عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان (2)
الشيــخ: مـحــمـود الـعــــــشري
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
التمـهيد Ia_aya12
1 - التمـهيد
لقد أجمع العُقلاء على أن أنفسَ ما صُرِفتْ له الأوقات، هو عبادة ربِّ الأرض والسموات، والسَّير في طريق الآخرة، وبذل ثَمن الجنة، والسعاية للفكاك من النار.

ولما كان هذا الطريقُ -كغيره من الطُّرق والدروب- تكتَنِفُه السُّهول والوِهَاد والوِدْيان والجبال والمَفاوز، ويتربَّص على جنباته قُطَّاع الطُّرق ولصوص القلوب؛ احتاج السَّائر إلى تَلَمُّسِ خِرِّيت -الدليل الحاذق في معرفة الطرق والمسالك- يُبَصِّرُهُ الدروب الآمنة، والمسالك النافذة، ويُعَرِّفُهُ مكامن اللُّصوص، وأفضل الأزمنة للسَّير، وأنسب الأوقات للجدِّ في السفر، وهذا الخِرِّيت -في طريق الآخرة- هو منهج سلَفِنا الصالح في النُّسك، وطرائقهم في السير إلى الله -تعالى- وعباراتهم في الدلالة عليه، فهذه -بحقٍّ- خيرُ معوان على انتحاء جهة الأمان، وهذا النسك السَّلفي العتيق، والمنهج السُّني الرشيد في التزكية، لا غِنى عنه لكلِّ طالب طريق السلامة، فلا عصمة لمنهجٍ في مُجْمله إلا المنهج السَّلفي.

ولما كانت الأزمنة الفاضلة من أنسب أوقات الجدِّ والاجتهاد في الطاعة، وكان شهر رمضان من مواسم الجود الإلهيِّ العميم، حيث تُعتَق الرِّقاب من النار، وتوزَّع الجوائز الربَّانية على الأصفياء والمُجتهدين؛ كان لزأمَّا أن تتواصى الهِممُ على تحصيل الغاية من مرضاة الربِّ في هذا الشهر، وهذا من التواصي بالحقِّ المأمور به في سورة العصر.

وإذا كان دُعاة الباطل واللَّهو والفجور تتعاظم هِممُهم في الإعداد لغواية الخَلْق في هذا الشهر بما يُذِيعونه بين النَّاس من مسلسلاتٍ ورقص، ومُجونٍ وغِناء، فأَخْلِقْ بأهل الإيمان أن يُنافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البِرِّ والتَّقْوى!

ولقد صامَتْ أمَّتُنا دهورًا، غير أنَّ صومها لهذا الشهر ما كان يَزِيدُهَا إلاَّ بعدًا عن ربِّها ومليكها وحاكمِها الحقيقي، فصار رمضان موسِمًا مُفَرَّغًا من مضمونه، مُجَرَّدًا عن حقائقه، بل صار ميدانًا للعربدة، وشَغْل الأوقات بما يغضب الكريم المتعال -سبحانه وتعالى-، وعزَّ وجلَّ.

ولو تجهَّزَت الأمة لهذا الشهر الفضيل، وأعدَّت له عُدَّته، وشَمَّر الناس جميعًا سواعد الجِدِّ، وشَدُّوا مآزرهم في الطاعة، لرأَيْنا أمَّة جديدة تُولد ولادةً شرعيَّة، وذلك بعد استعداد جادٍّ ومَخاض، عولِجَت فيه الهمم والعزائم؛ لِتَدخل في الشهر وهي وثَّابة إلى الطاعات.

وهذا التمهيد نصيحةٌ لعامَّة المسلمين، بَثَثْتُهَا غَيْرةً على حالهم مع الله -تعالى- في هذا الشهر، وجُهدُ مُقلٍّ أبذله تَأَثُّمًا، ويعلم ربِّي ما هنالك، هي منهاجٌ في كيفية الاستعداد لشهر رمضان، وبيانٌ لبعض الأعمال التي ينبغي أن يقوم بها سالك طريق الآخرة لاستثمار رمضان، إرشادات نَفِيسة من أئمَّة التربية والتزكية من السَّلف الصالح، تقود المرءَ قيادةً حثيثةً للوصول إلى درب القبول، حرَصْتُ فيها أن تكون واقعيَّة وعمَلية، وقبل ذلك: سلَفِيَّة سُنِّية، بيَّنت فيها طرق الاستعداد للشهر الكريم بعزيمة قويَّة قادرة على الاجتهاد الحقيقيِّ في الطَّاعة، بدلاً من الأمانيِّ والأحلام.

وأنا لك ناصحٌ -أخي يا بن الإسلام-: إذا أردتَ الاستفادة من هذا السِّفْرِ فلا تَمُرَّ على ألفاظه مرَّ الكرام، بل جُلْ بخواطرك حول المعنى ومعنى المعنى؛ فلقد استلَلْت لك النقي، وانتقيتُ لك الأطايب، فإذا استدللتُ بآيةٍ فَحُمْ حول حِماها، ثم طُفْ في أعماق مداها، وإذا ذكرتُ لك حديثًا فتمثَّل نفسك جالسًا بين يدي النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تَسْمعُه وتتدبَّر عنه، وإذا رَويتُ لك سيرة عبقريٍّ من السَّلف فهَبْ نفسك ترمقه عن كثب، كأنَّك في حضرته تشتار من رحيق كلماته، وبدون ذلك فلا تَتَعَنَّ، فإنما جمَعتُه لك ورتَّبته لتتذوَّق، لا لتقول للناس: قرأتُه!

واعلم أخيرًا أنَّ ما ذكرتُه لك في هذا التمهيد ما هو إلاَّ محاولة لتكوين صورةٍ عن الشخصية الربَّانية ذات العلاقة العامرة بإله الكون، والمهيَّأة لسيادة البشريَّة، وإنقاذها من وهدتها.