الوقفة الثانية: السيرة والاستشراق 2127
الوقفة الثانية: السيرة والاستشراق
لقد عرف المسلمون رسولهم -صلى الله عليه وسلم- منذ ولادته، فلم تكن طفولته غامضة، كما يزعم بعض المستشرقين، من أمثال مونتجمبري وات، والمستشرق كارل بروكلمن في كتابه: تاريخ الشعوب الإسلامية، والمستشرق يوليوس فلهاوزن، وقال قريبًا من هذا المستشرق موير، والمستشرق نيكلسون، والمستشرق مرجليوت في كتابه: محمد، والمستشرق كانون سيل في كتابه: حياة محمد، وجورج بوش في كتابه: محمد مؤسس الدين الإسلامي، ومؤسس إمبراطورية المسلمين، المترجم أخيرًا إلى اللغة العربية، وغيرهم كثير، ممن ورد ذكرهم في هذه الوقفة، وغيرهم.

لم تسلم سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من الهمز واللمز، والطعون والشبهات، والمزاعم والأخطاء، والتناقضات والإنكار، من قبل رهط من المستشرقين الذين تعرضوا لحياة الرسول -عليه الصلاة والسلام.
وهذه السمات هي مجمل المواقف من سيرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسنته المطهرة، في متنها وسندها، الذي تنفرد به الثقافة الإسلامية في التحقق من الرواة الثقات من أهل الحديث الشريف، مما أوجد علمًا من علوم الحديث الشريف، اصطلح على تسميته بعلم: الجرح والتعديل.

يقول ألويس شبرنجو في مقدمة بالإنجليزي لكتاب الإصابة في تمييز الصحابة المطبوع في كلكتة سنة 1853 - 1864م: (لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة، أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم الخطير الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشؤونهم)، يؤيد موريس بوكاي هذه الشهادة بقوله، حول تدوين الحديث واشتغال المسلمين فيه: (كان همهم الأول في عملهم العسير في مدوناتهم منصبًّا أولًا على دقة الضبط لهذه المعلومات الخاصة بكل حادثه في حياة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبكل قول من أقواله، وللتدليل على ذلك الاهتمام بالدقة والضبط لمجموعات الأحاديث المعتمدة، فإنهم قد نصوا على أسماء الذين نقلوا أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، وذلك بالصعود في الإسناد إلى الأول من أسرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن صحابته ممن قد تلقوا هذه المعلومات مباشرة من محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وذلك بغية الكشف عن حال الراوي في جميع سلسلة الرواية، والابتعاد عن الرواة غير المشهود لهم بحسن السيرة وصدق الرواية ونحو ذلك من دلائل ضعف الراوي الموجبة لعدم الاعتماد على الحديث الذي روي عن طريقه، وهذا ما قد انفرد به علماء الإسلام في كل ما روي عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم-).

تلك هي أبرز المواقف الاستشراقية من السنة النبوية والسيرة العطرة، التي انتقلت إلى أيامنا هذه، وبلغات غربية متعددة، أبرزها وأقدمها اللغة الإسبانية، حيث يعود التأليف بها حول نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القرن الثالث الهجري، بداية القرن التاسع الميلادي (807)، يقول محمد بن عبدالقادر برادة: (بدأ اهتمام الإسبان بالسيرة والحديث النبويين منذ القرن التاسع الميلادي، وكان أول من أدخل هذه العلوم إلى إسبانيا السوري صعصعة بن سلام (807م)، واللغة الفرنسية في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، كذلك، وتستقيان أدبيات الهجوم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كتابات بيزنطية، منقولة عن سابقة لها سورية، كما يقول أليكس جوافسكي.

