في ظلال رمضان..
(15) حفظ القلب من الغواية Ocia1623
(15) حفظ القلب من الغواية

كما تُضعِف الذنوب العلم والتصديق أو تنفيه، فإنها قد تضعف إرادة القلب ومحبته لله تعالى أو تنفيها، فالقلب خُلق مفطورا على محبة الله وطلبه وعبادته، وإنما أيضا تغشى غواشي الذنوب على هذه الإرادة فتضعُف، أو تنتفي فينحرف بها العبد الى غيره تعالى.
 
كم من قلب لا يتم رشده بل يغوى عن علم وبينة، يُعرَض عليه الحق فيكرهه ويأبه ويدفعه، لا لافتقاد دليل بل لأنه يخالف هواه ويراه مانعا له عن نيل شهواته ومطالبه المنحرفة، قال تعالى في شأن هؤلاء: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]، وهؤلاء بخلاف من أتم الله تعالى لهم رشدهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7-8].
 
أن ترى الحق حقا خير، لكن لا تتم النعمة الا باتباعه، واتباعه لا يتم الا بحبه وإرادته..

وكذلك أن ترى الباطل باطلا خير، لكن لا تتم النعمة إلا باجتنابه، ولا يتم اجتنابه الا بأن تفر منه وتكرهه.
 
وكما قد يفتقد العبد الحق لنفرته منه فقد يفتقده لإعراضه وعدم الاحتفال بشأنه..

إن إفساد الذنوب لإرادات القلوب قد يكون مضعفا، كما يحدث لغالب العصاة والمذنبين، وقد يكون مهلكا، كما قال السلف (المعاصي بريد الكفر)، والهلكة إما برفض القلب والنفرة منه لمخالفة الهوى، أو إعراضه عنه وانشغاله بغيره فيعظّم ما فيه من أمر الدنيا ويحتقر أمر (الدين) عموما فلا يحفل بصدق الرسول ولا بما معه من الحق.
 
فالتوبة والاستغفار تعيد القلب الى فطرته، فإذا رفعت تلك الحجب والغواشي والأدران المانعة وجد العبد في نفسه من حب ربه تعالى وإرادته وإيثاره على ما سواه ما لم يكن يشعر به، رغم أنه مفطور عليه..

ثم يأتي نور الوحي مؤكداً لتلك الإرادة ومفصِلاً لها، كما أكد المعرفة وفصّلها، فيكون في القلب البينة، علماً وعملاً، ثم يأتي شاهد الوحي مؤكداً ومفصلاً ومقرراً، وهذا معنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17]، ومعنى (يتلوه) يعني يتبعه، فتتم للعبد نعمة ربه تعالى.
 
فما احتاج العبد الى شيء حاجته الى الانخلاع من المعاصي والتطهر منها وأن يغسل قلبه بتوبة ماحية، فتعمل فطرته ويستقبل الوحي مصدقاً، ويتلقاه كالماء البارد على الظمأ..

ومن تمت له إرادته للحق كما تم له العلم والتصديق والتصور التام، فقد أوثر بخير كثير..

ومن كان أتم إرادة وأتم علما، كان أتم هداية..

ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلفاءه الراشدين بقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (منهاج السنة 4/164)..

فالرشد في الإرادة والهداية في العلم..

ومثل هذا يقطع في لحظات وأيام ما يقطعه غيره في سنوات، ويأخذ في سيرة الأولين ويصحبهم، وقد يسبق مع السابقين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 13- 14]، وقد يوزع اليقين على إخوانه وأمته، قد يثبُت ويثبّت الله به أمَّة.. لا تدري، فقط اصدق الله يصدقك.