أمَانَتَهُ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:
•    وهو بحقٍّ أمين أمناء الأرض، وإذا عددنا مواقفه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في خلق الأمانة فقط لسطَّرنا صحائف.

•    وصفه الأمانة كانت من الصفات الملازمة لأخلاق الحبيب المصطفى -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قبل بعثته ومنذ نعومة أظافره، فكان يلقَّب بين قومه وعشيرته الأمين، وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين؛ فيقولون: جاء الأمين وذهب الأمين (39).

•    وفي قصة بناء الكعبة؛ عندما تحاكم رجال قريش فيمن يضع الحجر الأسود فقالوا: "اجعلوا بينكم حكمًا.

•    قالوا: أول رجل يطلع من الفجِّ، فجاء النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فقالوا: أتاكم الأمين" (40).

•    وقد التصقت به -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- هذه الصفة الحميدة؛ لأنه كان مثالاً كاملاً ورائعًا وفذًا لأداء الأمانة وأداء الحقوق لأربابها، في زمن ووقت عزَّ من تجد فيه مثل هذا الخلق الرفيع؛ لانتشار جميع أنواع الموبقات وسط هذا التجمع الجاهلي.

بل لقد دفعتهم تلك الثقة المطلقة بأمانته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلى حفظ أموالهم ونفائس مدَّخراتهم لتكون وديعة عنده؛ فلم يكن بمكة أحَدٌ عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لثقته بصدقه وأمانته.

•    والعجيب أن هذه الثقة ظلَّت على حالها؛ ولم يختلجهم أدنى شك في أمانته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حتى بعد معاداتهم له بسبب دعوته لهم ليؤمنوا بالله وحده!! ويالها من أمانة ما أروعها وخلق ما أعظمه!!

يجتهدون لقتله، ويجتهد هو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لرد ودائعهم وأماناتهم التي عنده في نفس اللحظة!! فيترك علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في مكة بعد هجرته ليرد ودائع الناس التي كانت عنده (41).

•    ولا عجب إذن أن يشهد له -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بالأمانة أعداؤه قبل أصحابه!!

فهذا أبو سفيان زعيم مكة لما وقف قبل إسلامه أمام هرقل -وهو الحريص على أن يغمطه حقَّه، ويطعن فيه، بدافع العداء له حينذاك- لم يستطع أن يخفي هذا الخلق العظيم، لما سأله هرقل عما يأمر به النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فأجابه أبو سفيان بأنه يأمر بالصَّلاة والصِّدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة (42).

•    ويقول جعفر بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، في قصته مع النجاشي ملك الحبشة، وذلك حين سأله عن الدين الذي اعتنقوه؛ فكان من إجابته له قوله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "...حتَّى بعث اللهُ إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه..." (43).

هكذا كان النبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- معروفًا بالأمانة لدى الناس كافَّة، ممن عرفه أو سمع عنه؛ عدوًا كان أم صديقًا.

ولا غرو أن يكون -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بتلك المثابة من خلق الأمانة؛ فهو أمين الله على وحيه؛ فأداه كأكمل ما يكون الأداء -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.

•    ولا غرو أيضًا أن نجد الاهتمام البالغ منه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- والحث على الأمانة، والتأكيد عليها بجميع صورها وأشكالها، بل ويربطها بالإيمان.

•    فيقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لا إيمان لِمَنْ لا أمانة له، ولا دين لِمَنْ لا عهد له" (44).

•    ولم يكتف -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بعموم ترغيبه في الأمانة وحثه عليها؛ بل لقد نص على الأمانة في مواضع أخرى متفرقة، تدعو إلى الحاجة إلى الاعتناء بها، والتأكيد عليها.

•    فيؤكد على الأمانة في تولية أمور المسلمين تأكيدًا عظيمًا؛ ويؤكد خطورة التهاون فيها وعظيم إثمه.

•    فيقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيَّةً، يموت يوم يموت، وهو غاشٌّ لرعيَّته، إلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجنَّة" (45).

•    ويقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- محذرًا من يتشوف إليها، ولا يؤدي حق هذه الأمانة: "إنَّها أمانةٌ، وإنَّها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ، إلَّا من أخذها بحقِّها، وأدَّى الَّذي عليه فيها" (46).

•    ويقول أيضًا -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "من استعملناه منكم على عملٍ، فكتمنا مخيطًا فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة" (47).

•    فالأمانة عند الأمين -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في ولايات المسلمين العامة والخاصة؛ لها شأن عظيم.

•    وللأمانة عنده -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في الأموال شأن عجيب أيضًا، لا تعرف له البشرية نظيرًا؛ فيقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" (48).

يا له من خلقٍ لا يكون إلا من الأمين -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-!! إن الأمانة عنده ليست معاوضة؛ تُعطَى لمن يلتزم بمثلها؛ كلا إنها خلق ذاتي لا يقبل المساومة!!

•    وللأمانة عند الأمين -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مجالات رحبة وصور عديدة، لا يفطن لها الكثيرون، الذين يظنونها قاصرة على الأمانة في الأموال وحسب.

•    ومن ذلك الأمانة مع الزوج والزوجة؛ فيقول الأمين -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إنَّ من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرَّجل يُفْضِي إلى امرأته وتُفْضِي إليه؛ ثمَّ ينشر سرَّها" (49).

•    ومن ذلك أمانة المجالس والحديث فيها؛ فيقول الأمين -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إذا حدَّث الرَّجل الحديث ثمَّ التفت فهي أمانةٌ" (50).

•    ومن ذلك أمانة النصح والاستشارة؛ فيقول الأمين -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "المستشار مؤتمنٌ" (51)؛ أي يجب عليه إبداء المشورة الصحيحة حسب ما يرى، وإلا كان مفرطًا في الأمانة خائنًا!!.

•    وكل ذلك وغيره كثير يدل على كمال أمانته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وأنه بحق أمين الله على وحيه؛ فإنه لا يعرف الخيانة أبدًا؛ ليس فقط في لفظاته؛ بل وحتى في لحظاته وإشاراته!!

وهو الذي يقول -لَمَّا قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!-: "إنَّه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكون له خائنة أعينٍ" (52).

•    فليت شعري!! أين محبوه الصادقون من مثل هذا الخلق العظيم، الذي يكاد يكون قد اندثر في واقع المسلمين اليوم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الأمين -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وهو يحدث عن رفع الأمانة؟!! فيقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ينام الرَّجل النَّومة فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل ُّأثرها من أثر الوكت، ثمَّ ينام النَّومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل؛ كجمرٍ دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيءٌ، فيصبح النَّاس يتبايعون فلا يكاد أحدٌ يؤدِّي الأمانة؛ فيقال: إنَّ في بني فلانٍ رجلًا أمينًا!!..." (53).

وصدق الله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
***