المبحث العاشر: اختياره صلّى الله عليه وسلّم الرفيق الأعلى
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة, فسمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحَّةٌ (1) [شديدة] يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} (2) قالت فظننته خير حينئذ (3).

وفي رواية عنها رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صحيح يقول: ”إنه لم يقبض نبي قط حتى يُرى مقعده من الجنة ثم يخيَّر“ قالت: فلما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم (4) ورأسه على فخذي غُشِيَ عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصرهُ إلى السقف ثم قال: ”اللهم في الرفيق الأعلى“ فقلت: إذاً لا يختارنا, وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح, قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”اللهم مع الرفيق الأعلى“ (5).

وقالت رضي الله عنها: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو مسند إليَّ ظهره يقول: ”اللهم اغفر لي وارحمني, وألحقني بالرفيق الأعلى“ (6) وكان صلّى الله عليه وسلّم متصل بربه وراغباً فيما عنده, ومحبّاً للقائه, ومحبّاً لما يحبه سبحانه, ومن ذلك السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي, وفي يومي, وبين سحري (7), ونحري (8)، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته, دخل عليَّ عبد الرحمن [بن أبي بكر] وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [إلى صدري] (9) فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك, فقلت: آخذه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فتناولته فاشتد عليه, وقلتُ أُليّنه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فلينته [وفي رواية: فقصمته, ثم مضغته (10) [وفي رواية فقضمته ونفضته وطيبته (11) ثم دفعته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستنَّ به (12) فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استن استناناً قَطْ أحسن منه] (13) وبين يديه ركوة (14) أو علبة (15) فيها ماء, فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“ ثم نصب يده فجعل يقول: ”في الرفيق الأعلى“ حتى قبض ومالت يده" (16) صلّى الله عليه وسلّم.

وقالت عائشة رضي الله عنها: مات النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنه لبين حاقنتي (17) وذاقنتي (18), فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم (19).

وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ  إن الرفيق الأعلى: هم الجماعة المذكورون في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} (20) فالصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم أن المراد بالرفيق الأعلى هم الأنبياء الساكنون أعلى عليين.

ولفظة رفيق تطلق على الواحد والجمع؛ لقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} (21).

2 ـ  إن النبي صلّى الله عليه وسلّم اختار الرفيق الأعلى حين خُيِّر حبّاً للقاء الله تعالى, ثم حبّاً للرفيق الأعلى، وهو الذي يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه“ (22).

3 ـ  فضل عائشة رضي الله عنها حيث نقلت العلم الكثير عنه صلّى الله عليه وسلّم, وقامت بخدمته حتى مات بين سحرها ونحرها؛ ولهذا قالت: ”إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وفي يومي, وبين سحري ونحري“.

4 ـ  عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسواك حتى وهو في أشد سكرات الموت, وهذا يدل على تأكد استحباب السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب.

5 ـ  قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في سكرات الموت: ”لا إله الله إن للموت سكرات“ وهو الذي قد حقق لا إله إلا الله, يدل على تأكُّدِ استحبابها والعناية بها والإكثار من قولها وخاصة في مرض الموت؛ لأن ”من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة“.

6 ـ  حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على مرافقة الأنبياء ودعاؤه بذلك يدل على أن المسلم ينبغي له أن يسأل الله تعالى أن يجمعه بهؤلاء بعد الموت في جنات النعيم, اللهم اجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

7 ـ  شدة الموت وسكراته العظيمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فما بالنا بغيره.

-----------------------------------------------
1.  سورة النور، الآية: 63.
2.  البُحةُ: غِلظٌ في الصوت. انظر: شرح النووي 15/219.
3.  سورة النساء، الآية: 69.
4.  البخاري برقم 4436, 4437, 4463, 4586، 6348, 6509, ومسلم برقم 2444.
5.  وفي البخاري ”فلما اشتكى وحضره القبض“ رقم 4437.
6.  البخاري برقم 4437, 4463 ومسلم 2444.
7.  البخاري برقم 4440, 5664.
8.  سحري: هو الصدر, وهو في الأصل: الرئة وما تعلق بها. الفتح 8/139, والنووي 15/218.
9.  ونحري: النحر هو موضع النحر. الفتح 8/139.
10.  في البخاري رقم 4438.
11.  في البخاري برقم 980.
12.  طيبته: بالماء, ويتحمل أن يكون تطييبه تأكيداً للينه, الفتح 8/139.
13.  أي استاك به وأمره على أسنانه.
14.  في البخاري برقم 4438.
15.  الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/260.
16.  شك بعض الرواة وهو عمر, انظر: الفتح 8/144.
17.  البخاري 2/377, برقم 890, وأخرجه البخاري في تسعة مواضع, انظر: 2/377, ومسلم برقم 2444.
18.  الحاقنة: ما سفل من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139.
19.  والذاقنة: ما علا من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139, والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة: هو ما بين السحر والنحر, والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها. الفتح 8/139.
20.  البخاري برقم 4446 , ومسلم برقم 2443.
21.  سورة النساء، الآية: 69.
22.  انظر: فتح الباري 8/138, وشرح النووي 15/219.