توهُّم وجود أخطاء نحوية في القرآن الكريم
توهُّم وجود أخطاء نحوية في القرآن الكريم Ocia1699
زعموا أن في القرآن أخطاء نحوية، من قبيل رفع ما حقه النصب أو الجر، أو نصب ما حقُّه الرفع أو الجر... إلخ.          

وفيما يلي شبهاتهم والآيات التي استشهدوا بها، والرد عليهم:
1) قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة: 124، زعموا أن القرآن قد أخطأ فنصب الفاعل "إبراهيمَ" ورفع المفعول "ربُّه"، وكذا في "الظالمين" وهو -في ظنهم- فاعل "ينال".

أمَّا قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} فالفاعل "ربُّه"، والمفعول "إبراهيمَ".

وقُدِّم المفعول لسببين:
السبب الأول: سبب بلاغي
وهو إفادة الاهتمام بمن وقع به الابتلاء؛ إذ من المعلوم أن الله هو المبتلِي، وإبراهيم عليه السلام جد العرب، والقصة مسوقة لدفعهم إلى اتباع سُنَّة أبيهم إبراهيم في امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه.

والسبب الثاني: تركيبي
ففي مثل هذا التركيب يتحتم تقديم المفعول على الفاعل؛ كي لا يعود الضمير "المتصل بالفاعل" على متأخر في اللفظ والرتبة؛ إذ لو قيل: "ابتلى رَبُّه إبراهيمَ" لعاد الضمير "الهاء في ربه" على متأخر لفظًا ورتبة "إبراهيم"، وهذا يقود إلى اضطراب تركيبي والتباس دلاليّ؛ لأنه يكون حيئنذٍ إضمارًا قبل الذكر[1]، أي وجود ضمير لا صاحب له، وعلى المخاطَب في هذه الحالة أن يفتش عن صاحب الضمير حتى يعثر عليه فيفهم المعنى!

والأمر أيسر من ذلك، فتقديم المفعول على الفاعل كثير مشهور في كلام العرب بحيث لا يحتاج إلى استشهاد.

وأمَّا قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}؛ فالفاعل فيه "عهدي" و"الظالمين" مفعول به، والمعنى: أن العهدَ لا ينال الظالمين، أي لا يصيبهم.

وجعْلُ العهد فاعلاً: من باب المجاز العقلى الشائع فى اللغة  شيوعًا كبيرًا، ولا قيام للغة إلاَّ بوجوده بل إن اللغة تنهار انهيارًا كاملاً بغير هذا النوع من المجاز، وإلاَّ فكيف نعبِّر عن معانٍ من قبيل: ناله الجهد، حلَّ به التعب، أرهقته  المشاكل.. إلخ؟ حيث جُعِل كلٌّ من: الجهد والتعب والمشاكل فاعلاً، والإنسان مفعولاً.

وكذلك يَصِحُّ فى العهد أن "يَنَالَ" أي يُصِيب فيكون فاعلاً كما في الآية، ويصح أن "يُنَالَ" فيكون مفعولاً، كما في قراءة أبي رجاء وقتادة والأعمش "وكلها قراءات شاذة": "لا ينال عهدي الظالمون"[2]، وكما في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} آل عمران: 92.

2) قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} طه: 63.          

زعموا أنه رفع ما حقه النصب؛ حيث جاء اسم إن "هذان" مرفوعًا؛ لأن الألف علامة الرفع للمثنى.

أولاً: في هذه الآية ست قراءات[3] منها القراءة التي استندوا إليها في تخطئة القرآن الكريم، وهي بتشديد نون "إنَّ"، و"هذان" بالألف، مع إثبات اللام في "لساحران"، وهي قراءة المدنيين والكوفيين، وهي قراءة متواترة.

ثانيًا: للعلماء في توجيه هذه القراءة أقوال عديدة نختار منها
أنها على لغة من لغات العرب تلزم المثنى الألفَ في جميع مواقعه الإعرابية، وتعامله معاملة المفرد المقصور، مثل: رِضَا، عَصَا.

ومن ذلك قول الشاعر:
فأطْرَقَ إطراقَ الشجاعِ ولو يَرَى
مَسَــاغًا لِنَابــاهُ الشُّجــاعُ لَصَمَّمَا


فقال: "لناباه".          

وهي لغة فصيحة مشهورة لكثير من العرب مثل: كنانة، وبني الحارث وخثعم، وزبيد، وبني العنبر، وبني الهجيم، ومراد، وعذرة[4].

فهل كل هؤلاء العرب يخطئون في استعمال لغتهم؟

ومن أين يؤخذ الصواب إذن؟

أو ليس النحو العربي استقراءً لما جرى عليه كلام العرب، ووصفًا لطرائقهم في التركيب وغيره من مستويات اللغة؟!

