4ـ غراب ابني آدم*
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد...
فإن في هذه القصة العظيمة درسًا عجيبًا، تُلَوِّح معالمه في قول الله -تعالى-: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

عند قراءة أو سماع هذه الآية تتمثل صورة قابيل في وجهٍ عابسٍ متقطبٍ  من الشعور بالخسران بعد ما قتل أخاه، كما تُلَوِّح على وجهه علامات الحيرة والدهشة من عدم معرفته كيف يواري سوأة أخيه وتلك الفعلة السيئة؟ وكيف يداري هذه الجثة الهامدة -جثة أخيه هابيل-؟ وكأن قابيل بعد ما قتلَ أخاه وقف حيرانَ، يتلفت حوله على حيلةٍ يتخلص بها من جسم جريمته حتى لا يُعاقَب بها أو يعاتب عليها.

وبينما هو كذلك إذ بعث الله غرابًا يكرر ما فعل قابيلُ بأخيه، ولكنّ الغراب القاتل عرف كيف يواري سوأة الغراب المقتول، فراح يبحث في الأرض بأدواته الضعيفة، راح يحفر في الأرض حفرةً بمخالبه ومنقاره، فلما رأى قابيلُ هذا الغراب وما صنعه، ندم وتحسّر، لا على قتل أخيه، ولا على ارتكابه هذه الجناية البشعة في حق الناس جميعًا، ولكن ندم وتحسر على أنه لم يعرف ما عرفه الغراب، فقام يدعو بالويل والهلاك، وكأنه يَعَضُّ على يديه من الندم، ويطرق في الأرض برأسه ويقول: (يَا وَيْلَتَى)، أي: كيف أعجز عن معرفة ما عرفه الغراب؟ كيف لم أفطن لما فطن له الغراب؟ يا ويلتى، لم أبلغ أن أكون مثل الغراب، بل أنا أقل وأحقر.

ولنا هنا وقفاتٌ...
إن تصوُّر الإنسان عن الخلق من حوله يقسم المخلوقات في الأرض إلى قسمين: قسمٍ يعقل، وهو الإنس والجنّ -إن اعترف الإنسان بوجود الجن-، وقسمٍ آخر لا يعقل، وهو ما عدا ذلك من حيوانٍ وطيرٍ وجماداتٍ.

وموقف الغراب في هذه القصة ينقض هذا التصور الإنساني القاصر، فهذه المخلوقات لها من قوة الإدراك والتمييز ما تقوم به حياتها، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

ويؤكد ذلك أن الإنسان كثيرًا ما يمر بأمم من النمل فلا يسمع لها صوتًا، ولا يفهم من أمرها شيئًا، ولكن حينما كشف الله الحجاب عنها لنبيه سليمان بن داود -عليهما السلام- سمع صوتها، وفهم كلامها، وذلك حين جُمعت لسليمان جنوده، فخرج فيهم، رأتهم نملة فخافت وحذِرت لنفسها، وحذّرت أخواتها، وقالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).

فالنملة مدركةٌ أن الإنسان لو وطيء أمةً من النمل بقدمه وداسها فلن يشعر بها، وعلمت أن الحذر من الخطر مطلوبٌ.

وأيضًا يمر الإنسان كثيرًا بأنواع الطير وأشكالها، وربما سمع لها صوتًا، إلا أنه -وهو العاقل- لا يعقل من أمرها شيئًا حتى علَّم الله ذلك لسليمان، ورفع ذلك الإبهام، فشكر الله (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

وكان من ذلك أن كلَّمَه الهدهد وفَهِمَ عنه مراده من قوله: (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ).

وهكذا أُبهِمت علينا أمور هذه المخلوقات، ولهذا سُميت بهائم لأن أحوالَها مبهمةٌ علينا، غير معلومة لدينا، ومع ذلك جعل الله من الغراب البهيم معلِّمًا للإنسان العاقل، فعلّمه كيف يكرم أخاه الإنسان إذا مات، علّمه علم الدفن في القبر، وهذا يدل على أن معارف الإنسانية العقلية قاصرةٌ ويعتريها الجهل والضلال، حتى إن ابن آدم الأول حارَ في جثة أخيه ولم يدر ماذا يفعل بها؟ حتى علمه الله من فضله، ووبّخه على سوء صنيعه وفعله، ولذلك علّمه على يد غرابٍ، ذلك الطائر المستهجن المستوحش غير المستأنس، بل إن عامة الناس يتشاءمون منه -وإن كان التشاؤم أمرًا غير مشروع-، ففي هذا تحضيرٌ للإنسان، وحطٌ من شأنه حين يتبع عقله من دون شرع ربه.

ويظهر من قول الله -تعالى-: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا) أن مجيء الغراب أمرٌ مقصودٌ، لم يكن عفويًا ولا عشوائيًا، وإنما رتّبه الله وقدّره، فلم يأت الغراب من نفسه، ولم تأت به الصدفة، ولكن بعثه الله لغايةٍ محددةٍ في قوله -تعالى-: (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ)، وبهذا تعلّم ابن آدم مسألة دفن الأموات في القبور إكرامًا للنفس الإنسانية حتى بعد موتها، وفي هذا تنبيهٌ إلى أن الله -تعالى- مصدرُ كل معرفة، وأن كل ما عرفه ويعرفه الخلق إنما هو من فضل علم الله الذي علّم آدمَ الأسماء كلها، وهو (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).