أخلاق أعظم إنسان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:
•    كان النبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أحسنَ الناس خُلقًا وأكرمهم وأتقاهم، وقد شهد له بذلك ربه جلَّ وعلا وكفى بها فضلاً، قال تعالى مادحًا وواصفًا خُلق نبيِّه الكريم -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4).

•    يقول خادمه أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كان النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أحسن الناس خُلُقًا" (23).

•    وتقول زوجه صفية بنت حيي -رضي الله عنها-: "ما رأيت أحسن خُلقًا من رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-" (24).

•    وقالت عائشة لَمَّا سُئِلَتْ -رضي الله عنها-، عن خُلُقِ النَّبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، قالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ" (25).

فهذه الكلمة العظيمة من عائشة -رضي الله عنها-، ترشدنا إلى أن أخلاقه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- هي إتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهٍ، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم، وأثنى على أهلها، والبعد عن كل خلق ذمَّه القرآن.

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "ومعنى هذا أنه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجيةً له وخلقًا... فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خُلقٍ جميل" (26).

•    وقد جاءت صفاته وخصاله الكريمة -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في كتب أهل الكتاب نفسها قبل تحريفها؛ فعن عطاء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: قلت لعبد الله بن عمرو: أخبرني عن صفة رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في التوراة.

•    قال: "أجل، والله إنَّه لموصوفٌ في التَّوراة ببعض صفته في القرآن؛ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) وحرزًا للأمِّيِّين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا سخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسَّيِّئة السَّيِّئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتَّى يقيم به الملَّة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إله إلَّا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا" (27).

وصدق الله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4).

فإلى هذه الروضة الفيحاء، والجنة الغنَّاء، نتنسم عبيرها، وننهل من معينها.
***
أدبه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مع ربه عز وجل:
•    وقد بلغ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في أدبه مع ربِّه ذروة سنامه، وحقَّق غاية كماله، بحسن صُحبته مع ربِّه عزَّ وجلَّ؛ بإيقاع جميع حركاته الظاهرة والباطنة على مُقتضى تعظيمه وإجلاله والحياء منه سبحانه؛ فصان معاملته ربِّه أن يشوبها بنقيصةٍ، وصان قلبه أن يلتفت إلى غيره، وإرادته أن تتعلق بغير مراده.

•    ولم يجاوز -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ببصره ولا ببصيرته شيئًا لم يأذن ربُّه به؛ قال تعالى في وصف حاله؛ عند ارتقائه الدرجات العلى، في رحلة المعراج: (مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى?). (النجم: 17).

وزيغ البصر: التفاته جانبًا، وطغيانه: مدُّه أمامه إلى حيث ينتهي.

وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.

فنفى ربُّه عز وجل عنه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ما يعرض للرائي الذي لا أدب له، بين يدي الملوك والعظماء؛ من التفاته يمينًا وشمالاً، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبًا، ولم يمدَّ بصره إلى غير ما أري من الآيات، وما هناك من العجائب؛ بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما رأى، دون التفاته إلى غيره، ودون تطلُّعه إلى ما لم يره، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته (28).

وهذا غاية الكمال والأدب مع الله، الذي لا يلحقه فيه سواه؛ فإنَّ عادة النُّفوس إذا أقيمت في مقامٍ عال رفيعٍ؛ أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه (29).

•    وبلغ من أدبه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مع ربه عزَّ وجلَّ؛ وشدة حيائه منه وإجلاله له؛ أنه ربما ترك سؤال ربِّه الشيء مع حاجته إليه، وحرصه عليه؛ ومن ذلك ما كان منه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في ليلة المعراج، في قصة مراجعته ربَّه عزَّ وجلَّ؛ ليسأله التخفيف على أمته، من الصلاة المفروضة؛ فلما أكثر التردد على الله يسأله التخفيف، قال لموسى -عليه السَّلام- عندما ألحَّ عليه ليراجع ربَّه-: "استحييت من ربِّي" (30).

وما حمله على الاستحياء إلا بالغ أدبه وحيائه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من ربِّه عزَّ وجلَّ، وإجلاله له.

•    ومن تمام وكمال أدبه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مع ربه عز وجل؛ قيامه بمقتضى العبودية، أكمل قيام وأتمه؛ فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أعبد الناس لربه عزَّ وجلَّ، وأكثرهم خشية ًمنه، وأشدَّهم ذكرًا له؛ لا يدع وقتًا يمر بدون ذكر الله عزَّ وجلَّ وحمده وشكره والاستغفار والإنابة (31)، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

•    ودفعه هذا الأدب وذلك الحياء؛ لأن يقوم الليل حتى تفطَّرت قدماه، ويسجد فيدعو، ويسبِّح ويدعو، ويثني على الله تبارك وتعالى، ويخشع لله عزَّ وجلَّ؛ حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل؛ من البكاء (32).

فلما قالت له عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال: "يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟" (33).

إنَّ كمال الأدب يجعل الحييَّ الشكور -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يستحي أن ينام عن شكر مولاه عزَّ وجلَّ، مع عظيم فضله وإحسانه!!

وهذا كلُّه من كريم أخلاقه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فإن من تمام كريم الأخلاق؛ أن يتأدب العبد مع ربِّه المنعم الوهَّاب.

وصدق الله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
***