(19) زيارتي لجناب المسيو بيشون:
تَوَجَّهْتُ في يوم إلى دار السفارة الفرنسوية لمقابلة جناب المسيو بيشون سفير فرنسا في تونس سابقًا ووزير خارجية فرنسا حالًا، فقابلني جنابه مقابلة حسنة أعْرَبَ فيها عن أدبه، وكرم أخلاقه، وتهذيب نفسه.

وبعد التعارُف وتبادُل عبارات التحيَّة والترحيب دار بنا الحديث الآتي:
– إنني حينما وفَدْتُ إلى تونس رغبتُ في زيارة سموِّ الباي بصفتي مسلمًا وهو أميرٌ مُسلمٌ، ولَمَّا توجَّهتُ إلى سراي سموِّه قابلني أحَدُ المُعاينين، ولَمَّا عرضتُ عليه أمرَ التشرُّفِ بمقابلة سيدهِ أخبرني بأنه لا يجوزُ لأحَدٍ من غير التونسيين أنْ يزور سموَّه إلَّا بعد إخطار “الحكومة” والتصريح منها إلى الوزارة لأجل أنْ تُعَيِّنَ وقتًا للزِّيارَةِ وحين أنْ سمعتُ منه ذلك قد أتيتُ وتشرَّفتُ بمقابلة جنابكم لهذا الغرض.

– نعم، إنَّ ما قاله لك أحَدُ المعاينين هو الواقع، وإن للحكومة العُذر في مراقبتها وتخوُّفها من الأغراب الذين يفدون إلى تونس، لا سيما الذين يريدون زيارة الباي لأسباب سياسية، وذلك أنه يفِدُ أناس إلى تونس بصفتهم سائحين، وفي الحقيقة جواسيس ينقِّبُونَ عن أسرار داخلية الحكومة فيبلغونها إلى حكوماتهم أو الأحزاب المنتمين إليها، ولا يخفى ما يكون من نتائج هذا التجسُّسِ وجرَّاءَ هذه السياسة.

وقد حدث في شهر مايو سنة 1904 أن أحَدَ الألمان جاء إلى تونس وطلب مقابلة سموَّ الباي السابق المغفور له محمد باشا الهادي، فَصُرِّحَ لهُ وعُيِّنَ اليوم الذي تكون فيه المقابلة، ولَمَّا قابل سموَّه أراد أن يطرق أبواب السياسة وتطرَّق إلى الحديث في مواضع لا داعي لذكرها في الوقت الذي كان فيه، فلَمَّا رأى سمو الباي أنه خرج عن دائرة الغرض الذي قابله لأجله أشار بانتهاء قطع الكلام، وكان الألماني قد مكث بحضرته عشر دقائق، مع أن الوقت الذي عُيِّن له أزيد من ذلك، ولَمَّا علمت الوزارة بذلك ارتابت في أمر هذا الألماني وبالبحث وُجِد أنه جاسوس جاء من جهة ألمانيا لاكتشاف أحوال السياسة الفرنسوية في تونس.

وكأنني بك تعترض وتقول: لا حظَّ لألمانيا في وجود جواسيس لها في هذا القطر ما دام لفرنسا فيه حق الحماية، فأقول لك: إن ألمانيا لداعي صداقتها مع الدولة العلية تريد أن تقدِّم لها خدمة بمثل هذه الأفعال، مُوهِمَة أنها بذلك تسعى في إعادة تونس إلى حكم الدولة العثُمَّانية لتزيد الرابطة بين تركيا وبينها، وإذا كنا نراقب مثل ألمانيا لصداقتها لتركيا فكيف لا نراقب المصريين التابعين للدولة العلية لا سيما مِمَّنْ يحترفون بحرفة الصحافة منهم؟

– إن لي ملاحظة على كلام جنابكم، وهي أن الدولة العلية إذا كانت تريد أن تبعث لها جواسيس في الإيالة التونسية، فليست في احتياج إلى أن تتخذهم من الألمان؛ لأن لديها من الجواسيس أكثر من كُلِّ الدول، وهم من الأمناء الصادقين في خدمتها العارفين بضروب السياسة وفنون التجسُّس فهي أبرع من ألمانيا وغيرها في هذا الباب.

أمَّا الرجل الألماني الذي تقولون إنه حضر ليطَّلع على سياسة فرنسا فما هو إلَّا آتٍ من قِبَلِ دولته لِدَسِّ الدَّسائس، وتنفير قلوب الأهالي من فرنسا، وما بين ألمانيا وفرنسا من العداوة التي تأسَّسَتْ منذ الحرب السبعينية أكبر دليل على هذه الدعوى.

