الباب الثالث والثمانون في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها
قال الله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى
«1» فوصف سبحانه وتعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل، وأنت أيها الانسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلا قليلا ثم إن القليل إن تمتعت به فهو لعب ولهو لقوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ«2».
وقال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ«3».         
 فلا تبع أيها العاقل حياة قليلة تفنى بحياة كثيرة تبقى، كما قال ابن عياض: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، والآخرة خزفا يبقى.
لوجب علينا أن نختار ما يبقى على ما يفنى، ثم تأمل بعقلك هل آتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي سليمان عليه الصلاة والسلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال:
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ«4».
فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم فقال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ«5».
وهذا فصل الخطاب لمن تدبر.
هذا قد قال لك ولجميع أهل الدنيا: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 93«6».
وقال تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ«7».
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أريك الدنيا بما فيها؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذارات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد، ثم هي صائرة عظما رميما، وهذه العذارت ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد.
فمن كان باكيا على الدنيا فليبك قال:
فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا» «8».
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: تذكرت كسرى وقيصر.
وما كانا فيه من سعة الدنيا، وأنت رسول الله، وقد أثر الشريط بجنبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدّنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة.
وروي عن الضحاك قال: لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وفقدا ريح الجنة غشي عليهما أربعين يوم من نتن الدنيا.
وعن ابن معاذ قال: الحكمة تهوي من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال: ركون إلى الدنيا «9»، وهم عدو وحسد أخ وحب شرف.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: «يا علي أربع خصال من الشقاء؛ جمود العين، وقسوة القلب، وبعد الأمل، وحب الدنيا».
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية، مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها، فتشرف على الخلائق أجمعين فيقال لهم: أتعرفون هذه؟
فيقولون: لا، نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم عليها.
وعن الفضيل بن عياض أنه قال: جعل الخير كله في بيت واحد، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا، وجعل الشر كلّه في بيت واحد، وجعل مفتاحه حب الدنيا.
وقيل: إن الدنيا مثل ظل الإنسان إن طلبته فر، وإن تركت تبعك، وفي قال بعضهم:
إنّما الرزق الذي تطلبه ... يشبه الظلّ الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متّبعا ... وهو وإن ولّيت عنه تبعك
وقد شبهها بعضهم بخيال الظل فقال:
رأيت خيال الظلّ أعظم عبرة ... لمن كان في علم الحقائق راقي
شخوصا وأصواتا يخالف بعضها ... لبعض وأشكالا بغير وفاق
تجيء وتمضي بابة بعد بابة ... وتفنى جميعا والمحرّك باقي «1»
وما أحسن ما قال سليمان بن الضحاك:
ما أنعم الله على عبده ... بنعمة أوفى من العافيه
وكلّ من عوفي في جسمه ... فإنّه في عيشة راضيه
والمال حلو حسن جيّد ... على الفتى لكنه عاريه «2»
ما أحسن الدّنيا ولكنّها ... مع حسنها غدّارة فانيه
وتوفي رجل من كندة فكتب على قبره هذه الأبيات:
يا واقفين ألم تكونوا تعلموا ... إن الحمام بكم علينا قادم
لو تنزلون بشعبنا لعرفتمو ... أنّ المفرّط في التزوّد نادم
لا تستعزّوا بالحياة فإنّكم ... تبنون والموت المفرّق هادم
سلوى الرّدى ما بيننا في حفرة ... حيث المخدّم واحد والخادم
وقال آخر:
عن قليل أصير كوم تراب ... وتقول الرفاق هذا فلان
صار تحت التراب عظما رميما ... وجفاه الأصحاب والخلّان
وما أحسن ما قال عبد الله بن طاهر:
أليس إلى ذا صار آخر أمرنا ... فلا كانت الدنيا القليل سرورها
