باب مذهب الكسائي في إمالة هاء التأنيث في الوقف
(339)
وَفِي هَاءِ تَأْنِيثِ الْوُقُوفِ وَقَبْلَهَا مُمَالُ الْكِسَائِي غَيْرَ عَشْرٍ لِيَعْدِلاَ
احترز بقوله هاء تأنيث عن هاء السكت وهاء الضمير وقد تقدم بيان ذلك والوقوف مصدر بمعنى الوقف وأضاف هاء التأنيث إليه احترازا من الهاء في (هذه)، فإنها هاء تأنيث لكنها لا تزال هاء وقفا ووصلا فأراد أن الإمالة واقعة في هاء التأنيث التي هي في الوقف هاء وفي الوصل تاء سواء كانت مرسومة في المصحف بالتاء أو بالهاء لأن من مذهب الكسائي الوقف على جميع ذلك بالهاء على ما يأتي بيانه فإن قلت ما وجه إضافة التأنيث إلى الوقوف قلت لم يضف التأنيث وحده فإن التأنيث من حيث هو التأنيث وقفا ووصلا وإنما أضاف إلى الوقوف ما يخصه وهو كون حرف التأنيث صار هاء فيكون من باب قولهم حب رماني لم يضف إلى الياء الرمان وحده وإنما أضاف حب الرمان وقد تقدم بيان ذلك في شرح قوله أبو عمرهم ويدخل تحت قوله هاء تأنيث ما جاء على لفظها وإن لم يكن المقصود بها الدلالة على التأنيث كهمزة (لمزة - كاشفة - بصيرة)، ولهذا قال صاحب التيسير اعلم أن الكسائي كان يقف على هاء التأنيث وما ضارعها في اللفظ بالإمالة ومثل المضارع بما ذكرناه وغيره فقوله وما قبلها أي وفي الحروف التي قبلها وممال بمعنى الإمالة كمقام بمعنى إقامة أي أن إمالة الكسائي واقعة في هاء التأنيث في الوقف وفي الحرف الذي قبلها لقرب الهاء من الياء ولقرب ما قبلها من الكسرة كما يفعل مثل ذلك في إمالة الألف لابد من تقريب ما قبلها من الكسر ويوصف ذلك بأنه إمالة له وعلى ذلك شرحنا قوله وراء (تراءى)، فإن قلت لما ذكر في الباب المتقدم إمالة الألفات لم ينص على إمالة ما قبلها من الحروف فلم نص هنا على إمالة الحرف الذي قبل هاء التأنيث قلت لأن الألف الممالة لم يستثن من الحروف الواقعة قبلها شيء وهنا بخلاف ذلك على ما ستراه، قوله غير عشر مستثنى من موصوف قبلها المحذوف والتقدير وفي الحروف التي قبلها غير عشرة من تلك الحروف فإنه لم يملها ومن ضرورة ذلك أن لا يميل الهاء وإنما أنث لفظ عشر وإن كان الوجه تذكيره لأن معدوده حروف وهي مذكرة لأنها جمع حرف من أجل أن تلك الحروف عبارة عن حروف الهجاء وأسماء حروف الهجاء جاء فيها التذكير والتأنيث فأجرى ذلك في العبارة عنها اعتبارا بالمدلول لا اعتبارا باللفظ والعرب تعتبر المدلول تارة والعبارة أخرى كقوله، (وأن كلابا هذه عشر أبطن)، فأنث أبطنا وهو جمع مذكر وهو بطن لما كان البطن بمعنى القبيلة ولهذا تم البيت بقوله، (وأنت بريء من قبائلها العشر)، وأشار بقوله ليعدلا إلى أن تلك الحروف تناسب الفتح دون الإمالة فلهذا استثناها ثم بين تلك الحروف العشرة في كلمات جمعها فيها فقال
(340)
وَيَجْمَعُهَا (حَقٌ ضِغَاطٌ عَصٍ خَظَا وَ(أَكْهَرُ) ببَعْدَ الْيَاءِ يَسْكُنُ مُيِّلاَ
