زهده -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:
•    وليس زهده -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- كأي زهد؛ وإنما هو زهد من لو أراد جبال الدنيا أن تكون له ذهبًا وفضة لكانت... زهد من عرضت عليه الدنيا، وتزيَّنت له، وأقبلت إليه؛ فقال: "ما لي وللدُّنيا، إنَّما مثلي ومثل الدُّنيا كمثل راكبٍ قال في ظلِّ شجرةٍ في يومٍ صائفٍ ثمَّ راح وتركها" (104).

•    فلم يكن زهده -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من عوزٍ وحاجة؛ بل كان زهدًا مختارًا، فإذا جاءه المال الكثير من الغنيمة أو الفيء؛ أنفقه كلَّه، ولم يبق لنفسه منه شيئًا؛ إيثارًا لما عند الله، وزهدًا في الدنيا ومتاعها.

•    ويقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "يا أيُّها النَّاس، إنَّه لا يحلُّ لي مَّما أفاء الله عليكم، قدر هذه -وأشار إلى وبرةٍ من جنب بعيرٍ- إلَّا الخمس، والخمس مردوٌد عليكم" (105).

•    ولمَّا جاءه مال البحرين، قال: "انثروه في المسجد" فما قام رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وثمَّ منها درهمٌ (106).

•    فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أزهد الناس في الدنيا، وأرغبهم في الآخرة، خيَّره الله تعالى، بين أن يكون ملكًا نبيًا أو يكون عبدًا رسولاً؛ فاختار أن يكون عبدًا رسولًا (107).

•    وكان الزهد شعاره -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في كلِّ شئونه؛ في مسكنه، وفي فراشه، وفي ملبسه، وفي طعامه وشرابه.

•    أمَّا مسكنه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فكان بيته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من طين، متقارب الأطراف، داني السقف.

يقول الحسن البصري -رحمه الله-: كنت أدخل بيوت أزواج النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سقفها بيدي (108).

وقال عطاء الخراساني -رحمه الله-، وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حُجَرِ أزواج رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من جريد النخل، على أبوابها المُسُوحُ من شَعْرٍ أسْوَدٍ (109).

•    وأمَّا فراشه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فكان ينام على الحصير، ليس تحته شيء غيره، فيؤثر في جنبه الشريف، حتى يبكي سيِّدنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، تأثرًا على حال رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- (110).

•    يقول أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: دخلت على رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وهو على سريرٍ، مضطجعٌ، مرملٌ بشريطٍ، وتحت رأسه وسادةٌ من أدمٍ حشوها ليفٌ.

فدخل عليه نفرٌ من أصحابه، ودخل عمر، فانحرف رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- انحرافة ًفلم ير عمر بين جنبه وبين الشَّريط ثوبًا، وقد أثَّر الشَّريط بجنب رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فبكى عمر.

فقال له النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ما يبكيك يا عمر؟" قال: والله إلَّا أن أكون أعلم أنَّك أكرم على الله عزَّ وجلَّ من كسرى وقيصر، وهما يعبثان في الدنيا فيما يعبثان فيه، وأنت يا رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بالمكان الَّذي أرى! فقال النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ما ترضى أن تكون لهم الدُّنيا ولنا الآخرة؟" قال عمر: بلى. قال: "فإنَّه كذاك" (111).

•    ويقول أنسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ما علمت النَّبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أكل على سكرجةٍ قطُّ، ولا خبز له مرقَّقٌ قطُّ، ولا أكل على خوانٍ قطَّ (112).

•    وأمَّا ملبسه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فكان ربما لبس إزارًا ورداءً فحسب؛ فعن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساءً مُلَبَّدًا وإزَارًا غليظًا؛ فقالت: "قُبِضَ روح رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في هذين" (113).

•    وأمَّا طعامه وشرابه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فكان من زهده -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وقلة ما بيده؛ أن النار لا توقد في بيته في الثلاثة أهلة في شهرين؛ فعن عروة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: عن عائشة -رضي الله عنها-، أنها كانت تقول: "والله يا ابن أختي، إن كنَّا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلَّةٍ في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- نارٌ. فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التَّمر والماء" (114).

•    وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يبيت اللَّيالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشَّعير" (115).

•    وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يربط على بطنه الحجر من الغرث (116).

•    وخطب النعمان بن بشير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وهو يذكر حال النبي عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم؛ فقال: ذكر عمر ما أصاب النَّاس من الدُّنيا؛ فقال: "لقد رأيت نبيَّكم -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وما يجد من الدَّقل ما يملأ به بطنه" (117).

•    ويا له من موقف عجيب؛ أن تخلو بيوت سيد الخلق -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- كلُّها حتى من هذا الدَّقل!! حتى يعجز -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عن أن يضيف رجلاً جائعًا قصده؛ فيدفعه لمن يضيفه!!

•    فعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: "جاء رجلٌ إلى رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فقال: إنِّي مجهودٌ. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والَّذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ. ثمَّ أرسل إلى الأخرى، فقالت مثل ذلك. حتَّى قلن كلُّهن مثل ذلك:  لا والَّذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ. فقال: "من يضيف هذا اللَّيلة -رحمه الله-؟" فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله..." (118)!!.

تخلو بيوت رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- كلُّها من كلِّ شيء إلا من الماء!! أي زهد هذا؟!!

•    فكيف إذا لم يجد فيها رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- نفسه، ما يسدُّ به جوعه؛ فيخرج من بيته علَّه يجد ما يسدُّ جوعه؟!

فعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: خرج رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ذات يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكرٍ وعمر، فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه السَّاعة؟" قالا: الجوع يا رسول الله. قال: "وأنا والَّذي نفسي بيده، لأخرجني الَّذي أخرجكما..." (119).

•    وأمَّا مدخراته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فما ترك -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عند موته درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمَةً ولا شيئًا، إلَّا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقةً (120).

•    وقد رهن درعه في ثلاثين صاعًا من شعير عند يهوديٍّ، فمات رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ودرعه مرهونةٌ عنده. (121).

وصدق الله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
***