العدو المفترض
بعض الكتابات ظهرت عليها روح الثأر من عدو شمولي مفترض، وبعضها بدا عليه التعميم الجهوي، فجعل الشرق كله بشموليته عدوًّا للغرب بشموليته، وجعل الغرب كله بشموليته عدوًّا للشرق كله بشموليته، تحقيقًا غير مقصود وغير ملتفت له بالضرورة لمقولة الشاعر روديارد كيبلنج (1865 - 1936م): الغرب غرب والشرق شرق، ولا يلتقيان، ويتفق لويس عوض (1915 - 1990م) مع هذا الطرح حينما يقول: الغرب غرب، ويرد رينيه حبشي (1915 - 2003م) على لويس عوض ضمنًا فيقول: لا شرق ولا غرب ، وقبلهم يأتي الشاعر الألماني يوهان فولفجانج جوته (1794 - 1832م) ليطلق عبارته حول هذه العلاقة بقوله: "من يعرف نفسه وغيره سيعرف أيضًا أن الشرق والغرب لن يفترقا أبدًا، وبودي أن أتأرجح بفكر متفتح بين هذين العالمين، فالتحرك بين الشرق والغرب هو الأفضل"، وهو الذي يقول في ترجمة لآنا ماري شيل (1922 - 2005م):
إن يك الإسلام معناه القنوت
فعلى الإسلام نحيــا ونـموت


وفي ترجمة أخرى ينقلها محمد عيسى صالحية عن عبدالرحمن صدقي في مقالة له عن جوته في مجلة فكر وفن (1963م): إذا كان الإسلام معناه التسليم لله، فإننا لا محالة أجمعين نحيا ونموت مسلمين.

لا يفهم من هذا الطرح الدعوة إلى التوقف عن النقد عمومًا، وعن نقد الغرب سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، والإنكار على الغرب لبعض الممارسات التي لا تتفق ومفهومنا في الحياة ونظرتنا لعمارة الأرض، واستخلاف هذا الإنسان عليها، من منطلق الدراسات الاستغرابية، التي دعا إليها كل من سميح فرسون وحسن حنفي وغيرهما، تأتي هذه الدراسات في مقابل الدراسات الاستشراقية، فالغرب كيان غير مقدس، وهو كغيره من المجتمعات معرض للانتقاد، على ألا يكون هو (الشماعة) التي تعلق عليها مشكلات الآخرين دون الالتفات إلى الذات، وتشخيص جوانب التقصير الداخلي ودون عيب للزمان.

المشترك لفظًا
مثل هذا التوجه نحو الاستغراب لا يلغي وجود الاستشراق، واستمراره، ولكنه -كما يشير محمد النيرب- يقتضي هامشًا واسعًا من النظرة المتسامحة التي ينظر بها الفكر الإسلامي للثقافات الأخرى، وفي هذا المنحى تظهر الدراسات الاستغرابية، ومنها على سبيل المثال ظهور كتاب بعنوان: التسامح بين شرق وغرب: دراسات في النقاش والقبول بالآخر.

وهو خمس مقالات لكل من:
- سمير الخليل بعنوان: التسامح في اللغة العربية.
- بيتر ب. نيكولسون بعنوان: التسامح كمثال أخلاقي.
- توماس بالمدوين بعنوان: التسامح والحق في الحرية.
- كارل بوير بعنوان: التسامح والمسؤولية الفكرية.
- ألفريد ج. آيير بعنوان: منابع التسامح.


ويأتي هذا الكتاب في مسيرة اللبنات الأولى لعلم الاستغراب؛ إذ إنه صدر عن سلسلة الفكر الغربي الحديث، إلا أن مقالاته الخمس المذكورة أعلاه لم تركز على الفكر الغربي الحديث، حيث يتحدث المؤلفون عن الفكر الغربي القديم، تمهيدًا للحديث عن الفكر الغربي الحديث.