أي يجمع تلك الحروف هذه الكلمات الأربع وضغاط جمع ضغطة وعص بمعنى عاص وخظا بمعنى سمن واكتنز لحمه يشير إلى ضغطة القبر وهي عصرته والضيق فيه والعاصي حقيق بذلك ولا سيما إذا كان سمينا وكأنه يشير بالسمن إلى كثرة ذنوبه كما يوصف من كثر ماله بذلك والسمن الحقيقي مكروه في ذاته لأهل الدين والعلم لأنه يشعر غالبا بقلة اهتمامه بالآخرة وبالبلادة أيضا والهم يذيب الجسم وينحفه ولهذا جاء في الحديث أما علمت أن الله يبغض الحبر السمين، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذم قوم قليل فقه قلوبهم وكثير شحم بطونهم، قال العلماء فيه تنبيه على أن الفطنة قل ما تكون مع كثرة اللحم والاتصاف بالسمن والشحم وفي أخبار الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال ما رأيت سمينا عاقلا قط إلا رجلا واحدا وفي رواية ما رأيت سمينا أخف روحا من محمد بن الحسن -رضي الله عنه- ومثال ذلك (النطيحة - و - الحاقة - و - قبضة - و - بالغة - و - حياة - و - بسطة - و -  القارعة - و - خصاصة - و - الصاخة - و - موعظة)، وهذه الحروف العشرة سبعة منها هي حروف الاستعلاء تستعلى إلى الحنك الأعلى فتناسب الفتح وهي تمنع إمالة الألف في الأسماء فكيف لا تمنع إمالة الهاء التي هي مشبهة بها فإن كان قبل حرف الاستعلاء كسرة فإن الإمالة جائزة في الألف نحو (ضعافا)، ولم يقرأ الكسائي بها في هاء التأنيث نحو (القارعة)، والبالغة طردا للباب ولأن الإمالة في الهاء ضعيفة فجاز أن يمنعها ما لا يمنع إمالة الألف فإن فصل بين حرف الاستعلاء وبين الهاء فاصل جازت الإمالة نحو (رقبة - و - مسبغة - و - نحلة - و - بطشة - و - عصبة)، والأحرف الثلاثة الباقية هي من حروف الحلق الألف والحاء والعين أما الألف فلأنها ساكنة لا يمكن كسرها ولو كسر ما قبلها لكانت الإمالة للألف لا للهاء وأما الحاء والعين فلأنها أقرب حروف الحلق إلى حروف الاستعلاء فأعطيا حكمها ثم قال وأكهر أي حروف أكهر وهي أربعة الهمزة والكاف والهاء والراء إذ وقعت قبل هاء التأنيث بعد ياء ساكنة أو كسرة أميلت فذكر الباء في هذا البيت والكسر في البيت الآتي ويلزم من إمالة هذه الحروف إمالة الهاء بعدها والأكهر الشديد العبوس يقال كهره إذا استقبله بذلك والكهر ارتفاع النهار مع شدة الحر ويسكن في موضع الحال من الياء والضمير في ميلا عائد على لفظ أكهر دون معناه وهما مبتدأ وخبر وذكر ميلا معاملة للمضاف إليه بعد حذف المضاف لما أقيم مقامه فهو من باب قوله تعالى (وكم من قرية أهلكناها فجاءها)، وشبهه ولو عامل المضاف المحذوف لقال ميلت كما قال تعالى بعد ذلك (أو هم قائلون)، وإنما اختار الناظم ذلك لأجل القافية فمثال الهمزة بعد الياء الساكنة (خطيئة - هيئة - وبعد الكسر - خاطئة)، ومثال الكاف بعد الياء الساكنة (الأيكة - وبعد الكسر - الملائكة)، ومثال الهاء بعد الكسر (آلهة - و - فاكهة)، ولا مثال لها بعد الياء الساكنة في القرآن ومثال الراء بعد (الياء الكبيرة - و - صغيرة - وبعد الكسر - تبصرة - والآخرة)، وقد ذكر الكسر قبل الأربعة في قوله
