(17) تعلُّق أهل تونس بالخليفة الأعظم:
إنَّ تعلُّقَ المُسْلِم بعرش الخلافة الإسلامية أمْرٌ طبيعيٌ غَرَسَه الدِّين في قلبه فلا غرابة في ذلك، ولكن الغريب هو التفاني في هذا التعلق إلى درجةٍ يسترخص فيها بذل الروح في سبيل الدفاع عن هذا المقام، وهو ما وصل إليه أهل تونس والجزائر، والسبب في ذلك هو ما يقاسونه من استبداد فرنسا بهم وسوء معاملتهم لهم.

ومن الغريب أن دولة فرنسا تدَّعي أنها أول دولة في العالم تحترم الأديان، ولا تتعرَّضُ لحريتها وهي بخلاف ذلك في هاتين الولايتين.

فلو افترضنا أن التونسيين والجزائريين من المسيحيين وأن الدولة الحاكمة هي الدولة العلية، وأن هذا الاستبداد منسوب إليها أكانت تصبر أوروبا على ذلك أم كانت ترسل الأساطيل والجيوش في سبيل المحافظة على المسيحيين؟ إن جواب هذا السؤال سهل لا يحتاج إلى إيضاح.

والأغرب من هذا كُلِّه أن أوروبا تتهم المُسْلِمين بالتعصب الدِّيني افتراءً منها، فلو كان هناك تَعَصُّبٌ حقيقيٌ لَمَا صبر مسلمو الروسيا، وتونس، والجزائر، والجبل الأسود، وبلاد الجاوا على ما هم فيه من الظلم الفادح والمصائب التي يباشرونها في كُلِّ آن، حتى بلغت الدرجة بالمُسْلِمين في الروسيا أنهم يُكرَهون على التنصر، وفي الجبل الأسود ينتزعون أموالهم من أيديهم، على أن فرنسا لا يبعد في يوم من الأيام ما دامت سائرة على هذا النهج في معاملة أهل تونس والجزائر أن ينقلب ظهر المِجَنِّ عليها في هاتين الولايتين؛ لأن القلوب متى انتقلت من يدها فالأجسام تابعة لها.

ومِمَّا يَدُلُّ على كثرة تعلُّقهم بعرش الخلافة أنهم لم يكتفوا بالدعاء للخليفة الأعظم في يوم الجمعة على المنبر، بل يدعون له في آخر كُلِّ صلاة دعاء مؤثِّرًا يُجري العبرات من العيون، ومن هنا يُعلَم أن أكثر الدول استعمارًا هي الدولة التي تعامل الأمم الخاضعة لها بالرفق واللين وتمنحها من الحرية والاستقلال ما يساعدها على التقدم، والانتظام في سلك الأمم الراقية.

هذه دولة إسبانيا لمَّا أساءت معاملة أهل جزائر الفيلبين وجزيرة كوبا كان ذلك داعيًا لاشتعال نيران الثورة التي عجزت إسبانيا عن إخمادها، وكان من جرَّائها وقوع حرب هائلة بينها وبين الولايات المتحدة، وخسرت بسببها من الرجال والأموال في البر والبحر خسارة كبرى، غير انتزاع هذه الجزائر منها وضمِّها إلى أملاك الولايات المتحدة بعد أن منحتها المجالس النيابية.

وقد دَلَّ التاريخ على أن الدولة التي تستبدُّ في معاملة الأمم الخاضعة لها لابدَّ وأن ينعكس عليها الأمر في يومٍ ما مهما بلغت من العظمة والجاه وقوة السلطان.

وإني لم أعقد هذا الفصل إلَّا رغبةً في أن تعامل فرنسا أهل تونس والجزائر المعاملة التي تحبِّبها إليهم وتعمل على ما فيه رقيهم المادي، والأدبي بنشر العلوم وتقدُّم الصناعة، والزراعة، والتجارة، ومنحهم الاستقلال الذي هو شعار الأمم الحية، وبذلك يمكنها أن تُفاخِر الأمم بهذا اللين؛ إذ معاملة الظلم والقسوة لا يُجْدِيانها نفعًا البتة.