3)  قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} البقرة: 177؛ حيث جاء المعطوف منصوبًا "الصابرين"، والمعطوف عليه مرفوع "المُوفُون".

ومثل ذلك قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} النساء: 162؛ حيث إن المعطوف الوحيد المنصوب في الآية هو "المقيمين"، وما سبقه وما تلاه مرفوع: "الراسخون - المؤمنون - المؤتون - المؤمنون".

وادِّعاء وجود خطأ نحوي في الآيتين ليس إلا جهلاً بأساليب اللغة العربية، وأسرار البلاغة فيها، وهو قصور في النظر لا يرى صاحبه سوى المستوى السطحي الظاهر للتركيب، أما على المستوى الأعمق فالكلمتان في الآية منصوبتان على الاختصاص والمدح، والتقدير: وأخصُّ الصابرين، وأخصُّ المقيمين، أو على تقدير: أمدح الصابرين، والمقيمين.

ولهذا الأسلوب غرض بلاغي هو التنبيه على فضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال؛ فالصبر مبدأ الفضائل وجامعها؛ إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ؛ وكذا في "المقيمين" لبيان فضيلة الصلاة على سائر الأعمال المذكورة في الآية، ولِذَا غُيِّرَ إعرابها بالنصب على المدح والاختصاص؛ ليكون ذلك أدعى إلى لفت الأنظار والأسماع،  فالكلام عند اختلافه يصير كأنه أنواع متباينة، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهًا واحدًا[5].

وباب النصب على المدح والاختصاص باب واسع في العربية حتى لقد عقد له سيبويه بابًا في كتابه أورد فيه كثيرًا من الشواهد والأمثلة من كلام العرب الفصيح[6].

4) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} المائدة: 69؛ حيث رفع المعطوف على منصوب "الصابئون"، على حين جاءت الكلمة نفسها منصوبة في مثل هذا السياق في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة: 62، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الحج: 17.

وجمهور المفسرين قدَّروا  قوله تعالى: "والصابئون" مبتدأ وجعلوه مقدمًا من تأخير، وقدّروا له خبرًا محذوفًا لدلالة خبر "إنَّ" عليه، وأنَّ أصل النظم: إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى لهم أجرهم إلخ، والصابئون كذلك، جعلوه كقول ضابئ بن الحارث: فَإِنِّي وَقَيّارٌ بِها لَغَريبُ

وبعض المفسرين قدَّروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة.

والذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النظم، وأليق بمعنى هذه الآية.

وبعد فممّا يجب أن يُوقَن به أن هذا اللفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرأوه، وكُتِب في المصاحف، وهم عرب خُلَّص، فكان لنا أصلاً، نتعرف منه أسلوبًا من أساليب استعمال العرب في العطف، وإن كان استعمالاً غير شائع، لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أنَّ من الشائع في الكلام أنه إذا أُتِيَ بكلام مؤكد بحرف "إنَّ" وأُتِي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفًا هو غريب في ذلك الحكم ـ جيء بالمعطوف الغريب مرفوعًا؛ ليدلُّوا بذلك على أنهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدِّر السامع خبرًا بحسب سياق الكلام.           

ومن ذلك قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} التوبة: 3، أي ورسوله كذلك، فإن براءته منهم -في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم- أمر كالغريب؛ ليظهر منه أن آصرة الدين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا، لَمَّا كان الصابئون أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام؛ لأنهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحق لهم النجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا، وكان الإتيان بلفظهم مرفوعًا تنبيهًا على ذلك.          

لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يُؤتَى بهذا المعطوف مرفوعًا إلا بعد أن تستوفي "إنَّ" خبرها، إنّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخرًا، أمَّا تقديمه -كما في هذه الآية- فقد يتراءى للنّاظر أنه ينافى المقصد الذي لأجله خُولِفَ حكم إعرابه، ولكن هذا أيضًا استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضى حالين، وهما: الدلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم، والتنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر، فإن الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود.          

فنبَّه الكلَّ على أنَّ عفو الله عظيم، لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التقديم مع الرفع، ولو لم يُقَدَّم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنه لو لم يُرفَعْ لصار معطوفًا على اسم "إنَّ" فلم يكن عطفه عطف جملة.

وقد جاء ذكر الصابئين في سورة الحج مقدمًا على النصارى ومنصوبًا، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنهم أمام عدل الله يساوون غيرهم[7].

5) قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} الأنبياء: 80 .          

ظن مثير هذه الشبهة أن كلمة "شاكرون" حال، ومن حق الحال أن يُنْصَب، وعلى ذلك الوهم ففي الآية خطأ نحوي؛ حيث جاءت كلمة "شاكرون" مرفوعة بالواو، والصواب -عندهم- أن يُقال: فهل أنتم شاكرين!!