ثم تأتي اللغات الأخرى؛ إذ تعود العناية بالسيرة النبوية في هذه اللغات الأخرى، غير الإسبانية، إلى قبيل قيام الحروب الصليبية 491 - 690هـ الموافق 1098 - 1291م، كما في اللغة الإنجليزية، واللغة الروسية، حينما ظهر كتاب المفكر الروسي ذي الخلفية المسيحية سوليفري: محمد: حياته وتعليمه الديني، في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري، النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وكتاب آخر ألفه نيكولاي تروناؤو جاء عرضًا لمبادئ الشريعة الإسلامية سنة 1850م، ثم اللغة الألمانية، واللغة المجرية، حيث انطلقت الكتابات عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بدءًا بما كتبه جيرمانوس جولا، الذي أسلم وحمل الاسم عبدالكريم جرمانوس، وذلك سنة 1351هـ الموافق 1932م.

ثم ظهرت اللغة العبرية لتسهم في سلسلة الطعون والشبهات لسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسنته، مستقية هذه الطعون والشبهات من اللغات الأخرى، لترسيخ مفهوم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد بنى هذا الدين على التعاليم اليهودية والمسيحية، كما يدَّعي رهط من المستشرقين، لاحقهم عالة على سابقهم.

يقول إجناس جولتسيهر: (لكي نقدر عمل محمد [عليه السلام] من الوجهة التاريخية، ليس من الضروري أن نتساءل عما إذا كان تبشيره ابتكارًا وطريفًا من كل الوجوه ناشئًا عن روحه، وعما إذا كان يفتح طريقًا جديدًا بحتًا؛ فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية، عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها التي تأثر بها تأثرًا عميقًا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقة عند بني وطنه، وهذه التعاليم التي أخذها عن تلك العناصر الأجنبية كانت في رأيه كذلك ضرورية لتثبيت ضربٍ من الحياة في الاتجاه الذي تريده الإرادة الإلهية)، وهذا في شأن الشرائع التي اختلفت فيها الأديان، أمَّا أصول الاعتقاد فهي رسالة الأنبياء جميعًا.

مما يؤخذ على الاستشراق أنه قد عجز (عن تمثل النبوة الإسلامية بشكل جيد، يعود في جانب منه إلى عدم امتلاكهم للإحساس بالعناصر الروحية، وقدرتها على إنجاز المشاريع الكبرى بوساطة استغلال قوى المادة ذاتها)، كما يقول لخضر الشايب.

هذا العجز عن التمثل مبني على عدم التصديق بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي التشكيك في صحة الحديث النبوي، يقول عماد الدين خليل في بحث له عن المستشرقين والسيرة: (إن المستشرقين -بعامة- يريدون أن يدرسوا سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفق حالتين، تجعلان من المستحيل تحقيق فهم صحيح لنسيج السيرة ونتائجها وأهدافها التي تحركت صوبها، والغاية الأساسية التي تمحورت حولها؛ فالمستشرق بين أن يكون علمانيًّا ماديًّا لا يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهوديًّا أو نصرانيًّا لا يؤمن بصدق الرسالة التي أعقبت النصرانية)، على أن هناك طائفة من المستشرقين بحثوا في السيرة والسنة، وخرجوا من دراساتهم بالإعجاب بسيرته وسنته -عليه الصلاة والسلام- ولم يخفوا إعجابهم هذا؛ ذلك أنهم توخوا الإنصاف في دراساتهم، وربما انتهى بهم المقام العلمي إلى أن يكونوا مناصرين للكتاب والسنة، بغض النظر عن ترجمة هذه المناصرة إلى إيمان بالرسالة وبالرسول -صلى الله عليه وسلم-.

لئن قيل: إن هذا كلام في الماضي، فإن الماضي ينعكس الآن في الحملة على الإسلام والمسلمين، وعلى رموز الإسلام وقياداته في الماضي والحاضر، وعلى رأسهم نبي الهدى محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، ولعل هذه الثورة التقنية، وثورة الاتصالات، تهيئ قدرة على إيصال المعلومة الصادقة عن الرسالة والرسول -صلى الله عليه وسلم-، بحيث يخف الجهل تدريجيًّا، وإن لم يخف الإجحاف في حق الرسالة والرسول -صلى الله عليه وسلم-، ممن نصبوا أنفسهم دعاة للفكر الغربي، وما يحمله من خلفيات دينية، لا يستطيع الغرب التنكر لها، مهما ادعى التوجه العلماني، ولكنها خلفيات مغلوطة، فيما يتعلق بالأديان السماوية والثقافات الأخرى.

