ثالثًا: نهاية المسيح عليه السلام
ومن المعلوم في العقيدة النصرانية أن عيسى ابن مريم -عليهما السلام- قد قتل ثم صلب، وأن الرومان -بتحريض من بني إسرائيل- هم الذين قتلوه وصلبوه، ويداه مبسوطتان أفقيًّا، مما شكل بعد ذلك رمزًا للنصرانية، إلا أن القرآن الكريم الذي يحفل بذكر عيسى ابن مريم وأمه الصديقة -عليهما السلام- ينفي فكرة القتل والصلب، ليُضاف إلى معجزاته -عليه السلام- أن الله تعالى رفعه إليه، فلم يُقتل ولم يُصلب، وأنه سيعود في آخر الزمان وينشر العدل والقسط، {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158]، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55].

والوفاة هنا لا تعني الموت، وإنما تعني النوم، كما قال أكثر المفسرين، أو أن الرَّفع سابق الوفاة، وأن الوفاة لاحقة بعد النُّزُول، وأنه -عليه السلام- سينشر العدل والقسط بين الناس، والنزول يأتي في نهاية العالم والدنيا النهاية الفعلية، وهو من المُمهدات للانتقال إلى الحياة الآخرة الأبدية، فهو من علامات الساعة الكبرى وأشراطها، وقيل: إن الوفاة هنا القبض؛ "أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك"، وينقل القرطبي عن الحسن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: ((إن عيسى لم يَمُتْ، وإنه راجعٌ إليكم يوم القيامة)).

والذي قُتِلَ ثم صُلِبَ حقيقة هو يهوذا الإسخريوطي، مِمَّنْ أظهر أنه من حواريي بني إسرائيل، وكان يُحاول أن يُقنعهم حينها أنه ليس المسيح، ولم يُصَدّقوهُ، يقول يهوذا للوالي الذي كان يوقر عيسى -عليه السلام- سرًّا: "صدقني يا سيد، إنك إذا أمرت بقتلي ترتكب ظلمًا كبيرًا؛ لأنك تقتل بريئًا؛ لأني أنا يهوذا الإسخريوطي لا يسوع الساحر الذي حولني بسحره كما ترى"، لكن طوائف من النصارى لا تُقِرُّ بذلك، بل تَعُدُّهُ افتراضًا مرفوضًا، وتتعامل بحذر مع النصوص الإسلامية التي تؤيده وتؤكّد عدم صلب المسيح وعدم وفاته.

وهذا بدوره يُثِيرُ إشكالًا كبيرًا حول قبول عدم صلب المسيح -عليه السلام- لدى نصارى الأمس واليوم، مما يجعل بعض النصارى يتأوَّل ما جاء في القرآن الكريم من آيات واضحات في عدم وفاة المسيح -عليه السلام-، ولو حصل القبول فلن يحصل بصورة جماعية، إلا أن يصدر قرار من مجمع كنسي يؤمن به جمع وتتجاهله جموع، وكذلك يثير إشكالًا كبيرًا حول اعتماد الصليب شعارًا للنصرانية منذ قرون طويلة تَعَدَّتْ العشرين قرنًا، مِمَّا يصعب اقتناع النصارى المُعاصرين بهذه الرؤية الإسلامية، فقد اعتمد الصليب شعارًا للكنيسة عُمُومًا، ويدخل في تصميم شعارات كثيرة؛ كأعلام الدول، وما له علاقة بالطب؛ كالمستشفيات والصيدليات وسيارات الإسعاف، بل وشعارات بعض فرق الأندية الرياضية في الغرب الأوسط والغرب الأقصى.

كما سيُثيرُ إشكالًا حول قبول صورة المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام- مصلوبًا، والدّماء تتضرَّج من يديه الطاهرتين، هذه الصورة المُعتمدة لدى كثير من الكنائس حول العالم، وفي كثير من المطبوعات والمنازل وغيرها من المؤسسات ذات العلاقة، لا سيما إذا اقتنع بعض النصارى أنها في الحقيقة لا تُعَبِّرُ عن شخص المسيح الذي لم يُصلب ابتداءً، وفي قبول هذه الفكرة صُعُوبة غير عادية لدى جمع من الكنائس على اختلاف مناهجها.

