قصة قصيرة: ابتعد يا حمار
قصة قصيرة: ابتعد يا حمار Ocia1225
مرت الأيام وعبدالعزيز يزداد تعلقاً بالمسجد، وإعجاباً بخُلُق وعلْم وسمْتِ معلمه في الحلقة، ويبدي استعداده للحضور أوقات إضافية ليزداد حفظاً، ويسبق أقرانه.

انحنى الرجل من الجهد والتعب، ثم قعد في الظل يلتقط أنفاسه، ويمسح العرق عن جبينه، ويغسل عيناه اللتان أحرقتهما ملوحة العرق.

- لن أسمح لأولادي بان يقعوا في هذا الوحل، حيث لقمة العيش تُنحت نحتاً من باطن الصخور الصلبة.

بدأ شعاع الشمس يخفت شيئاً فشيئاً، عندها استعد الرجل للعودة إلى منزله الصغير الذي يستأجره، من أحد أقاربه، دلف الرجل إلى البيت، ورأى أولاده يلعبون بجوار البيت.

- المسجد قريب منا وهؤلاء الأولاد لا يذهبون لتعلم القرآن في المسجد، كما هو الحال لأبناء جيرانهم.

- يا أبنائي هذا آخر يوم لكم في اللعب بعد غروب الشمس، سأذهب -إن شاء الله- إلى إمام المسجد واطلب منه استيعابكم ضمن حلقات تعليم القرآن في المسجد، فرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: «خَيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ».

فرح الأبناء بهذا التجديد، كونه تغيير جذري في حياتهم، ودخلهم شعور فرح كالذي خالجهم عند أول يوم في المدرسة.

حَرِص الأب على الصلاة في مسجد الحي ومقابلة الإمام، وتم الاتفاق على إلحاق أبنائه بقافلة القرآن؛ فقد «خَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَنَحْنُ في الصُّفَّةِ، فَقالَ: أَيُّكُم يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَومٍ إلى بُطْحَانَ، أَوْ إلى العَقِيقِ، فَيَأْتِيَ منه بنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ في غيرِ إثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، نُحِبُّ ذلكَ، قالَ: أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ» [رواه مسلم].

قبل غروب الشمس بوقت طويل والأولاد مستعدين للذهاب وقد جلسوا تحت باب المسجد يتنظرون فتحه، وما إن فتح حتى هبُّوا إلى داخله مستبشرين بتجربتهم الجديدة، وبعد صلاة خاشعة خلف إمام حسن الصوت، يُحلِّق بآيات القرآن، ويشدوا بالترتيل.

مرت الأيام وعبدالعزيز يزداد تعلقاً بالمسجد، وإعجاباً بخُلُق وعلْم وسمْتِ معلمه في الحلقة، ويبدي استعداده للحضور أوقات إضافية ليزداد حفظاً، ويسبق أقرانه.

كان عبدالعزيز يستمتع بالمنافسة مع أصحابه في حفظ القرآن، ولم يكن يمنعه من كثرة الحفظ إلا توقف المعلم كثيراً عند بعض الآيات ليعلِّق عليها، ويُرشد ويستخرج الفوائد العلمية والتربوية، ولم يكن همُّ المعلم كم يحفظُ طلابه، ولكن همّه الأكبر الاستفادة مما حفظوا، وأن له أثر في حياتهم.

أصبح المسجد بالنسبة لعبدالعزيز وإخوانه، مأوى أرواحهم، وقرحة نفوسهم، تعلقوا به، وانقبضت أنفسهم عن ما سواه وذلك لأن: «أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا».

تحسَّن أداء الأبناء في المدرسة غير أنهم لم يكونوا من الأوائل وكم كان يتمنَّى الأب أن يسمع اسم أحد أبناءه ضمن الخمسة الأوائل، وقد حاول عبدالعزيز ولكنه لم يحقق أمنية أبيه، وكان جل تركيزه على الحفظ للقرآن، وفي أحد الليالي تقدَّم عبدالعزيز ليكون أول المُسمِّعين عند مُعلمه، ومن سورة الأحقاف وعندما بلغ قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}، حسبُك!!!

قالها المعلم وسكت بعدها عبدالعزيز، عندها انطلق المعلم في كلام جميل رقيق عن فضل بر الوالدين وقبح عقوقهما ولو باليسير، وأن الوالدين يحبان ولديهما حُبّاً جَمّاً، بحيث لو مرض الابن تمنَّيَا أن ينتقل المرض إليهما، وهكذا مَرَّ الوقت سريعاً إلى صلاة العشاء، وسرد باقة من الأحاديث النبوية، التي ترغب في البر، وتحذر من العقوق مثل: «(لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»).