(341)
أَوِ الْكَسْرِ وَالإِسْكَانُ لَيْسَ بِحَاجِزٍ وَيَضْعُفُ بَعْدَ الْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَرْجُلاَ
إذا وقع بين الكسر وبين الراء حرف ساكن لم يكن ذلك بحاجز أي بمانع للكسر من اقتضائه الإمالة فكأنه قال أو تقع هذه الحروف الأربعة بعد كسر يليها أو بعد ساكن يليه كسر، ولا مثال لهذا في الهمزة والكاف وإنما مثاله في الهاء نحو وجهة وفي الراء نحو  - عبرة - و - سدرة - واختلف في - فطرة - لأجل أن الساكن حرف الاستعلاء فقوى المانع وهذا وجه جيد ويقويه ما يأتي في الراءات فإنه اعتد به حاجزا فمنع الترقيق فكذا يمنع الإمالة ولكن هما بابان كل باب لقارئ فلا يلزم أحدهما مذهب الآخر والكل جائز الإمالة والترك في اللغة ومثاله ترك ورش ترقيق راء عمران للعجمة وابن ذكوان رققها تبعا لإمالة الألف بعدها ولم ينظر إلى العجمة ثم قال ويضعف يعني أكهر ضعفت حروفه عن تحمل الإمالة إذا وقعت بعد الفتح والضم وأرجلا جمع رجل ونصبه على التمييز استعار ذلك لما كان يقال لكل مذهب ضعيف هذا لا يتمشى ونحوه لأن الرجل هي آلة المشي فمثال الهمزة بعد الفتح امرأة فإن فصل بين الفتح وبين الهمزة فاصل ساكن فإن كان ألفا منع أيضا نحو (براءة)، وإن كان غير ألف اختلف فيه نحو (سوءة)، وكهيئة والنشأة قال الداني والقياس الفتح كأنه أراد القياس على الألف أو لأن الإسكان لما لم يحجز الكسر عن اقتضاء الإمالة في نحو (عبرة)، فكذا لا يحجز الفتح عن منع الإمالة في نحو (سوءة)، مثال الكاف بعد الفتح نحو (مباركة - و - الشوكة)، سواء في ذلك ما فيه فصل ومالا فصل فيه وبعد الضمة نحو (التهلكة)، ومثال الهاء بعد الفتح مع فصل الألف - سفاهة - ولا يقع غير ذلك ومثال الراء بعد الفتح شجرة وثمرة وكذا مع فصل الألف وغيرها من الساكن نحو - سيارة - و - نضرة - وبعد الضم مع الحاجز - نحو - عسرة - و - محشورة - ويجمع ذلك كله أن تقع حروف أكهر بعد فتح أو ضم بفصل ساكن وبغير فصل فلهذا طلق قوله بعد الفتح والضم ووجه استثناء هذه الحروف الأربعة في بعض الصور أما الهمزة والهاء فمن حروف الحلق فألحقا بالألف والحاء والعين والخاء والغين وأما الكاف فقريبة من القاف فمنعت منعها وأما الراء فلما فيها من التكرير تشبه المستعلية فمنعت فأما إذا وقع قبل هذه الأحرف الأربعة كسرة أو ياء ساكنة فإن أسباب الإمالة تقوى وتضعف المانع فتمال الهاء ثم مثل ما قبله ساكن بعد كسر وما قبله كسر أو ياء ساكنة فقال
(342)
لَعِبْرَهْ مِائَهْ وِجْهَهْ وَلَيْكَهْ وَبَعْضُهُمْ سِوى أَلِفٍ عِنْدَ الْكِسَائي مَيَّلاَ
