4ـ أنت ومالُك لأبيك

4ـ أنت ومالُك لأبيك*
جاء رجلٌ يشكو أباه عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أخذ ماله، فاستدعى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبا الرجل وسمع منه، فعلم أنه لم يأخذ مال ولده إلا بحق، ثم زجر الولدَ الشاكي، وانتهره بقوله: "أنت ومالُك لأبيك".

جاء هذا الرجلُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو أباه ويختصمُه، وادّعى أن أباه أخذ ماله، فاستدعى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الوالدَ المتهَم بأخذ مال ولده، فنزل جبريلُ -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله -عز وجل- يقرئك السلام، ويقولُ لك: إذا جاءك الشيخُ فسله عن شيءٍ قاله في نفسه ما سمعَته أذناه".

فلما جاء الرجلُ -وكان شيخًا كبيرًا، يتوكّأ على عصاه-، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بال ابنك يشكوك أتريد أخذ ماله؟" أجاب الرجلُ وقال: سله يا رسول الله، هل أنفقتُه إلا على إحدى عمّاته، أو خالاته، أو على نفسي؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إيه، دعنا من هذا وأخبرني عن شيءٍ قلتَه في نفسك ما سمعَته أذناك"، فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما يزال الله يزيدنا بك يقينًا، لقد قلت في نفسي شيئًا ما سمعَته أذناي.

فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قل , وأنا أسمع" قال: قلت:
غَذَوتُكَ مَولــــــودًا وَمُنْتُك يَافِعًا... تُعَلُّ بــــما أَجْنِي عليك وَتَنْهَـلُ
إذا ليلةٌ ضــافتـك بِالسُّقْمِ لم أَبِتْ... لــــسقْـــــمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَـلُ
كَأَنِّي أنا المطروقُ دونك بالذي... طُـــرِقْتَ به دوني فعيناي تَهْمُلُ
تخافُ الردَى نفسي عليك وإنها... لَتعلمُ أن المــوت وقـــتٌ مؤجَّلُ
فلما بَلَغْتَ السن والغــــاية التي... إليــــها مدى ما فيك كنتُ أؤملُ
جعلتَ جزائي غلظةً وفظـــاظةً... كأنــــك أنت المنعمُ المتـــفضِّلُ
فليتَك إذ لم ترع حق أُبُــــــوَّتي... فعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفـعلُ
تراه مُعَدًّا للخلافِ كــــــــــــأنهُ... بِرَدٍّ على أهل الصواب مُوَكَّــلُ

قال: فحينئذ أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلابيب ابنه، وقال: "أنت ومالك لأبيك".

هذا الموقفُ يذكرُ برَّ الوالدين ويؤكدُ عليه، كما أوجبه الإسلامُ جزاء جهدهما في تربية أولادهما، كما قال -تعالى-: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

فلما كان الوالدان يتحملان في رعاية أولادهما من الأعباء والتبعات الشيء الكثير والثقيل، لا يشبعان من طعامٍ إلا إذا شبِعَ الولدُ، ذكرًا كان أم أنثى، ولا ينامان إلا إذا نام، ولا يشعران براحةٍ وشيءٍ يؤرقه؛ ولهذا أوجب الإسلامُ حقهما على أولادهما بصورةٍ لم تَرَ الدنيا مثلها، حيث جعل اللهُ الوالدين في البر قرينين لأعظم حقوقه على الخلق، فقال -سبحانه-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).

ونهى عن إيذائهما ولو بأقصر كلمةٍ (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، وأمر بأداء الحقِّ لهما، ولو كانا كافرين داعيين إلى الكفر، فقال -سبحانه- (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).

وجعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خدمتهما في مقام الجهاد في سبيل الله -وهو أفضل الأعمال-، وذلك حين كان يحشدُ الجيش للجهاد في غزوةٍ من الغزوات، فسأل رجلًا من المجاهدين: "أحيٌّ والداك؟" قال: نعم، قال: "ارجع، ففيهما فجاهد".

وحينما بخل هذا الرجل بماله على أبيه قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنت ومالك لأبيك".

ومن هذا الموقف -موقف الشيخ مع ابنه- نستفيدُ أيضًا العدل في القضاء، فلا يكون قضاءٌ ولا حكمٌ إلا بعد معرفة أقوال وحجج جميع الأطراف المتنازعة، وألا يتأثر القاضي بسبقِ الشكوَى، ولا ببكاءِ وذلِّ الشاكِي، فلقد جاء إخوةُ يوسفَ أباهم عشاءً يبكون (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).

وبادرت امرأةُ العزيز بالشكوى وهي من الخاطئين (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

فكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حسَنَ القضاء حين أعطى للولد فرصةً ليقدِّم مظلمته، ولم يجبه إليها حتى سمعَ من أبيه المشكُو، ثم قضى بالحقّ للمظلوم على الظالم.

وفي هذا الموقف متمسَّكٌ يتعلقُ به كثيرٌ من الآباء ليأكلوا أموال أولادهم بالباطل، بل ليصادروا على آرائهم ويمنعُوهم حقوقهم في كثيرٍ من قضايا الحياة، فيقولون: لقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أنت ومالك لأبيك"، فالولدُ وما ملكَت يداه لأبيه، فيأخذ ماله وإن كان غنيًّا، ويمنعه رأيه وإن كان عاقلًا ذكيًّا، ولاسيَّما في أمر الزواج؛ فيجبر الوالدُ ابنَه وابنتَه على زيجةٍ معينةٍ تفرضُها العاداتُ والتقاليدُ، وهذا غيرُ صحيحٍ، فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبطل نكاحَ البنت بغير أذنها، كما منعها أن تزوج نفسها من دون إذن وليها، وهذا من وسطية الإسلام.

كما أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال للرجل: "أنت ومالك لأبيك" هذه واقعةٌ لها مُلابَساتُها، ولا مانع أن يحكم بالحكم نفسه في القضية التي تماثلها، ولكن لم يقل -صلى الله عليه وسلم-: (الولد وماله لأبيه) فلو قال ذلك لكانت عامَّةً في كل الأحوال والأموال.

فلنعلم أنَّ لكلٍ حقًا، ولنعط لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه.