6ـ نماذج من تربية الأولاد
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد...
فقد شاع بين الناس في حياتهم الاجتماعية أن الولد إذا بلغ سنًا معينةً، رفع الأبوان عنه عين التربية، ووضَعا عنه عصا العقوبة، ولا أمْرَ لهم عليه ولا نهْيَ، فليفعل ما يشاء، وليختر لنفسه ما يختار، حتى صار هذا الأمر عرفًا سائدًا، ومثلًا سائرًا يقولون فيه: (لو كبر ابنك خاويه )، بل صار في بعض الأنظمة في العالم قانونًا ذا سيادةٍ تكفُل للولد حق التفلُّت من ربقة التربية الإسلامية، وما هو له بحق.

لكنّ تعاليم الإسلام، وسيرة سلفنا الكرام -رضي الله عنهم- تضع أمامنا منهاجًا قويمًا ذا نماذج كثيرة، منها:
موقف سيدنا إبراهيم من سيدنا إسماعيل -عليهما السلام- بعد أن كبُر وتزوج، حيث زاره أبوه سيدنا إبراهيم، ليتفقد أمره ويتابع تربيته، فلم يجده، فسأل زوجته عن حالهما فلم تشكر نعمة الله، وإنما نقِمت على الحياة، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: غيِّر عتبة بابك، فجاء إسماعيل واستشعر أن الذي زارهم هو أبوه، وفهِم مقالته، فطلّقَ امرأته هذه، وتزوَّج بأخرى.

ثم جاء سيدنا إبراهيم -عليه السلام- مرةً بعد مرة، فلم يجد إسماعيلَ أيضًا، فكلّم زوجته الجديدة فشكرت نعمة الله وفضله عليهما، وأحسنت استقبال هذا الشيخ الكبير وهي لا تعرفه، وأكرمت نُزُله على عادة العرب، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: قد ثبتت عتبة بابك.

نموذجٌ آخر من حياة سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه-، يدخل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجد أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ومعها طفلتان تغنيان ببعض الأشعار الحماسية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالسٌ قد ولّاهنّ ظهره، فغضب أبو بكر من ابنته عائشة -رضي الله عنهما- وانتهرها قائلًا: أمزمور الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، وكأنه يُعَلّم ابنته بعد زواجها كيف تراعي مقام زوجها، وكيف تحافظ على شعوره.

ويروي البخاري -رحمه الله- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في سفرٍ مع بعض أصحابه ومعه عائشة -رضي الله عنها-، فانقطع عِقدُها في مكانٍ نزلوا فيه، فأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يبحثون عن العقد حتى كاد وقت صلاة الصبح، وليس في المكان ماء، وليس مع القوم ماء، فقال الناس لأبي بكر: ألا ترى ما صنعَت عائشة؟

تقول عائشة: فجاء أبو بكر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعٌ رأسه على فخِذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناسَ، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ، فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فأنزل الله آية التيمم.

وهذا سيدنا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- راح يتفقد حال ولده عبد الله بن عمرو بعد زواجه، فلم يجده، فقال لامرأته: كيف حال عبد الله معك؟ قالت: نِعمَ الرجل مِن رجلٍ، إلا أنه منذ كنت عندكم لم يطأ لي فِراشًا، ولم يرفع عني غطاءً، فشكاه أبوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجيء بعبد الله، واستجوبه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنه يصوم النهار ويقوم الليل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لربك عليك حقًا، وإن لبدنك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزَورِكَ -أي لضيفك- عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه".

وهكذا، ينبغي ألا تغفل عينُ الآباء والأمهات عن أولادهم، وأن يتابعوهم بالرِّباية والرعاية.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.