هذا بدوره يؤكد على عظم المسؤولية على المسلمين أنفسهم، في الاستمرار في تقديم الإسلام المتسامح المعتدل الوسطي، ومواجهة الهجوم على الإسلام ورموزه بالحكمة، سواء أكانوا من المستشرقين أم من المنصِّرين أم من غيرهم من الخائضين في أمور الدين الإسلامي، ممن تنقصهم المعلومة الصحيحة عن هذا الدين، وينقصهم الانتماء إلى هذا الدين، ويفتقرون إلى السيطرة على اللغة التي جاء بها هذا الدين، أو ممن يسعون إلى تشويه المعلومة الصحيحة عن الإسلام وعن نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، وعن رموز الإسلام، على مر التاريخ، بما في ذلك الإعلام، الذي أضحى يمارس أثرًا فاعلًا في التأثير في النفوس.

أما أن يتعرض للسيرة العطرة مارق من المارقين، من قريب أو بعيد، فهذا حصل في الماضي، ويحصل الآن، ويتوقع أن يحصل في المستقبل، عندما تعمى الأفئدة التي في الصدور، والمارقون كثر ، ويعبرون غالبًا عن آرائهم، لا عن دياناتهم، فيتعرضون للذات الإلهية، وللملائكة، وللكتب، وللرسل، ولليوم الآخر، وللقدر... ولا يكون لهم وقع أو تأثير، وإن أوجب الأمر الوقوف عند أقوالهم والردود عليهم، تبيانًا للحق، كما هو عليه كتاب الله تعالى المنزل على عبده ورسوله محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، في مجادلة الآخرين ومحاججتهم.

كتب مونتجمري وات، المستشرق الإنجليزي المعاصر، وهو في الوقت نفسه قسيس، عدة كتب عن النبي الكريم محمد بن عبدالله -عليه الصلاة والسلام- منها: محمد في مكة، ومحمد في المدينة، ومحمد القائد والنبي، وفي كتابه الأول يتحدث عن ادعاء المستشرقين الذين سبقوه بوجود آيات حذفت من القرآن الكريم! سميت بآيات الغرانيق، وضمنت بعض الأخبار والروايات، التي وردت في بعض كتب التراث، واتكأ عليها بعض المستشرقين، وسماها مونتجمري وات (الآيات الشيطانية).

يظهر أن الكاتب سلمان رشدي قد أعجب بهذا العنوان، الذي هو جزء من فصل من فصول كتاب محمد في مكة، وجعله عنوانًا لروايته الآيات الشيطانية، وأخذ عن المستشرقين هذه الأخبار، وصاغها في رواية، هي كلها إساءة للإسلام والمسلمين، في شخص محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- وأزواجه وصحابته رضي الله عنهم.

مع هذا كله نجد من الدول من تقدر هذا الرجل، وتؤويه، وتمنحه الجوائز التقديرية، بل ويستقبله زعماء تلك البلاد؛ ليثبتوا للعالم الإسلامي احترامهم لحرية التعبير! في الوقت الذي يعتذرون فيه للرئيس المسلم علي عزت بيجوفتش -رحمه الله- عن المقابلة في وقت تنتهك فيه حقوق الإنسان، وليس فقط حرية التعبير على أيادي سلوبودان ميلوزوفيتش الرئيس الصربي الراحل، وأعوانه من المتابعين من الجهات الأمنية والقضائية الدولية، من أمثال المهرب رادوفان جرادتش الذي أعلن في يوم من أيام هذه الحرب أنه لو كان الأمر بيده لما توقف زحفه إلا في مكة المكرمة، متأثرًا بهذا من قريب أو بعيد، بما أعلنه المنصر روبرت ماكس من قبل بقوله: (لن يتوقف سعينا نحو تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في مكة، ويقام قداس الأحد في المدينة).