وأمَّا قول جنابكم إنكم تراقبون المصريين والصحافيين منهم على وجه الخصوص، فإني أؤكد لجنابكم أني مصري عثُمَّاني أرى أن أوَّل واجب عليَّ في حياتي هو خدمة دولتي، وأبناء وطني وديني بكُلِّ ما يمكن من الوسائل، ولو كنت أتَيْتُ إلى تونس لهذا الغرض الذي تشيرون إليه، لكنت أصنع كُلَّ الوسائل التي بها يخفى على الحكومة التونسية ما قَدِمْتُ لأجله، وهذا شأن كُلِّ مخبِر.

– الآن لا بأس من وجودك في تونس ولا من مقابلتك لسمو الباي وما عليك إلَّا أن تنتظر اليوم الذي يكون فيه التشرف بالمقابلة.

– إنني شاكرٌ لجنابكم عدولكم عن الفكر الأول، وإني أؤكد لجنابكم أني لم أرغب في زيارة سموِّ الباي إلَّا لكونه أميرًا مسلمًا موصوفًا بمكارم الأخلاق، ولطف السجايا، فأحببتُ أن يُسعِدني الزمن بساعة أقضيها في حضرته السَّنِيَّة للرَّابطة الدِّينيَّة التي تربط كُلَّ مسلم بالآخر.

وبما أن الوقت غير كافٍ لأن أنتظر ميعاد المقابلة فقد اكتفيتُ بما يُذَاعُ ويُشَاعُ عن حُسْنِ آداب هذا الأمير العظيم، وجليل سجاياه التي حبَّبته إلى الخاص والعام سواء في ذلك رعاياه التونسيين أو غيرهم.

ثُمَّ استطردنا الحديث إلى ذكر الصحافة ومسائل أخرى، فكان ممَّا حدَّثني به الحديث الآتي: “إنني كنت في بادئ أمري أميل كُلَّ الميل إلى الصحافة، وكنت أكثر مطالعة الجرائد إلى درجة تفوق العادة، ومن شغفي بها كنت أكتب مقالات كثيرة في جريدة “لاجوستيس” التي هي لسان حزب الاشتراكيين، وما زلت كذلك ميَّالًا إلى الصحافة والخطابة في الشئون السياسية إلى سنة 1885 وفي هذه السنة عُيِّنت في وظيفة تتعلق بنهر السين بفرنسا، وبعد مُدَّةٍ عُيِّنْتُ مُعتمدًا سياسيًّا في إحدى جمهوريات أمريكا الجنوبية، وفي سنة 1895 عُيِّنْتُ سفيرًا في بكين عاصمة الصين، وفي هذه المُدَّةِ حدثت حوادث البوكسر، واشتعلت نيران الثورة ضد الأجانب في مملكة ابن السماء، واشتركت الدول في إطفاء نيران هذه الثورة بعد أن أُزهِقت أرواح كثيرين من الأوروبيين، ومَكَثْتُ في بلاد الصين إلى سنة 1901 حيث انْتُدِبْتُ من قِبَلِ دولتي سفيرًا في تونس، وذلك في شهر ديسمبر من هذه السَّنَةِ، وبمجرَّد وصُولي إليها سعيت جهدي في بَثِّ روح الإصلاح في الإدارة وفي كُلِّ ما من شأنه ترقي البلاد، ومن ضمن ما صنعته هو منح الحرية للجرائد والمطبوعات بعد أن كانت أقلامها مغلولة بقيود الضمان، وغير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره الآن، والذي أنا ساعٍ الآن جهدي في إخراجه من حيِّز التفكر إلى دائرة العمل هو منح التونسيين حقَّ النيابة في مجلس الشورى الذي هو الآن خاصٌّ بالفرنسويين، وترقية الزراعة، والصناعة، واتساع دائرة التعليم وما أشبه ذلك من الأعمال النافعة التي يذكرني بها التونسيون الذِّكْرَ الحَسَنَ، والتي تكون لي نقطة بيضاء في تاريخ حياتي الذي قضيته في هذه البلاد.”

فشكرتُ له هذا الشعور وهذه العواطف الشريفة، وبعد ذلك شرحتُ له ما يلاقيه التونسيون من ضغط الحكومة وأتيتُ له بشواهد ثابتة على القسوة التي يعاملون بها وأنواع الضيق الذي هم فيه، وقلت حبَّذا لو نظرتم إلى حالة الأهالي الآن بعين الحكمة كما هو المأمول في جنابكم.

فوعدني بالمقابلة مرة أخرى للمحادثة في كُلِّ أمر يخطر بالبال من هذا القبيل، ولكن ظروف الأحوال لم تساعد على المقابلة مرة أخرى.