والذي يطلع على مثل هذه الطروحات يستطيع الربط المقارن بين ثقافته وثقافة الأمم الأخرى؛ إذ الملاحظ أن طرح التسامح، من منطلق غربي، جعل من موروث الماضي الغرب معوقًا لمفهوم التسامح، بل إنه انطلق من مفهوم (الإباحية) مفهومًا جديدًا أو دخيلًا للتسامح، رغم أن بعض المؤلفين يحذر من الانطلاق غير المسؤول باسم التسامح، ويشدد على بقاء قدر من الرقابة الدينية والاجتماعية، بل والسياسية على بعض المفهومات التي تنعكس على السلوكيات العامة والخاصة باسم التسامح، وهي إلى الإباحية والانفلات الخلقي أقرب.

ولذلك يجيء من يسمي هذا النوع من التسامح -إذا سمح المصطلح- بالتسامح الليبرالي الذي قام على المنظومة الفكرية الغربية التي هي بدورها تقوم على أربع ركائز، انتقلت لتكون ركائز التسامح الليبرالي.

وهي على النحو الآتي:
1 - إحلال الطبيعي محل الإلهي.
2 - إحلال العقــل مـحــل الوحي.
3 - إحلال الإنـســان مـحـــل الله.
4 - إحلال القانون الوضعي محل القانون السماوي.


والواضح أن هذه المرتكزات الرئيسية الأربعة تسعى إلى فرض أفكار مناقضة لمفهوم السماحة في الإسلام، ومن ثم فهي تهدف إلى تقويض مرتكزات الإسلام.

ومن تلك المرتكزات الحفاظ على ما تعارف عليه المسلمون من الضرورات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل، تلك الضرورات التي فصَّلها الإمام الشاطبي (790هـ/ 1388م) في كتابه الموافقات يقول: "فقد اتفقت الأمَّة، بل سائر الملل، على أن الشريعة وُضِعَتْ للمُحافظة على الضروريات الخمس؛ هي الدين والنفس والنسل والمال والعقل".

ويتضح أن لهجة المقالات الثلاث الأخيرة من الكتاب التسامح بين شرق وغرب ركزت على الرغبة في بث روح التسامح، من خلال الانفراط من عقد الدين، الذي يدين به الكتاب الأربعة؛ لاتهامهم رجال الدين في الديانة النصرانية بالتأثير السلبي على مفهوم التسامح، ومن ذلك الحفاظ على ما تعارف عليه المسلمون بالضروريات الخمس، مع التوكيد، في مقابل هذا، على نبذ التعصب، بالمفهوم السلبي للتعصب، أما التعصب الإيجابي فمطلوب وموجود.

ويغوص المؤلفون الغربيون الأربعة -كل حسب أسلوبه وطريقته- في هذا المجال، ليقدموا رؤية شخصية للتسامح، جديرة بالتوقف عندها؛ لمعرفة مدى محدودية عقل ابن آدم في النظر إلى القضايا الكبرى، التي تحكم الوجود البشري، في تعامله مع ذاته ومع خالقه، بما في ذلك محاولات فولتير (1694 - 1778م)، وجون ستيوارت ميل (1806 - 1873م)، وجون لوك (1632 - 1704م) حول التسامح والحرية الطبيعية، ومدى الارتباط بين التسامح والحرية وحدود التسامح، بل ومفهوم التسامح بناءً على معطيات ثقافية.

وعليه، فإن هناك مصطلحات متشابهة أو مشتركة بين عدة ثقافات في اللفظ فقط لا في المعنى، لكنها تختلف باختلاف الثقافة نفسها عن غيرها، ولن تتأتى معرفة الفروقات إلا بمعرفة ثقافات الأمم الأخرى، ومن هنا يأتي مصطلح الاستغراب، الذي يسعى إلى معرفة ما لدى الغرب والتعريف به، بما في ذلك النظر في مفهومات المصطلحات ومقابلاتها بالمفهومات القائمة على الثقافة الإسلامية.