كان والد عبدالعزيز لا يدَّخر جهداً في توفير حاجة أبنائه، مع فقره وعوزه، ومكابدته في توفير المال من العمل الشاق، وفي احد الأيام وبينما كان يعمل إذْ جاءه أحد الزبائن المشهورين بالمُماطلة في تسديد ما لغيرهم، فرفض  والد عبدالعزيز أن يبيع له شيئاً، وحدثت مُشادَّةٌ كلامية بينه وبين الرجل، ممَّا أدَّى إلى تغيُّر مزاجه، ثم عاود الأب الحنون عمله مع الجرح العميق الذي أحدثه الزبون المُماطل مع أنه غني، وفي أثناء ذلك ضرب بمعوله فإذا بالمعول يهوي على إبهامه، فيصرخ من شدة الألم، ولكنه يتمالك نفسه، ويُلملم أغراضه ويتوجَّه إلى البيت مبكراً بجرحين أحدهما في قلبه والآخر في يده، لكن الأول أعمق من الثاني.

نظر الأبناء من شُرفة البيت ليجدوا أباهم قد عاد مبكراً على غير عادته، فما كان من عبدالعزير إلا أن هبَّ إلى الخارج قائلاً لماذا عُدت مُبكراً؟ هل أنهيت عملك؟

فما كان من الأب إلا نهر ابنه، وولج إلى البيت مُغضباً، يحمل على كاهله هُموم عمله، وإساءة الناس إليه.

بدوره غَضِبَ عبدالعزيز من تصرف والده معه، ولم يتحمَّل، وتوجَّه مباشرة في ظهيرة ذلك اليوم إلى بيت مُعلمه   ليخبره بما جرى، فكَّرّ المعلم قليلاً وهو يرى ولدٌ على أعتاب المُراهقة لم يتحمَّل كلاماً قاسياً من أبيه، لكنه قال له مهما كان، عليك أن تستفيد من كلام والدك فهو يحبك، ويشقى من أجل سعادتك، وحاول المعلم تهدئة الأبن الثائر، ويعيده إلى بيته.

عاد الأبن إلى البيت عازماً على العمل بنصيحة معلمه، وبدأ برنامجاً قاسياً للدراسة، أمَّا النوم فأخذ ينهش منه قطعاً كبيرة لصالح الجد والاجتهاد، وكلما تسلل إليه الكلل أو الملل تذكَّر والده ونصيحة معلمه.

بعد بضعة أيام عاد الوالد إلى عمله، ونسي ما أصابه في الأيام الماضية، والْتأَمتْ جراحه شيئاً فشيئاً، وفي نفسه آمال كبيرة وحلم بمستقبل زاهر لأبنائه.

(الوالد في نفسه) الحمد لله فكرة التحاق الأبناء بحلقات التحفيظ كانت رائعة، فقد أثَّرت إيجاباً في أخلاقهم، وارتفع مستواهم الدراسي، وسبحان الله فـ: («أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا»)، إلا أن أحداً منهم لم يُحرز المركز الأول في صفه.. وهكذا استمر الأب في التأمل في أحوال أبنائه بينما كان يؤدِّي عمله.

اقترب موعد الامتحانات وعزم عبدالعزيز على أن يجتهد اجتهاد غير عادي، ويصبر صبراً عظيماً، وأول خطوة قام أن وضع برنامج صارم، ألغى منه اللعب واللهو، حيث النوم أول الليل والقيام آخره، وعدم النوم بعد صلاة الفجر، والتوقف نهائياً عن مشاهدة المباريات، وحذف معظم المجموعات في الواتسآب المضيِّعة للوقت، كما أن مشاهدة اليوتيوب في حدود ضيقة وفيما ينفع، كل هذه التدابير وغيرها عملها عبدالعزيز لزيادة الجهد في حلقة القرآن والتفوق في الدراسة النظامية، براً بوالديه، ورغبة في إدخال السرور عليهما فـ («أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ») فكيف إذا كان المسلم من الوالدين.

في جلسة رائعة وليلة هانئة، قالت الأم لزوجها العزيز أبا عبدالعزيز:
-  لقد أحسنت صنعاً في إرسال أولادنا إلى بيت الله ليتعلموا.

- نعم فالمساجد أماكن مباركة، ومن بركتها أن الأبناء يجدون لهم الصحبة الصالحة فيها، فـ: («المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخَالِل») كما جاء عن الرحمة المُهداة صلى الله وسلم، وأيضاً على موائد القرآن يتنافسون على الخير.

- هل لاحظت تغيُّراً على عبدالعزيز.

- نعم، يبدوا عليه الاهتمام بدروسه.

- لقد خشيت عليه، يا أبا عبدالعزيز، فهو قليل النوم، قليل الخروج مع أصحابه، كثير الملازمة للكتب.

- لا تخافي يا أم عبدالعزيز، فمَنْ صَحِبَ القرآن لن يضيع أبداً بإذن الله.