فلا تعجبي يا نفس ممّا ترينه ... فكلّ أمور الناس هذا مصيرها
وقال شرف الدين بن أسد:
يا من تملّك ملكا لا بقاء له ... حمّلت نفسك آثاما وأوزارا
هل الحياة بذي الدنيا وإن عذبت ... إلا كطيف خيال في الكرى زارا
وقال بعضهم:
وغاية هذي الدار لذّة ساعة ... ويعقبها الأحزان والهمّ والندم
وهاتيك دار الأمن والعزّ والتّقى ... ورحمة ربّ الناس والجود والكرم
وقال غيره:
حسّنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وقال آخر:
فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن ... بأنّك لا تبقى إلى آخر الدّهر
يا ابن آدم:
أين الأولون والآخرون، أين نوح شيخ المرسلين، أين إدريس رفيع رب العالمين، أين إبراهيم خليل الرحمن، أي موسى الكليم من بين سائر النبيين، أين عيسى روح الله وكلمته رأس الزاهدين، وإمام السائحين، أين محمد خاتم النبيين، أين أصحابه الأبرار، أين الأمم الماضية، أين الملوك السالفة، أين القرون الخالية، أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان، أين الذين قهروا الأبطال والشجعان، أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب، أين الذين تمتعوا باللذات والمشارب، أين الذين تاهوا على الخلائق كبرا وعتيا، أين الذين راحوا في الحلل بكرة وعشيا، أين الذين اغتروا بالأجناد، أين أصحاب الوزراء، والقواد، أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الإمرة والسلطان، أين أصحاب الأعمال والولايات، أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الذين قادوا الجيوش والعساكر، أين الذين عمروا القصور والدساكر، أين الذين أعطوا النصر في موطن الحروب، والمواقف، أين الذين آمنوا بسطوتهم كل خائف، أين الذين ملأوا ما بين الخافقين فخرا وعزا، أين الذين فرشوا القصور حريرا وقزا، أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ذكرا، أفناهم الله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم وأخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا، أسلمهم الأحباء والأولياء، وهجرهم الإخوان الأصفياء، ونسيهم الأقرباء والبعداء، لو نطقوا لأنشدوا:
مقيم بالحجون رهين رمس ... وأهلي راحلون بكل واد «1»
كأنّي لم أكن لهمو حبيبا ... ولا كانوا الأحبّة في السواد
فعوجوا بالسلام فإن أبيتم ... فأوموا بالسلام على البعاد
وقالوا: لا فخر فيما يزول، ولا غنى فيما لا يبقى، وهل الدنيا إلا كما قال بعض الحكماء المتقدمين: قدر يغلى وكنيف يملى.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
ولقد سألت الدار عن أخبارهم ... فتبسّمت عجبا ولم تبدي
حتى مررت على الكنيف فقال لي ... أموالهم ونوالهم عندي
ولقد أصاب ابن السماك حيث قال للرشيد لما قال له عظني، وكان بيده شربة ماء فقال له: يا أمير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك، قال:
نعم، قال: يا أمير المؤمنين، لو شربتها وحبست عن الخروج أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم، فقال له:
لا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة.
وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيما لم ينفعه الطعام، وإذا كان القلب مغرما لم تنفعه الموعظة.
وروي أن أبا العتاهية مر بدكّان ورّاق وإذا بكتاب فيه:
لا ترجع الأنفس عن غيّها ... ما لم يكن منها لها زاجر «2»
فقال: لمن هذا البيت؟ فقيل: لأبي نواس قاله للخليفة هارون الرشيد حين نهاه عن حب الجمال وعشق الملاح، فقال: وددت أنه لي بنصف شعري.
وممن استبصر من أبناء الملوك فرأى عيب الدنيا وتقضيها وزوالها، إبراهيم أدهم بن منصور، كان من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ، لما زهد الدنيا زهد في ثمانين سريرا.
قال ابن بشار: سألت ابراهيم بن أدهم:
كيف كان بدء أمرك حتى صرت إلى هذا؟ فقال: كان أبي من ملوك خراسان وكان قد حبب إلي الصيد، فبينا أنا راكب فرسي وكلبي معي إذ رأيت ثعلبا أو أرنبا، فحركت فرسي نحوه، فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله الشيطان.
ثم حركت فرسي، فسمعت نداء أعلى من الأول: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت.
فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر شيئا، فقلت: لعن الله الشيطان، ثم حركت فرسي، فسمعت النداء من قربوس سرجي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت وقلت: هيهات جاءني النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربي ما عصمني بعد يومي هذا.
