وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [٤١]يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [٤٢]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
المنادي هنا إسرافيل الملَك المكلَّف بالنفخ في الصور، والمراد بالصيحة النفخة الثانية التي تُخرج الناس من القبور للبعث، الحق سبحانه وتعالى يقول لرسوله (صلى الله عليه وسلم): {وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ ..} [ق: 41].
والكلام هنا يأتي بعدما تعرّض له رسول الله من الإيذاء بالقول وبالفعل، فكأن ربه عز وجل يُواسيه، يقول له: إنْ كانوا فعلوا ذلك فانتظر هذا اليوم يوم ينادي عليهم المنادي يوم يقفون للحساب والجزاء.
واستمع لما يحدث منهم في هذا الموقف، وكيف سيندمون ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً، ويشتم بعضهم بعضاً، كما يقولون في المثل الفلاحي (بكره نقعد على الحيطة ونسمع الظيطة) يعني: انتظر يا محمد وسوف تسمع بهم.
وقوله: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] أي: أن المنادي سيكون قريباً من كل واحد كأنه ملازمه، وكأن كلَّ واحد منا معه مناديه {يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ ..} [ق: 42] أي النفخة الثانية {بِٱلْحَقِّ ..} [ق: 42] الحق الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويُكذِّبون به وهو البعث.
وقد حكى القرآن قولهم:
{ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ..} [الرعد: 5]
وقوله سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ} [ق: 42] أي: البعث والخروج من القبور، والنفخة الثانية ستكون بعد موت جميع الخلائق بالنفخة الأولى.
لذلك كان سيدنا رسول الله دائماً يقرأ بسورة (ق) في العيدين لقوله تعالى فيها {ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ} [ق: 42] والخروج مُستحب في العيدين حتى الحائض تخرج ليس للصلاة، إنما لتشهد الخير وجماعة المسلمين في هذا اليوم.
ولذلك سَنَّ لنا رسول الله أنْ تكون صلاة العيدين في الخلاء، لأنها صلاة يحضرها مَنْ لا تصح الصلاة منه.
كما أن في القراءة بسورة (ق) في العيدين إشارة إلى أن يوم العيد والخروج والفرحة والزينة ينبغي ألاَّ تُنسينا يوم الخروج الأكبر، يوم القيامة.


إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [٤٣] يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [٤٤]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
بعد أنْ قال سبحانه: { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } [ق: 42]
يقرر هذه الحقيقة ويأتي بالنتيجة، فيقول {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ ..} [ق: 43] ولأن البعض ينكر هذه الحقيقة أكدها سبحانه بتكرار الضمير.
{إِنَّا نَحْنُ ..} [ق: 43] فهو وحده سبحانه القادر على ذلك {وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ} [ق: 43] أي: المرجع والمآب، فالبداية منا والنهاية إلينا.
{يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ..} [ق: 44] أي: يخرجون منها مُسرعين لأنهم يستجيبون للصيحة في وقت واحد فيخرجون مُسرعين دون تأخير.
{ذَلِكَ ..} [ق: 44] إشارة إلى ما يحدث في ذلك اليوم من تشقُّق الأرض وخروج الناس من قبورهم مُسرعين، وجمعهم في مكان واحد للحشر، وهذا الحشر {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44].


نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [٤٥]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
وما دام أننا أعلم بهم وبما يقولون فدَع الجزاء لنا، لأنك إنْ جازيتهم تُجازيهم على قدر قوتك، ونحن نجازيهم على قدْر قوتنا، ولن نرحمهم ولن يفلتوا من العقاب، إذن: اترك لنا هذه المسألة فنحن أقدر على تأديبهم.
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ..} [ق: 45] فمهمتك البلاغ فلا تتعب نفسك معهم، ولا تكلف نفسك فوق طاقتها، كما عاتب الحق سبحانه قوله: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3].
ومعنى {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ..} [ق: 45] أي: تجبرهم على الإيمان، لأني لو أردتُ ذلك لأجبرتهم على الإيمان كما أجبرت غيرهم، إنما أنا أريدهم طواعية مختارين.
{فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ ..} [ق: 45] فهذه مهمتك أنْ تُذكِّر الناس بهذا القرآن.
ثم قيَّد التذكير هنا بقوله: {مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] أي: يخاف وعيدي وإنذاري، ولا يخاف الوعيد إلا مؤمن وعنده استعداد وقابلية للتلقِّي والاستجابة.
وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين الفعل والقابل للفعل، فليس كل مَنْ يستمع القرآن سواء، فمن الناس مَنْ يستمع ويثمر فيه السماع فيستجيب، ومنهم مَنْ يستمع دون وعي ودون تأمل، فكأنه لم يسمع شيئاً.
لذلك قال تعالى في وصفهم:
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً ..} [محمد: 16].
فهذا السماع عمل الجارحة فقط بلا قلب يستقبل ويعي
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ..} [فصلت: 44].
إذن: فالقرآن واحد لكن المستقبل مختلف، منهم مَنْ يستمع بقلب وَاعٍ ونفس صافية وذِهْن خالٍ من الضد ومن العقائد الفاسدة فيتأثر ويستجيب، ومنهم مَنْ يستمع بقلب معاند وذهن مشغول بعقائد مخالفة تمنعه من الاستجابة.
لذلك قلنا لمن يفاضل بين أمرين: ينبغي أنْ تُخرجَ الجميع من قلبك، ثم تخلو من نفسك وتفكر وتبحث في الأمرين.
قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ..} [سبأ: 46]
فالتفكير الجماعي تفكير غير منظم ولا يصل إلى الصواب غالباً.
تذكرون أننا قلنا في توضيح اختلاف الأثر للفعل الواحد أنك تنفخ في يدك في الشتاء للتدفئة وتنفخ في الشاي مثلاً لتبرده.
فالحق سبحانه وتعالى هنا خَصَّ بالتذكير {مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] لأنه صاحب القلب الواعي والذهن الخالي من المخالف الخالي من الغش ومن الضلال، وهذا هو المستقبل الصحيح للقرآن.