مَرَّتْ فترة الامتحانات، الفترة العصيبة على الطلاب، وفيها تعلن الكثير من البيوت حالة الطوارئ، وانتظرت الأسر نتائج الاختبارات، وحصاد العام.

- (عبدالعزيز في نفسه) غدا النتائج، كنت في الأعوام السابقة أنتظر هل أنا ناجح أم راسب، أمَّا هذا العام -بحمد الله- أنا منتظر هل المرتبة الأولى من نصيبي أم لا؟

كعادته ذهب الأب إلى عمله، مصطحباً جواله معه، فهو يعتمد عليه في العمل والتواصل مع الزبائن، وبدأ يهوي بمعوله كعادته كل يوم، عندها بدأ هاتفه القديم يهتز ويهتز، توقف الأب عن العمل ونظر في شاشة جواله.

- رقم غريب، وفتح سماعة الهاتف مجيباً: السلام عليكم.

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، معك إدارة المدرسة، أحببنا أن نبارك لك حصول ابنك ولأول مرة على الترتيب الأول على صَفِّهِ، وبتقدير ممتاز، جزاك الله خيراً على حُسن رعايتك وتربيتك لأبنائك، ألف ألف مبروك يا أبا عبدالعزيز.

- بشَّرك اللهُ بالخير يا أستاذ، أجمل خبر سمعته من فترة طويلة، أنا آتيكم الآن.

لم تسع الدنيا أبا عبدالعزيز، وتوجَّه مباشرة إلى مدرسة ابنه، والسعادة تغمُرهُ، كما أنه اتصل بالبيت ليُبَشِّرَ الأم وبقية الأبناء.

اتصلت أم عبدالعزيز على زوجها، وطلبت منه أن يحضر متطلبات الحفلة التي ينْوون إقامتها في بيتهم اليوم.

- السلام عليكم، يا أبا عبدالعزيز أحضر لنا ما تيسَّر لعمل حفلة ابتهاجاً بحصول عبدالعزيز على المركز الأول، ولا تنسى أن تُحضر له هدية مفاجئة.

- نصف ساعة وكل طلباتك متوفرة.

كان يوماً مُميَّزاً عاشته الأسرة، والسُّرور يرفرف على جنبات البيت، وتسلّم عبدالعزيز جائزته، ثم قالت الأم:
- الحمد لله الذي وفقك يا عبدالعزيز لانتزاع المرتبة الأولى، لكن ما السر الذي جعلك تجتهد آخر العام وتحصل على ما حصلت.

اغرورقت عينا عبدالعزيز بالدموع وأجاب بكلمات مخضبة بالدموع، وبصوت مبحوح من تأثير العَبرة في حلقه:
- الحمد لله، الفضل لله أولاً وآخراً ثم لكما يا والديَّ الكريمين، وأيضاً لكل معلمي في المدرسة والمسجد، توقف عبدالعزيز قليلاً ثم قال: يا عائلتي الحبيبة فاجأتموني بالهدية، وأحب أن أفاجئكم بالسر.

-اشرأبت أعناق الجميع: ما السر، هيا أخبرنا؟

يا عائلتي الحبيبة هل تذكرون الذي عاد فيه أبي مبكراً إلى البيت وعندما استقبلته نَهَرَني وقال: ابتعد يا حمار، لم أتحمل ذلك، وذهبت مباشرة إلى معلم الحلقة الذي قال لنا قبلها بليال يسيرة: إن آبائكم يحبونكم، ويبذلون الغالي والنفيس لراحتكم وكلام كثيراً حول البر بالوالدين وفضلهما على الأبناء، ذهبت إليه في الظهيرة وأخبرته بما حدث من أبي، فتوقف أولاً، وبدأ يفكر قبل أن يرد، ثم قال: يا بني لعل أبيك أصابه شيء في عمله، والعمل مدعاة -يا بني- لتعكر المزاج، وضيف الصدر، فلمْ تراع حالته، ثم قال: إن في الحمار بعض الصفات الرائعة، فالحمار دائب العمل، كثير التحمل، موصوف بالصبر على المشاق، فلِمَ لا تكون مثالاً في الصبر وتحمل المشاق لا سيما في طلب العلم.

بعدها عزمت على الأخذ بنصيحة معلمي، وكان ما كان والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ما أجمل العلم، وما أروع السير في طريقه، فـ: («ومَنْ سلك طريقًا يَلتمسُ فيه علماً، سَهَّلَ اللهُ به طريقًا إلى الجنَّة»).

نزلت الدموع على خدي والدَيّ عبدالعزيز، وتأثَّر جميع أفراد الأسرة بهذا الموقف، ودعت الأم لأبنائنا بالخير كما دعت للمعلم الذي أحسن تربية ابنهم.

سالم محمد