وهذه شبهة لا تستحق الرد عليها؛ لأن صاحب الشبهة لا يعرف أبجديات النحو العربي، وليس في الجملة حَال.

وإعرابها كالتالي:
- هل: حرف استفهام لا محل له من الإعراب.

- أنتم: ضمير مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

- شاكرون: خبر المبتدأ مرفوع بالواو.

ولا وجه مطلقًا لما ادَّعاه صاحب هذه الشبهة.

6)  قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} هود: 10؛ حيث جاءت كلمة "ضرَّاءَ" منصوبة بالفتحة! والصواب -في زعمهم- أنها مجرورة بالإضافة، فكان ينبغي أن يُقال: بَعْدَ ضرَّاءٍ!!

وقد التبس الأمر على صاحب الشبهة فظنَّ أن كلمة "ضرَّاءَ"  منصوبة؛ لأنه لا يعرف من علامات الجر سوى الكسرة.

ونقول له:
لو أنك راجعت أيَّ كتاب في النحو لعلمت أن كلمة "ضَرَّاءَ" ممنوعة من الصرف؛ لانتهائها بألف التأنيث الممدودة؛ ولذا تُجَرُّ بالفتحة نيابة عن الكسرة، وإعرابها في الآية: مضاف إليه مجرور "بالفتحة".

7) قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} الإنسان: 15 ـ 18؛ حيث جاءت كلمة "قواريرًا" وكلمة "سلسبيلاً" مصروفتين، وهما ممنوعتان من الصرف، وكذا كلمة "سلاسلاً" في قول الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} الإنسان: 4.          

وهذا -في زعمهم- خطأ؛ لأنه صرف ما حقُّه المنعُ من الصرف.

أولاً:
التنوين في هذه الكلمات "قواريرًا ـ سلسبيلاً ـ سلاسلاً" ليس تنوين صرف؛ وإنما هو بدل من ألف الإطلاق في ختام الآيات، وفي "قواريرًا" الثانية على الإتباع، أي التناسب الصوتي بين كلمة الفاصلة والتالية لها، وفي كلمة "سلاسلاً" -على قراءة من قرأ بتنوينها- إجراء للوصل مجرى الوقف[8].

والغرض من ألف الإطلاق مراعاة الجرس الموسيقي في فواصل الآيات، وهذه خاصة من خصائص النظم القرآني[9].

ثانيًا:
حتى لو افترضنا أن تنوين هذه الكلمات هو تنوين صرف، فليس هذا خطأً، بل إن من العرب من يصرف كل ممنوع من الصرف ما عدا (أفعل من)[10].

وعلى ذلك يجوز صرف كلمات "قوارير ـ سلاسل ـ سلسبيل"، وهذا منقول عن العرب أصحاب هذه اللغة.

وسواء أكان تنوين هذه الكلمات ـ كما رأينا ـ تنوين صرف، أو تنوين إطلاقٍ، فلا خطأ في الاستعمال القرآني.

قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} المنافقون: 10؛ حيث جاء الفعل "أكنْ" مجزومًا، والصواب أن يكون منصوبًا؛ لأنه معطوف على فعل منصوب "فأصَّدَّقَ".

جُزِمَ الفعل "أكنْ" في الآية الكريمة عطفًا على المَحَلِّ؛ وتقدير الكلام: إنْ أخرتني أصدقْ وأكُنْ [11].

والعطف على المحلِّ شائع معروف في كلام العرب.

قال الشاعر:
فَأَبْلُوني بَلِيَّتَكُم لَعَلِّي      أُصَالِحُكُم وأسْتَدْرِجْ نَوَيَّا [12]

فجاء بأحد الفعلين المعطوفين مرفوعًا "أصالِحُ"، وبالآخر مجزومًا "وأستدرجْ".

والجمع بين الفعلين "فأصدق -وأكن" بالعطف- مع نصب أحدهما بفاء السببية وجزم الآخر بالعطف على محل جواب الشرط ـ هذا الجمع من بدائع الاستعمال القرآني؛ لما فيه من إيجاز بليغ مع تمام المعنى في أقل لفظ ممكن، وذلك أن تقدير الكلام: لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ وأكونَ من الصالحين "أي فيكون هذا التأخير سببًا في تصدقي وصلاحي"، ثم عاد السائل فكرَّر سؤاله بصورة الشرط: إنْ تؤخرني إلى أجلٍ قريبٍ أصدقْ وأكُنْ من الصالحين.

فاجتماع وظيفتين نحويتين في الفعلين المعطوفين، أدَّى إلى الدلالة على معنيين دلاليين هما السببية والشرط، في لفظ موجزٍ معجز[13].

9) قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الأنبياء: 3.          

زعموا أن الآية جاءت بفاعلين "واو الجماعة، الذين" لفعل واحد "أسرَّ".          

والصواب -في زعمهم- أن يُقال: وأسرَّ النجوى الذين ظلموا.

وقد ذكر ابن هشام في هذه الآية أحد عشر وجهًا[14]، نذكر منها:

· أن الواو علامة جمع فقط، وليست فاعلاً، فهي مثل تاء التأنيث في "قالت"، وهذه لغة طيئ.

وعليه قول الشاعر:
يَلُومُونَني في اشتراء النخيـ *** ـلِ أهلي فكلُّهُمُ أَلْوَمُ

وقول الشاعر:
تَوَلَّى قِتالَ المارِقينَ بِنَفسِهِ *** وَقَد أَسلَماهُ مُبعَدٌ وَحَميمُ

ومنه في الحديث الشريف قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار" [15].

*       أن الواو هي الفاعل، و"الذين" بدل منها.

*       أن الواو فاعل، و"الذين" خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم الذين.

*       أن الواو فاعل، و"الذين" بدل من واو "استمعوه" في الآية السابقة.

*       أن الواو فاعل، و"الذين" منصوب على الاختصاص والذم بفعل محذوف والتقدير: أذمُّ أو أعني الذين ظلموا.

*   أن الواو فاعل، و "الذين" مجرور على أنه بدل من الناس في قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الأنبياء: 1.

ولعل أرجح هذه التخريجات وغيرها: الأول والثاني، وهو ما يُشعِر به صنيع كثير من المفسرين؛ حيث بدأوا بهما، كالزمخشري[16]، وأبي حيان[17]، وقالا تعليقًا على كون الواو فاعلاً، و"الذين" بدلاً منها:

أبدل "الذين ظلموا" من واو "أسروا"؛ إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرُّوا به.

يُضاف إلى ما تقدَّم أن مجيء الآية على هذه الصورة من التركيب فيه فائدة بلاغية؛ حيث جاءت على نسق الاستئناف البلاغي، وهو أن تتقدم جملة من الكلام تثير في ذهن السامع تساؤلاً يَدِبُّ في نفسه؛ فتأتي جملة أخرى تجيب عن هذا التساؤل الذي ليس له صورة لفظية في الكلام، وإنما هو مُقَدَّرٌ ورودُه في ذهن السامع أو القارئ، فكأن جملة {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قد أثارت في ذهن المخاطب سؤالاً هو: من الذين أسروا النجوى؟ فكان الجواب: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} وفي هذا الأسلوب إشارة إلى تقبيح نجواهم ووسم فعلهم هذا بأنه ظلم [18].

*****************
[1] الكشاف 1 :  309، البحر المحيط 1 :  375.
[2] البحر المحيط 1 :  377.
[3] الأولى: وهى قراءة المدنيين والكوفيين "إنّ هذان لساحران" بتشديد النون، وهذان بالألف، واللام في ساحران.
الثانية: قراءة الزهرى وإسماعيل بن قسطنطين والخليل بن أحمد وعاصم في إحدى الروايتين: "إنْ هذان لساحران".
الثالثة: قراءة عبد الله بن مسعود "إنْ هذان إلاّ ساحران".
الرابعة: قراءة عبد الله: "أنْ هذان ساحران".
الخامسة: قراءة أُبَىّ: "إنْ هذان إلاّ ساحران".
السادسة: قراءة الأعمش، والجحدرى، والحسن، والنخعى، وابن جير: "إنّ هذين لساحران".
[4] انظر: الكشاف 2 : 543، البحر المحيط 6 : 255.
[5] الكشاف 1 : 331، 1 : 582، البحر المحيط 2 : 7 ـ 8، 3 : 395 ـ 396.
[6] الكتاب، سيبويه 2: 233 ـ 235.
[7] التحرير والتنوير، مجلد 4، ص 270 ـ 271.
[8] الكشاف 4:  195ـ 198.
[9] البحر المحيط 8: 397.
[10] شرح الرضى على كافية ابن الحاجب 1: 38.
[11] الكشاف 4 :  112، البحر المحيط 8 : 275.
[12] مغني اللبيب، ص 620 ـ 621.
[13] التحرير والتنوير، مجلد 13، جـ28، ص 254.
[14] مغني اللبيب، ص 480 ـ 481.
[15] البخاري (فتح الباري: 6878، 6932)، ومسلم (بشرح النووي: 54، 822، 1001، 1466).
(2) الكشاف 2 : 562.
[17] البحر المحيط 6 : 297.
[18] الكشاف 2: 562.