(16) المُعَمِّرُونَ الفرنسويون في تونس:
إذا كان الغربيُّ يُزَاحِمُ الشرقي في كُلِّ مرافق الحياة إمَّا بالتجارة، وإمَّا بتأسيس الشركات وغير ذلك، فمن باب أولى إذا كان لدولته في بلاد الشرق نُفوذ بطريق الحماية أو الاحتلال وهو في هذه الحالة أكثر طمعًا وأشد مزاحمة ومضايقة للشرقي، بل يقف في طريقه فلا يدعه يستثُمَّر ويجني من خيرات بلاده ما يقوم بواجبات حياته، وقد يُلْجِئُهُ في كثير من الأحيان إلى الهجرة من بلاده ومسقط رأسه إلى بلادٍ أخرى، يلتمس فيها أسباب المعاش.

وقد فَعَلَتْ كُلَّ هذا دولة فرنسا في تونس؛ لأنها لَمَّا وضعت عليها حمايتها أخذ الفرنسويون يفِدُون إليها أفواجًا فشغلوا الوظائف وزاحموا التجارة ولكنهم في ذلك لم يبلغوا في مضايقة الأهالي ما بلغوه في مضايقتهم في استغلال الأرض؛ لأنهم يعلمون من هذه الوجهة أن امتلاك الأرض بأبخس الأثُمَّان لتساهل الحكومة لهم في ذلك، حتى إذا كانت الأرض ملكًا للأوقاف وهذا التساهل بمثابة أخذ الأرض هبة بلا ثُمَّن، وبهذه الكيفية أصبح الفلاح التونسي في أشد حالات الضنك، والضيق في المعاش، وإذا استرحم الحكومة فإنها لم تُعره أدنى التفات ولو مات جوعًا على مرأى ومسمع منها، وكانت هذه المعاملة منها لهم داعيةً لمهاجرتهم من بلادهم، وتشتُّتهم في البلاد على أن الأرض الصالحة للزراعة في تونس تقل عن حاجات الأهالي من جهة القوت الضروري.