المبحث التاسع: وصايا النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته
عن ابن عباس رضي عنهما قال: يوم الخميس وما يوم الخميس (1) اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً“ فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي التنازع [فقال بعضهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله,] [فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده, ومنهم من يقوم غير ذلك, فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "[قوموا].

وفي رواية: ”دعوني فالذي أنا فيه خير (2) مما تدعونني إليه] أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب, وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به“ (3) وسكت عن الثالثة أو قال فأنسيتها" (4) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأوصاهم بثلاث" أي في تلك الحالة, وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن أمراً متحتماً؛ لأنه لو كان مما أُمر بتبليغه لم يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه, ولبلَّغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً وحفظوا عنه أشياء لفظاً فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم (5).

والوصية الثالثة في هذا الحديث يحتمل أن تكون الوصية بالقرآن, أو الوصية بتنفيذ جيش أسامة رضي الله عنه.

أو الوصية بالصلاة وما ملكت الأيمان, أو الوصية وما ملكت الأيمان، أو الوصية بأن لا يتخذ قبره صلّى الله عليه وسلّم وثناً يُعبد من دون الله, وقد ثبتت هذه الوصايا عنه صلّى الله عليه وسلّم (6).

وعن عبد الله بن أبي أوْفَى رضي الله عنه أنه سئل هل أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟... قال: ”أوصى بكتاب الله عز وجل“ (7).

والمراد بالوصية بكتاب الله: حفظه حسّاً ومعنى, فيكرم ويصان, ويتبع ما فيه: فيعمل بأوامره, ويجتنب نواهيه, ويداوم على تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك (8).

وأمر عليه الصلاة والسلام وأوصى بإنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه, وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه كان تجهيز جيش أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بيومين, وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم, فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر, ودعا أسامة وقال: ”سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل, فقد وليتك هذا الجيش...“ فبدأ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده فأخذه أسامة, وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار, ثم اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”أنفذوا جيش أسامة“ فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها, وقتل قاتل أبيه ورجع الجيش سالماً وقد غنموا..“ (9).

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثاً وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمارته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل, وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة (10) وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ, وإنَّ هذا لمن أحبّ الناس إليَّ بعده“ (11).

وقد كان عُمْرُ أسامة رضي الله عنه حين توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمان عشر سنة (12).

وأوصي صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة وما مكلت الأيمان, فعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“ حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغرغر صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه“ (13).

وعن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“ (14).

وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:
1 ـ  وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك عند موته, وقد أخرجهم عمر رضي الله عنه في بداية خلافته, أما أبو بكر فقد انشغل بحروب الردة.

2 ـ  إكرام الوفود وإعطاؤهم ضيافتهم كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك.

3 ـ  وجوب العناية بكتاب الله حسّاً ومعنى: فيكرم, ويصان, ويتبع ما فيه في فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه, ويداوم على تلاوته, وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى به في عدة مناسبات, فدل ذلك على أهميته أهمية بالغة مع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم.

4 ـ  أهمية الصلاة؛ لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولهذا أوصى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته أثناء الغرغرة.

5 ـ  القيام بحقوق المماليك والخدم ومن كان تحت الولاية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك فقال: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“.

6 ـ  فضل أسامة بن زيد حيث أمَّره النبي صلّى الله عليه وسلّم على جيش عظيم فيه الكثير من المهاجرين والأنصار, وأوصى بإنفاذ جيشه (15).

7 ـ  فضل أبي بكر حيث أنفذ وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جيش أسامة فبعثه؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (16).

---------------------------------------------
1.  انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.
2.  يوم الخميس وما يوم الخميس؛ معناه: تفخيم أمره في الشدة والمكروه, والتعجب منه , وفي رواية في أواخر كتاب الجهاد عند البخاري: ”ثم بكى حتى خضب دمعه الحصى“. وفي رواية لمسلم: ”ثم جعلت تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه...“ انظر: فتح الباري 8/132، وشرح النووي على صحيح مسلم.
3.  المعنى: دعوني من النزاع والاختلاف الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه, والفكر في ذلك خير مما أنتم فيه, أو فالذي أعانيه من كرامة الله تعالى الذي أعدها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه من الحياة.. وقبل غير ذلك. انظر: فتح الباري 8/134, وشرح النووي.
4.  وأجيزوا الوفد: أي أعطوهم, والجائزة العطية, وهذا أمر منه صلّى الله عليه وسلّم بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم, وإعانة لهم على سفرهم. انظر: فتح الباري 7/135 وشرح النووي.
5.  البخاري برقم 4431, 4432, ومسلم برقم 1637.
6.  فتح الباري 8/134.
7.  المرجع السابق 8/135.
8.  مسلم برقم 1634, البخاري برقم 2740, 4460, 5022.
9.  الفتح 9/67.
10.  انظر: فتح الباري 8/152, وسيرة ابن هشام 4/328.
11.  خليقاً: حقيقاً بها. النووي 15/205.
12.  البخاري 7/86, برقم 3730, 4250, 4468, 4469, 6627, 7187, ومسلم برقم 2426.
13.  انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/205.
14. أحمد بلفظه 3/117, وإسناده صحيح, ورواه ابن ماجه 2/900, وانظر صحيح ابن ماجه 2/109.
15.  أخرجه ابن ماجه 2/901, وأحمد برقم 585, وانظر: صحيح ابن ماجه 2/109.
16.  انظر: فتح الباري 8/134 - 135 و9/67.