فتوجهت إلى أهلي وخلفت فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي، فأخذت جبته وكساءه وألقيت إليه ثيابي، فلم أزل أرض تقلني وأرض تضعني حتى صرت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فقال: عليك بالشام، قال: فانصرفت إلى بلد يقال لها المنصورية «3»، فعملت بها أياما، فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال: إن أردت الحلال، فعليك بطرسوس.
فإن المباحات بها والعمل فيها كثير، فانصرفت إليها.
قال: فبينا أنا قاعد على باب البحر إذ جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستانا، فتوجهت معه، فأقمت في البستان أياما كثيرة، فإذا خادم له قد أقبل ومعه أصحاب له ولو علمت أن البستان بخادم ما نظرته، فقعد في مجلسه ثم قال: يا ناظورنا، فأجبته.
قال: اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه.
فأتيته برمان، فكسر الخادم واحدة، فوجدها حامضة.
فقال: يا ناظورنا أنت منذ كذا وكذا في بستاننا تأكل من فاكهتنا ورماننا ولا تعرف الحلو من الحامض؟
فقلت: والله ما أكلت من فاكهتكم شيئا، ولا أعرف الحلو من الحامض.
 قال: فغمز الخادم أصحابه، وقال: ألا تعجبون من هذا، ثم قال لي: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما كنت بهذه الصفة، قال: ثم تحدث الناس بذلك، وجاءوا إلى البستان، فلما رأيت كثرة الناس اختفيت والناس داخلون، وأنا هارب منهم.
وكان يأكل من كسب يده، وكان يحصد ويحفظ البساتين ويعمل في الطين، فبينما هو يوما يحرس كرما إذ مر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب.
فقال له: إن صاحبه لم يأذن لي، فضربه بالسوط فطأطأ رأسه وقال: اضرب رأسا طالما عصى الله يا سيدي الجندي.
فاستحى الرجل وتركه ومضى.
وروي أن داود عليه الصلاة والسلام بينما هو في الجبال إذ مر على غار فيه رجل عظيم الخلقة من بن
ي آدم ملقى على ظهره وعند رأسه حجر محفور مكتوب فيه: أنا دوسم الملك، تملكت ألف عام وفتحت ألف مدينة.
وهزمت ألف جيش، وافتضيت ألف بكر من بنات الملوك ثم صرت إلى ما ترى التراب فراشي والحجر وسادي فمن رآني فلا تغره الدنيا كما غرتني.
وقال وهب بن منبه: خرج عيسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم مع أصحابه، فلما ارتفع النهار مروا بزرع قد أفرك.
فقالوا: يا نبي الله إنّا جياع فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم.
فأذن لهم، فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع يقول: زرعي وأرضي ورثتها من أبي وجدي، فبإذن من تأكلون يا هؤلاء؟
قال: فدعا عيسى ربه أن يبعث جميع من ملكها من لدن آدم إلى تلك الساعة، فإذا عند كل سنبلة ما شاء الله من رجل، وامرأة يقولون: أرضنا ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ففر الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى ولكن لا يعرفه، فلما عرفه قال: معذرة إليك يا نبي الله لم أعرفك، زرعي ومالي حلال لك.
فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم ورثوها وعمروها، ثم ارتحلوا عنها، وأنت مرتحل عنها ولا حق بهم، ليس لك أرض ولا مال «1».
ولما مات الإسكندر قال أرسطاطاليس: أيها الملك لقد حركتنا بسكوتك، وقال بعض الحكماء من أصحابه: لقد كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.
