• مواقف إسلامية
1ـ جود الأنصار.
2ـ الإنفاق من أحب المال.
3ـ التلطف في الدعوة.
4ـ "أنت ومالك لأبيك".


1ـ جود الأنصار*
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد...
فحينما آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، قالت الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اقسم بيننا وبين إخواننا ما عندنا من أشجار النخيل، فرفض المهاجرون وتعفّفوا، فقال الأنصار: إذًا تكفونا مؤنة العمل في النخيل، ونشترك في الثمرة، فوافق المهاجرون وقالوا: سمعنا وأطعنا.

الأنصار هم المسلمون من أهل المدينة، والله -تعالى- سمّاهم بهذا الاسم الشريف، كما روى الإمام البخاري -رحمه الله- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه سُئل: أرأيت اسم الأنصار،  كنتم تُسَمَّون به، أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله -عز وجل-.

وذلك لأنهم نصروا الله ورسوله، وحمَلوا دينه، ورفعوا رايته، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شِعبًا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرَأً من الأنصار".

كما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حبَّ الأنصار من الإيمان، وبُغضهم من النفاق.

روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمنٌ، ولا يَبغَضُهم إلا منافقٌ، فمن أحبّهم أحبّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله".

وكان الأنصار أهل فضل، وأصحاب فضيلة، كانوا في جاهليتهم أهل صدقٍ لا يَكذبون، وأهل جُودٍ وكرمٍ لا يبخلون، ثم أسلموا فزادهم الإسلام شرفًا وكرامةً، فكانوا مميَّزين بالإيواء  والنصرة للإسلام والمسلمين، كما كانوا أهل سماعٍ وطاعةٍ لأحكام وشعائر الدين، وصدق فيهم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقُهوا".

وَجودُ الأنصار وسخاء أنفسهم بما في أيديهم خُلُقٌ كريمٌ، ازدانت به حياتهم، وعلَت به أقدارهم، والموقف الذي نتأمله في هذه الحلقة لسانُ صدقٍ، ليُصوِّر كرم الأنصار وسخاءهم، بصورة قد يراها أهل العصور المادية ممن يحبون المال حبًّا جمًّا؛ نوعًا من الخيال، أو حالةً من عدم الاهتمام وإلقاء البال.

حينما نتخيل ذلك الموقف الجامع، وفيه حشدُ المهاجرين الذين تركوا أموالهم في مكة مهاجرين إلى الله ورسوله، وحشدُ الأنصار الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم للإسلام، وبسطوا أموالهم للمسلمين المهاجرين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف قائمٌ فيهم بنبوته وحكمته، يؤاخي بين كل مهاجرٍ وأنصاريٍ أُخوةً لم تنبت في رَحِم أمٍ، ولم تختلط بفرْثٍ ولا دمٍ، إنما هي أخوةٌ قامت على الإيمان، وتعاونت على تحقيق الإسلام، فكانت ثمارها طيبة، ونتائجها حميدة.

بذل الأنصار أموالهم لإخوانهم المهاجرين، كما يتقاسم الناس أموالهم بأخوة النسب وأفضل، فقالوا للرسول -صلى الله عليه وسلم-: قسّم بيننا وبين إخواننا هذا النخيل، مع أنه ليس أحدٌ من المهاجرين غرَسَ من هذا النخيل نخلةً، ولا أصلح لها تربةً، ولم يبذل أحدهم ثمنًا لتلك السلعة.

وفي مقابل هذا الجُود الكريم يتوازن هذا الموقف الجليل بعفة نفوس المهاجرين، وقناعتهم بغنى النفس عن غنى اليد، حيث أبَوا هذا المكسب السهل، وهذه الثروة السريعة لأنهم لم يبذلوا جُهدًا، ولم يقدموا لها عملًا، فرفضوا مقاسمة الأنصار نخيلهم دون مقابل، ولا غرابة في هذا الموقف من المهاجرين، فهم في جاهليتهم عربٌ كرامٌ، كانوا يتسابقون ويتنافسون في إطعام وسقاية حجاج بيت الله الحرام.

وبقيت النفوس سخيةً بعد الإسلام، فجادت بالنفس والنفيس يوم الهجرة ومِن قبلِها، فلم يلتفت مهاجرٌ وراءَه إلى داره أو ماله أو تجارته التي خلّفها وراءه بمكة، وإنما اتجهت القلوب والعيون إلى صحبةِ خيرِ من رأت العيون -صلى الله عليه وسلم-، ورغم فقرهم وحاجتهم في هذا الموقف الذي نتابع أحداثه، فإنهم لم تشحّ نفوسهم، ولم تنظر إلى ما في أيدي إخوانهم من الأنصار، بل كانوا أقوياء أشداء أمام بريق المال وفتنته.

والإنسان قد يجود فخرًا ورياءً، أو يجود مجاملةً وحياءً، فهذا الجود أجوفُ لا قلب له، أجذمُ وأقطعُ لا أصل له، أما الجود الصادق فإنه ثابتٌ على أصله، يتمثل في إصرار الأنصار على إكرام إخوانهم المهاجرين، فيُقدمون لهم عرضًا آخر يدل على أنهم أدركوا ما جعل المهاجرين يرفضون اقتسام النخيل، فقال الأنصار: نجعلها شَرِكة؛ نحن بالشجر، وأنتم بالعمل في خدمة إصلاح هذا الشجر، والثمَرُ بيننا مناصفة، فقَبِلَ المهاجرون هذا العرض، حيث جُعِلَ لهم نصيبٌ من العمل، في مقابل ما جُعِلَ لهم من نصيبٍ في الثمر.

وفي ذلك دعوةٌ إلى استعلاء النفس عن الدنيا، وترَفُّعها عن المال، وفيه تتبيهٌ إلى فضيلة العمل، والكسب من عمل اليد، وعدم استعجال الثروة وافتعال الثراء.