: "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {151}" (سورة الأنعام: 151)

وقال الله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً {31}" (سورة الإسراء: 31)

وقال الله تعالى: "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {21} وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ {23}" (سورة الذاريات: 21-23)

إذاً ربنا سبحانه وتعالى طمأننا بأنه تكفل لنا رزقنا، ومع ذلك يجهد الناس ويبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل من أجل الرزق، "خلقت السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك".

تكّفل لنا بالرزق وأمرنا أن نسعى للدار الآخرة، فقال: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {39}" (سورة النجم: 39)

ما الذي يحصل، إن الذي كُلِّفت في طلبه توانيت في طلبه والذي ضمنه لك سعيت إليه.

إذاً أَقبلوا على ما كُلِّفتم ودعوا ما ضُمِن لكم، سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام يَقول فيما تروي بعض الكتب: "لا تغتمُّوا   لبطونكم".

إنسان توفي أخوه وترك لهم خمسة أولاد ليس له مورد رزق، فصار يبكي، ثم التقى بشيخه فقال له ما بالك يا ولدي، قال توفي أخي وترك لي خمسة أيتام ، قال ألم يترك لهم شيئاً، قال بلى شيئاً يكفيهم سنة قال جيد حينما تنتهي هذه المؤونة ابدأ بالبكاء، وتروي المقولة إن هذا الرجل توفي قبل أن ينتهي الرزق بثلاثة أشهر.

أعرِفُ شخصاً سيُهدم منزله ، لسبب تنظيمي، فضاج وزمجر وأرعد، وتمزق وبكى واستعطف، وقد وُعِدَ وَعْدَاً قطعياً بتأمين بيتٍ لائق له، رغم كل الوعود والمواثيق بقي مضطرباً وضَجِراً ومات بعد أشهر عدة قبل أن يهدم بيته.

الإنسان لا ينبغي له أن يهتم للشيء أكثر مما ينبغي.

قال بعض العلماء:
"الرازق من غذّى نفوس الأبدان بتوفيقه، وحلى قلوب الأخيار بتصديقه"، دائماً الرزق رزقان رزق الأبدان ورزق النفوس، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت".

وبعض العلماء فسر القوت برزق الأرواح، يعني إذا صليت صلاةً وأعجبتك، إذا صليت وبكيت إذا قرأت القرآن وخشع قلبك تطمئن فمعناها أنك قريب من الله عز وجل، وأن هناك حياة ونبض، وأن هناك شيئاً من الإخلاص حتى خشعت، إذاً إذا أحرزتِ النفس قوتها اطمأنت، بالمعنى الأول والمعنى الثاني.

وقال بعض العلماء:
" الرزاق من خص الأغنياء بوجود الرزق "، ترى الغنيَّ أنَّ المال بين يديه كثير، يأكل ما يشتهي يشتري أجمل بيت يقتني أجمل أثاث، يذهب إلى أي مكان يشاء، يختار أجمل مركبة، يختار أجمل الثياب، يختار أجمل المصايف.

قال: " الرزاق هو الذي خص الأغنياء بوجود الرزق، وخص الفقراء المؤمنين بشهود الرزاق ".

أعطاك طعاماً وأعطى الغني طعاماً وشراباً وبيتاً ودخلاً ومركبة وأعطى الفقير المؤمن شهود الرزاق، إما أن تجد الأرزاق وإما أن تشهد الرزاق، المجموع ثابت، هناك نظرية رائعة جداً، معناها لو جمعت كل شيء أعطاك الله إياه وجمع الآخَرُ كل شيء أعطاه الله إياه لكان مجموع الاثنين واحداً، فإذا أخذ منك بعض البحبوحة عوضك عنها ببعض التجلي، وإذا أغرقك في النعيم المادي حرمك من نعيم القرب.

فهناك توازن يعبّرون عنه بأن المجموع واحد والمجموع ثابت، وهناك نظرية أخرى ليست في المعنويات في الماديات، فلو أعطى الإنسان علامة للزوجة والبيت علامة والدخل علامة ولوظيفته علامة ولصحته علامة ولوسامته علامة، تجد أن معظم الناس ينالون مجموع علامات واحد لكن متفاوتة فيما بينها، مثلاً ثمانية على الزوجة اثنان على الأولاد خمسة على الرزق فالمجموع خمس عشرة، اثنتان على الزوجة ثمان على الأولاد خمس على الرزق المجموع خمس عشرة، عشر على الرزق ثلاث زوجة اثنان على الأولاد المجموع خمس عشرة، فلو دققت ترى من له دخل أقل من حاجته هو منعم براحة البال التي لا يحلم بها من آتاه الله زرقاً وفيراً، يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: " خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر ".

شيء آخر عن الرزق، الزرق أيها الإخوة في أدق تعاريفه هو ما يُنتَفع به: المال ينتفع به، العلم ينتفع به، الخلق ينتفع به، شعور القلب بالطمأنينة ينتفع به، في أدق تعاريف الرزق، الرزق ما ينتفع به.

جاء رجل إلى حاتم الأصم، فقال من أين تأكل ، فقال من خزائنه فقال الرجل أيلقي الله عليك الخبز من السماء، فما هذا الكلام، قال لو لم تكن الأرض له لألقى علي من السماء الخبز، يرزقني من الأرض " هكذا تجد أن الإنسان حينما يطلب الرزق من الله عز وجل فالله يسوق له الرزق، يلتقي بإنسان صدفة يسأله أتعمل، يقول لا، يقول له هناك عمل.

الموضوع طويل وله آلاف الشواهد، قد ترزق من حيث لا تحتسب قد ترزق بسبب تافه جداً قد ترزق بنظرة، قد ترزق برسالة جاءتك خطأً قد ترزق ببضاعة كاسدة.

سمعت أن أحد تجار البزورية في الحرب العالمية الثانية باع السكر بزيادة قليلة فجاءت الضابطة فأغلقت المحل بالشمع الأحمر، إلى أن انتهت الحرب تضاعف السعر مائة ضعف فاغتنى إلى ولد ولده كما يقولون، فقد ترزق بشيء مزعج، فالله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين.

الشيء الدقيق أنك إذا علمت أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين أفردته بالقصد، الناس أحياناً يتجهون إلى زيد إلى عبيد إلى فلان إلى هذه الجهة يطمعون ليأخذوا، ولكن إذا علمت أن الله وحده هو الرزاق تفرده بالقصد ولا تسأل أحداً سواه، تكسب العزة والكرامة والطمأنينة والحظوة عند الله عز وجل.

قيل لإنسان آخر من أين تأكل قيل من خزائن مَلِكِ لا تدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس، خزائن الله عز وجل مفتوحة وخزائنه مملوءة وخزائنه فيها كل شيء، والدليل.

قوله تعالى:"وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21}" (سورة الحجر: 21)

من أسخف النظريات أن يقول الإنسان إن موارد الأرض تشح، إن الأرض مهددة بمجاعة، إن ازدياد السكان ازدياد هندسي، "مالتوس" يقول الانفجار السكاني سيوقع الناس بمجاعة كبيرة، هذه كلها كلمات من لا يعرف الله عز وجل، لأن كل تقنين أو تقتير أو تقليل في الرزق هو تقليل وتقنين من نوع التأديب لا من نوع العجز، والإنسان وحده إذا قنَّن فعن عجز أما الإله إذا قنن فلغاية التأديب فقط.

امرأة أحد العارفين بالله قيل لها كيف يرزقك زوجك قالت زوجي ليس رزَّاقاً بل كيّال.

فمن الأخطاء الشائعة أخطاء في التوحيد، يقولون فلان معيل، أي عنده عائلة كبيرة، والصواب فلان مُعال وليس مُعيل، المُعيل هو الله عز وجل، والناس كلهم على مائدة الرحمن.

كما قلت قبل قليل إن الله عز وجل خص الأغنياء بوجود الأرزاق وخص الفقراء بشهود الرزاق، فمن شهد الرزاق ما ضره ما فاته من الأرزاق، من علامة المؤمن أنه إذا عرف الله ووصل إليه ما تألم على شيء فاته من الدنيا قط، إذا تألمتَ ألماً شديداً وإذا احترق القلب حرقة لاذعة على شيء فاتك من الدنيا فهذه علامة أنك لا تعرف الله وأنك ما وصلت إليه، فلو وصلت إليه لما تألمت ولما حزنت على شيء فاتك من الدنيا إطلاقاً.

وقد قيل إن سيدنا الصديق رضي الله عنه ما ندم على شيء فاته قط، أحياناً تجلس مع إنسان تحس قلبه يحترق ندماً لأن هذه الأرض باعها ثم أصبح سعرها مائة ضعف، متألم ألماً شديداً ألماً لا حدود له - بل إن معظم الأمراض اليوم أمراض القلب والشرايين أمراض المعدة وأمراض الأعصاب وأمراض الأوعية، هذه الأمراض أكثرها بسبب الآلام والندم، دائماً يتألم، أما إذا شهدت الرزاق ما ضرك ما فاتك من الأرزاق.

ومن عرف أن الرزاق واحد قصده ولم يسأل أحداً سواه، كلكم يعرف القصة التالية أن أحد خلفاء بني أمية طلب عالماً جليلاً ليلتقي به، فالتقى به، فأراد هذا الخليفة أن يكرم هذا العالم، قال له سلني حاجتك، فقال والله إني لا أسأل غير الله في بيت الله، فهذا بيت الله أستحي أن أسأل أحداً سواه، فلما التقى به خارج المسجد قال له سلني حاجتك، قال والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها؟ فلما أصَّر عليه، قال أطلب منك الجنة، قال هذه ليست لي، قال إذاً ليس لي عندك حاجة.

هذا العِزّ عزة التعفف، فما أجمل أن يعطي الغني الفقير، والأجمل من ذلك أن يتعفف الفقير عن مال الغني وأن يقول الحمد لله.

قال بعض العلماء:
" كما أن الله لا شريك له في خلقه، لا شريك له في رزقه، كما أنه لا إله إلا الله، أيضاً لا رازق إلا الله.

يقولون دائماً إذا أعطى أدهش.

ولو كانت الأرزاق تجري مع الحجى

هلكــــــــــــــن إذاً من جهلهن البهائم


ترى إنساناً ذكياً جداً رزقه قليل وقد تجد إنسان في منتهى البساطة والسذاجة رزقه وفير، فمعناها الرزق له عامل آخر غير عامل الذكاء وعامل السعي، لكن تأكدوا أن للرزق علاقةً بالاستقامة، العوام يفهمون أن هذا الرزق مكتوب ولا حيلة لأحد في كسبه ودفعه، هذا الكلام صحيح من جانب واحد، فالله يقول: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً{16}" (سورة الجن: 16)

وقال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {96}" (سورة الأعراف: 96)

" قد يحرم المرء بعض الرزق في المعصية " حديث شريف.. إذا أردنا أن نوضح هذه الحقيقة، مثلاً إذا رأيت أن ابنك ليس أهلاً لتملك المال، فإنك تعطيه الحد الأدنى، تعطيه مبلغاً يسيراً يكفي حاجاته الضرورية، أما إذا كان ابنك من أهل الصلاح، ورعاً واستقامةً واتزاناً وحكمةً تقول له أبقِ معك الخمسمائة ليرة لا شيء عليك، أما خمسمائة لولد آخر يذهب لأماكن لا ترضي الله عز وجل تعطيه ثمن شطيرة ثمن ركوب سيارة، الحد الأدنى.. لذلك قال الله تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ {27}" (سورة الشورى: 27)

الفكرة خطيرة وهامة جداً، التقنين تقنين تأديب لا تقنين عجز، أو الأصح من ذلك التقنين تقنين حكمة لا تقنين حاجة.

يروى في بعض الكتب أن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، سأل الله في مناجاته، قال يا رب إني تعرض لي الحاجة الصغيرة أحياناً، أفأسألها منك أم أطلبها من غيرك، أي أن الإنسان أحياناً يحتاج شيئاً بسيطاً، فمرةً حدثني طبيب ناشئ أول ما فتح عيادة له ووالدته مريضة في دمشق وهو في بلد آخر، يحتاج لمبلغ معين، فقال يا رب أريد المبلغ الفلاني، فعلى خلاف العادة أتاه مريض وراء مريض.. إلى أن اجتمع المبلغ بكامله.

الإنسان أحياناً عليه دفع.. ليقل يا رب ليس عندي فأعطني، عوّد نفسك الطلب من الله فإذا رأيت الزوجة متصلبة برأيها فقل يا رب.. رأيت الشريك مزعج.. فقل يا رب لطفه.. وجدت الابن منحرف.. يا رب أدبه.. وجدت العمل مزعج.. فقل يا رب بدله لي، عوّد نفسك أن تسأل الله عز وجل كل شيء.

قال يا رب إني لتعرض لي الحاجة الصغيرة أفأسألها منك أم أطلبها من غيرك؟ فأوحى الله تعالى إليه، لا تسل غيري.

أحياناً الإنسان مع أخيه المؤمن يقول إكراماً له: إياك أن تسأل أحداً غيري، كلما سنحت لك حاجة تعال إلي وخذها مني، هذه منتهى المودة، فإنك إذا أحببت إنساناً حباً شديداً، فإنك لا ترضى أن يبذل ماء وجهه لغيرك، فإنك تقول له إياك وأستحلفك بالله أية حاجة تعرض لك فأَتِ إلي، وكأن الله عز وجل لشدة حرصه علينا وحبه لنا قال لا تسأل غيري.

يُحكى عن حماد بن مسلمة أنه قال، كان في جواري امرأة أرملة لها أيتام، وكانت ليلة ذات مطر، فسمعت صوتها، تقول يا رفيق أُرفق بحالي، قال فخطر ببالي أنها أصابتها فاقة، فصبرتُ حتى احتبس المطر، فحملتُ معي عشرة دنانير، وقرعت عليها الباب، فقالت: حماد بن مسلمة؟ "يبدو أنه معروف بالصلاح" فقلت نعم حماد، كيف الحال، فقلت في خير وعافية، احتبس المطر ودفي الصبيان، فقال خذي هذه الدنانير وأصلحي بها بعضَ شأنك.. عندها بنية صغيرة، صاحت هذه البنية، لا نريد يا حماد أن تكون بيننا وبين الله، ثم قالت لأمها لما رفعت صوتك بإظهار السر علمت أن الله يؤدبنا بإظهار الرفق على يد مخلوق.
يتبع إن شاء الله...