أخذه أبو العتاهية فقال:
كفى حزنا بدفنك ثم إنّي ... نفضت تراب قبرك من يديّا
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
وقال عبد الله بن المعتز:
نسير إلى الآجال في كلّ ساعة ... فأيامنا تطوى وهنّ مراحل
ولم أر مثل الموت حتى كأنّه ... إذا ما تخطّته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شاعل
ترحلّ من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعدّ قلائل
وقال عبد الله بن المعلم: خرجنا من المدينة حجّاجا فإذا أنا برجل من بني هاشم من بني العباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا، وأقبل على الآخرة، فجمعتني وإياه الطريق، فأنست به وقلت له: هل لك أن تعادلني، فإن معي فضلا من راحلتي، فجزاني خيرا وقال: لو أردت هذا لكان سهلا، ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس كنت أسكن البصرة وكنت ذا كبر شديد ونعمة طائلة ومال كثير وبذخ زائد، فأمرت يوما خادما لي أن يحشو لي فراشا من حرير ومخدة بورد نثير ففعل، فإني لنائم إذا بقمع وردة قد نسيه الخادم، فقمت إليه فأوجعته ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني وقال: أفق من غشيتك وانتبه من رقدتك، ثم أنشأ يقول:
يا خل إنك إن توسّد لينّا ... وسّدت بعد اليوم صمّ الجندل»
فامهد لنفسك صالحا تسعد به ... فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل
فانتبهت مرعوبا وخرجت من ساعتي هاربا إلى ربي كما تراني ثم أنشأ يقول:
من كان يعلم أن الموت يدركه ... والقبر مسكنه والبعث يخرجه
وأنّه بين جنات مزخرفة ... يوم القيامة أو نار ستنضجه
فكلّ شيء سوى التقوى به سمج ... ومن أقام عليه منه أسمجه «2»
ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا ... لم يدر أن المنايا سوف تزعجه
قال وهب بن منبه: أصبت على قصر غمدان وهو قصر سيف بن ذي يزن بأرض صنعاء اليمن وكان من الملوك الأجلة مكتوبا بالقلم المسندي فترجم بالعربي فإذا هي أبيات جليلة وموعظة عظيمة جميلة وهي هذه الأبيات:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل «3»
واستنزلوا من أعالي عزّ معقلهم ... فأسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا «4»
فإذا همو صارخ من بعد ما دفنوا ... أين الاسرّة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت محجبة ... وكان من دونها الأستار والكلل «5»
فافصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا
وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان معه صاحب في بعض سياحاته فأصابهما الجوع وقد انتهيا إلى قرية فقال عيسى عليه الصلاة والسلام لصاحبه: انطلق فاطلب لنا طعاما من هذه القرية، وأعطاه ما يشتري به، فذهب الرجل وقام عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي، فجاء بثلاثة أرغفة، فقعد ينتظر انصراف عيسى من الصلاة فأبطأ عليه، فأكل رغيفا وكان عيسى عليه الصلاة والسلام رآه حين جاء ورأى الأرغفة ثلاثة، فلما انصرف من صلاته لم يجد إلا رغيفين، فقال له: أين الرغيف الثالث؟ فقال الرجل: ما كانا إلا رغيفين، فأكلاهما.
ثم مرّا على وجوههما حتى أتيا على ظباء ترعى فدعا عيسى عليه الصلاة والسلام واحدا منها، فجاءه فذكاه «6» وأكلا منه، فقال له عيسى: بالذي أراك هذه الآية من أكل الرغيف الثالث؟
فقال: ما كانا إلا اثنين.
ثم مرّا على وجوههما حتى جاءا قرية فدعا عيسى ربه أن ينطق له من يخبره عن حال هذه القرية، فأنطق الله له لبنة، فسألها عيسى فأخبرته بكل ما أراد.
وصاحبه يتعجب مما رأى، فقال له عيسى: بحق من أراك هذه الآية: من صاحب الرغيف الثالث؟
فقال: ما كانا إلا إثنين.
فمرّا على وجوههما حتى انتهيا إلى نهر عجاج، فأخذ عيسى صلوات الله عليه بيد الرجل ومشى به على الماء حتى جاوز النهر، فقال الرجل: سبحان الله.
فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث؟
فقال: ما كانا إلا اثنين.
فمرا على وجوههما حتى أتيا قرية عظيمة خربة، وإذا قريب منها ثلاث لبنات عظام، وقيل ثلاثة أكوام من الرمل، فقال لها:
كوني ذهبا بإذن الله، فكانت، فلما رآها الرجل قال: هذا مال، فقال عيسى: نعم واحدة لي وواحدة لك وواحدة لصاحب الرغيف الثالث.
فقال الرجل: أنا صاحب الرغيف الثالث.
فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: هي لك كلها، ثم فارقه عيسى.