أراد قوله تعالى (إن في ذلك لعبرة)، فهذا مثال ما قبله ساكن بعد كسر ومثله ولكل وجهة ومثال ما قبله كسر (فإن يكن منكم مائة)، ومثال ما قبله ياء (أصحاب الأيكة)، ووقع في نظم البيت (ليكة)، باللام وهذا وإن كان قرئ به في سورتي الشعراء و(ص) فليس صاحب الإمالة ممن قرأ هذه القراءة فالأولى أن يقع المثال بما هو قراءة له فيقال وأيكة بهمزة قبل الياء ولا يضر حذف لام التعريف فإنها منفصلة من الكلمة تقديرا، ووجه ثان وهو أن الأيكة جاءت في القرآن في غير هاتين السورتين غير مقروءة باللام بإجماع على ما في التيسير ونظمه فإذا وقع المثال بهمزة عم جميع المواضع مع موافقة القراءة بخلاف التمثيل بقراءة اللام ولعله أراد (الأيكة)، على قراءته وإنما نقل حركة الهمزة إلى اللام لضرورة النظم كما يقرأ ورش فالصواب كتابته على هذه الصورة في هذا البيت ليشعر بذلك ولا يوهم أنه أراد تلك القراءة فهو كقوله في الأنعام (والآخرة)، المرفوع بالخفض - و - كلا - والله أعلم.، ثم قال وبعضهم أي وبعض المشايخ من أهل الأداء ميل، للكسائي جميع الحروف قبل هاء التأنيث مطلقا من غير استثناء شئ إلا الألف قال صاحب التيسير والنص عن الكسائي في استثناء ذلك معدوم وبإطلاق القياس في ذلك قرأت على أبي الفتح عن قراءته، ثم قال والأول أختار إلا ما كان قبل الهاء فيه ألف فلا تجوز الإمالة فيه وقال في كتاب الإمالة لم يستثن خلف عن الكسائي شيئا وكذلك بلغني عن أبي مزاحم الخاقاني وكان من أضبط الناس لحرف الكسائي وإليه ذهب أبو بكر ابن الأنباري وجماعة من أهل الأداء والتحقيق وبه قرأت على شيخنا أبي الفتح عن قراءته على أصحابه قال وكان أبو بكر بن مجاهد وأبو الحسين بن المنادى وأبو طاهر بن أبي هاشم وجميع أصحابهم يخصون من ذلك بالفتح ما كان فيه قبل هاء التأنيث أحد عشرة أحرف فذكرها ثم قال جعلوا للهمزة والراء والكاف إذا وقعت قبل هاء التأنيث أحوالا فأمالوا بعضا وفتحوا بعضا ثم شرح ذلك على نحو ما تقدم فأما الألف قبل هاء التأنيث فأتت في عشر كلم (الصلاة - و - الزكاة - و - الحياة - و - النجاة - و - منوة - و - هيهات هيهات - و - ذات - و - لات - و - اللات)، لأن الكسائي يقف على هذه الكلم الخمس بالهاء وهو وغيره يقفون على ما عداها كذلك فلا تمال الهاء في هذه الكلم العشر لأنه يلزم من ذلك إمالة الألفات وهي لا تقبل الإمالة لأنها من ذوات الواو في بعضها ومجهولة في بعضها ولا حظ للجميع في الإمالة فلو وقعت إمالة لظن أنها للألف لا للهاء لأن الألف هي الأصل في الإمالة والهاء فرع لها ومشبهة بها ألا ترى أن (تقاة - و - مرضات - و - مزجاة - و - التوراة - و - كمشكاة)، معدودة في باب إمالة الألف لا في باب إمالة الهاء وذكر مكي في - مناة - خلافا مبنيا على أصل الألف واختار عدم الإمالة وذكر الداني في ألف الحياة خلافا أنها منقلبة عن واو وعن ياء وإنما لم تمل على هذا القول لكونها مرسومة في المصحف بالواو والله أعلم.