وقد سعى الفاتيكان لتبرئة اليهود من مقتل عيسى ابن مريم -عليهما السلام- وصلبه ؛ ولذلك يستحضر الحديث الشريف الذي أورده القرطبي في تفسيره فيما يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلًا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد))؛ رواه مسلم والبخاري بنحوه، وسينفي زعم بعض اليهود من أنهم هم الذين قتلوا المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام- وصلبوه، وهذا النفي مقصده إحقاق الحق، وليس الدفاع عن طائفة على حساب أخرى؛ إذ المشهور عن اليهود قتلهم الأنبياء؛ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 112، 113]، وقال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]، وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 155، 156]، وقال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} [المائدة: 70].

وهذا سيؤثر بدوره في فكرة العشاء الأخير في العهد الجديد، الذي يقابل عيد الفِصْح عند اليهود؛ إذ لم يكن حدثًا هينًا عند النصارى؛ لأنه شهد تقديم عيسى ابن مريم -عليه السلام- خلاصة تعاليمه، فإذا وقع الشك في صلبه -عليه السلام- يقع الشك في هذا الحدث القائم على خلاصة التعاليم، وعلى أنه يمكن أن يكون الصلب قد وقع فعلًا، ولكنه لم يقع.

كما أنه سيؤثر على تلك الطقوس التي تدور في الكنيسة من تلقيم رواد الكنيسة من رمز العشاء الأخير فيأكلون قطعًا من الخبز المُقَدَّس، ويسقون من النبيذ، أو ما يسمونه بعصير الكرامة من العنب، وربما في بعض المعتقدات يأكلون من القربان المُقَدَّس، الذي ربما يرمز أيضًا إلى تضحية المسيح عليه السلام، وذلك بإيعاد من بولس (شاؤول) الذي يرى فيه النصارى أنه المُخَلِّص، ويرى فيه آخرون خلاف ذلك، ويستدعي هذا -كذلك- البحث في حقيقة بولس المخلص، الذي كانت له أياد في تحوير التعاليم النصرانية، ومنها دعوته لشرب الخمر لا للسكر، ولكن للشفاء.

ومثل هذا يمكن أن يُقال عن المسار السياسي ثم الاجتماعي الذي تَبَنَّتْهُ الثقافة الغربية بعمومها من الميل إلى المنهج العلماني الذي يفهم على أنه -دون تفصيلات- مصادر للدين في السياسة والمجتمع، وما هو كذلك، مهما ظهرت فيه من نظرات تخلّت عن العقيدة في السياسة بوضوح وفي المجتمع بشيء من الغموض، ولكنه مع هذا نظام لم يتمكَّن من التنصُّل من البُعد الدِّينِي ولم يستطع ذلك، مهما حاربته العلمانية في الظاهر، فالشعوب متدينة في طبعها، ويصعب تطبيق مبادئ العلمانية الشاملة بدقة بين شعوب متدينة، إلا بالقهر والاستبداد، وهذا لا يتماشى مع الدساتير الغربية في عمومها، تلك التي تتبنَّى المنهج العلماني الجُزئي في الشأن السياسي بصورة واضحة، وتتبنَّى كذلك المنهج الديمقراطي داخل مجتمعاتها، لا خارجها بالضرورة.

ومثل هذه الموضوعات هي التي يمكن أن ينظر إليها على أنها موضوعات الدراسات الاستغرابية من الزاوية الدينية، وقد تخرج عن الزاوية الدينية إذا ما التفت إلى الزاويتين الاقتصادية والاجتماعية الأنثروبولوجية، مع توكيد قوي على الدراسة الموضوعية العلمية، ذات الإمكانية في القبول في الوقت الراهن، وهذا النوع من النقد الموضوعي لا يعود بالنَّفع على المسلمين فقط، بل يعود بالنَّفع على الأمم الأخرى كذلك، فهو مجال الإقناع والاقتناع.