المبحث الأول: بناء البيت العتيق
المبحث الأول: بناء البيت العتيق Ocia1061
من حكمته سبحانه أن خلق الخلق؛ ليعبدوه، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (6).

وفطرهم على عبادته وحده لا شريك له، قال تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (7).

ومن رحمته بعباده أن جعل لهم مكانا يثوبون إليه، ويعبدون ربهم حوله؛ ابتغاء لثوابه، وطلبا لمرضاته، فكان المكان الأول مكة، وكان أول بيت وضع للناس - المسجد الحرام، قال تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) (8).

وخَصَّ سبحانه خليله ونبيه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بشرف بنائه وعمارته، فقال تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (9).

وسأل أبو ذر -رضي الله عنه- النبي ﷺ‬ عن أي مسجد وضع أول، فأخبره النبي ﷺ‬ أنه المسجد الحرام، كما أخرج ذلك البخاري عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال أربعون. ثم قال: حيثما أدركتك الصلاة فصل، والأرض لك مسجد) (10).

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عند قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة): (هذا البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس للعبادة والطاعة، وهناك بيوت قبله للسكن، لكن أول بيت وضع للناس ليُعبد الله فيه، ويُطاف به، هو هذا البيت، وأول مَنْ بناه هو خليل الله إبراهيم عليه السلام وساعده في ذلك ابنه إسماعيل.
وأمَّا ما رُوي أن أول مَنْ عَمَّرَهُ هو آدم فهو ضعيف، والمحفوظ والمعروف عند أهل العلم أن أول مَنْ عَمَّرَهُ هو خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام) (11).

وقال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس..) (12) (يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس، أي لعموم الناس؛ لعبادتهم ونُسُكِهِمْ يطوفون به ويُصَلُّونَ إليه ويعتكفون عنده (للذي ببكة) يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل -عليه السلام- الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه، ولا يحُجُّونَ إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك، ونادى الناس إلى حَجِّهِ؛ ولهذا قال تعالى (مباركًا) أي وضع مباركاً (وهُدًى للعالمين) (13).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موضحاً التسلسل التاريخي لبناء المساجد الثلاثة، وذاكراً أسماء الأنبياء الذين دعوا إليها: (والمساجد الثلاثة لها فضلٌ على ما سواها؛ فإنها بناها أنبياء ودعوا الناس إلى السفر إليها، فالخليل دعا إلى المسجد الحرام، وسليمان دعا إلى بيت المقدس، ونبينا دعا إلى الثلاثة: إلى مسجده، والمسجدين، ولكن جعل السفر إلى المسجد الحرام فرضاً، والآخرين تطوعاً، وإبراهيم وسليمان لم يوجبا شيئاً، ولا أوجب الخليل الحج) (14).
------------------------------------
الهوامش:
6.     سورة الذاريات الآية 56.
7.     سورة الروم الآية 30.
8.     سورة آل عمران الآية 96.
9.      سورة البقرة الآية 127.
10.     صحيح البخاري 3/1260، ح 3243، وصحيح مسلم 1/370 ح 520.
11.     مجلة المجمع الفقه الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي، سنة 18، العدد 10، ص 20، وعنوان البحث: بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق.
12.     سورة آل عمران الآية 96.
13.     تفسير القرآن العظيم 1/384.
14.     مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/264.