وأقام الرجل ليس معه ما يحملها عليه، فمرّ به ثلاثة نفر فقتلوه، فقال اثنان منهما للثالث: انطلق إلى القرية فأتنا بطعام، فانطلق فلما غاب قال أحدهما للآخر: إذا جاء قتلناه واقتسمناه المال بيننا.
 قال الآخر: نعم، وأما الذي ذهب ليشتري الطعام فإنه أضمر لصاحبيه السوء، وقال أجعل لهما في الطعام سما فإذا أكلاه ماتا وآخذ المال لنفسي، فوضع السم في الطعام وجاء فقاما إليه فقتلاه وأكلا الطعام، فماتا.
فمر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام وهم مصروعون حولها فقال: هكذا الدنيا تفعل بأهلها.
وقال الهيثم بن عدي: وجد غار في جبل لبنان زمن الوليد بن عبد الملك وفيه رجل مسجى على سرير من الذهب وعند رأسه لوح من الذهب أيضا مكتوب فيه بالرومية: أنا سبأ بن نواس خدمت عيصو بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرب الأكبر، وعشت بعده دهرا طويلا ورأيت عجبا كثيرا ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت، وهو يرى مصارع آبائه ويقف على قبور أحبابه، ويعلم أنه صائر اليهم، ثم لا يتوب، وقد علمت أن الأجلاف الجفاة يستنزلونني عن سريري ويتولونه وذلك حين يتغير الزمان ويكثر الهذيان ويترأس الصبيان، فمن أدرك هذا الزمان عاش قليلا ومات ذليلا.
وعن عمرو بن ميمون أنه قال: افتتحنا مدينة بفارس فدللنا على مغارة فيها بيت فيه سرير من الذهب عليه رجل عند رأسه لوح مكتوب فيه: أنا بهرام ملك فارس، كنت أغناههم بطشا، وأقساهم قلبا، وأطولهم أملا، وأحرصه على الدنيا، قد ملكت البلاد، وقتلت الملوك، وهزمت الجيوش وأذللت الجبابرة وجمعت من الأموال ما لم يجمعه أحد قبلي، ولم أستطع أن أفتدي به من الموت إذ نزل بي.
ويروى في الإسرائيليات أن عيسى عليه الصلاة والسلام بينا هو في سياحته إذ مرّ بجمجمة نخرة، فسأل الله أن تتكلم فأنطقها الله له فقالت: يا نبي الله: أنا بلوان بن حفص ملك اليمن عشت ألف سنة ورزقت ألف ولد وافتضضت ألف بكر وهزمت ألف جيش وفتحت ألف مدينة، فما كان كل ذلك إلا كحلم النائم، فمن سمع قصتي فلا يغتر بالدنيا.
فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام بكاء شديدا حتى غشي عليه.
ووجد مكتوب على قصر قد خرّبت أركانه وبادت أهله وأظلمت نواحيه هذه الأبيات:
هذي منازل أقوام عهدتهم ... يوفون بالعهد مذ كانوا وبالذمم
تبكي عليهم ديار كان يطربها ... ترنّم المجد بين الجود والكرم
وقيل في المعنى:
بالله ربّك كم قصر مررت به ... قد كان أعمر باللّذّات والطرب
نادى غراب المنايا في جوانبه ... وصاح من بعده بالويل والحرب
وفيه:
أيها الرّافع البناء رويدا ... لا يردّ المنون عنك البناء
وحكي أن رجلين تنازعا في أرض فأنطق الله تعالى لبنة من جدار تلك الأرض فقالت: إني كنت ملكا من الملوك ملكت الدنيا ألف سنة، ثم صرت رميما ألف سنة، ثم أخذني خزاف وعملني إناء، فاستعملت ألف سنة حتى تكسرت وصرت ترابا، فأخذني طوّاب وعملني لبنا وأنا في هذا الجدار كذا وكذا سنة، فلم تتنازعان في هذه الأرض وأنتم عنها زائلون وإلى غيرها منقلبون والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروي أن ملكا بنى قصرا وقال: انظروا إن كان فيه عيب فأصلحوه، فقال رجل: أرى فيه عيبين.
فقالوا له: وما هما؟
قال: يموت الملك ويخرب القصر.
قال: صدقت ثم أقبل على الله وترك القصر والدنيا.
وقيل: سئل الخضر عليه السلام عن أعجب شيء رآه في الدنيا مع طول سياحته وقطعه للقفار والفلوات، فقال:
أعجب شيء رأيته أني مررت بمدينة لم أر على وجه الأرض أحسن منها، فسألت بعض أهلها متى بنيت هذه المدينة فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا متى بنيت، وما زالت كذلك من عهد الطوفان ثم غبت عنها خمسمائة سنة ومررت بها فإذا هي خاوية على عروشها ولم أر أحدا أسأله وإذا رعاة غنم فدنوت منهم فقلت: أين المدينة التي ههنا؟
 فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا مدينة، ثم غبت خمسمائة سنة ومررت بها وإذا موضع تلك المدينة بحر وإذا غواصون يخرجون منه شبه الحلية، فقلت للغواصين منذ كم هذا البحر ههنا؟
 فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا البحر من عهد الطوفان، فغبت خمسمائة سنة وجئت فإذا البحر قد غاض ماؤه وإذا مكانه غيضة وصيادون يصيدون فيها السمك في زوارق صغار فقلت لبعضهم، أين البحر الذي كان ههنا؟
فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا بحر.
فغبت خمسمائة عام ثم جئت إلى ذلك، فإذا هو مدينة على الحالة الأولى، والحصون والقصور والأسواق قائمة، فقلت لبعضهم: أين الغيضة التي كانت ههنا، ومتى بنيت هذه المدينة؟
فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذه المدينة على حالها من عهد الطوفان.
فغبت عنها نحو خمسمائة سنة ثم أتيت إليها، فإذا عاليها سافلها وهي تدخن بدخان شديد، فلم أر أحدا أسأله ثم أتيت راعيا فسألته أين المدينة؟
قال سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا المكان هكذا منذ كان.
فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي.
فسبحان مبيد العباد ومفني البلاد ووارث الأرض ومن عليها وباعث من خلق منها بعد رده إليها.
ولبعضهم:
قف بالديار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبّة حسرة وتشوّقا
كم قد وقفت بها أسائل أهلها ... عن حالها مترحّما أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى وعزّ الملتقى
ولبعضهم:
أيها الربع الذي قد دثرا ... وكان عينا ثم أضحى أثرا «1»
أين سكانك ماذا فعلوا ... خبرن عنهم سقيت المطرا
فلقد نادى منادي دارهم ... رحلوا واستودعوني عبرا «2»
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه، يا دنيا مرّي على أوليائي ولا تحلي لهم فتفتنيهم.
وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد صاحبها شرابا ازداد عطشا، أو كالكأس من عسل وفي أسفله سم فللذائق منه حلاوة عاجلة وفي أسفله الموت، أو كحلم النائم يفرح في منامه فإذا استيقظ زال فرحه أو كالبرق يضيء قليلا ثم يذهب.
ولما بنى المأمون قصره الذي ضرب به المثل نام فيه فسمع قائلا يقول:
أتبني بناء الخالدين وإنّما ... بقاؤك فيها إن عقلت قليل
لقد كان في ظلّ الأراك كفاية ... لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل
قال، فلم يلبث بعدها إلا قليلا ومات وقال:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع «3»
ووجد مكتوب على قصر باد أهله:
هذي منازل أقوام عهدتهم ... في خفض عيش نفيس ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور فلا عين ولا أثر
ولو قيل للدنيا صفي نفسك ما عدت ما وصفها به أبو نواس بقوله:
وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة رأى قبرا فقال: قبر من هذا؟
فقالوا: قبر خباب بن الأرت، فوقف عليه وقال: رحم الله خبابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه آخرا ألا وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ثم مشى فإذا هو بقبور، فجاء حتى وقف عليها، وقال:
السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم.
طوبى لمن ذكر المعاد وعمل ليوم الحساب وقنع بالكفاف، ورضي عن الله تعالى ثم قال: يا أهل القبور أمّا الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت وهذا ما عندنا، فما عندكم، ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى، والله سبحانه وتعالى أعلم.